أفرزت الدعوة إلى التجديد في مضامين الشعر العربي وأشكاله التقليدية/ الكلاسيكية، خلال الحقبة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، شكلين من الشعر؛ تجلّى الأول في قصيدة "التفعيلة" أو الشعر "الحر" أو "الشعر الجديد"... الذي انطلق مع بدر شاكر السياب ونازك الملائكة والبياتي ولميعة عباس وآخرين في العراق. ليتبعهم بقية شعراء العالم العربي أمثال صلاح عبد الصبور ونزار قباني ومحمود درويش وغيرهم.
أمّا الشكل الثاني الذي تأخر قليلاً عن الأول وتزامن نسبياً معه، تجسد في قصيدة "النثر" التي ما يزال السجال حولها قائماً حتى الساعة، بين من يصرّ على تصنيفها شعراً وبين من يراها شكلاً من أشكال الكتابة السردية التي تنضوي تحت تصنيفات الفنون الأدبية الأخرى، من رواية وقصة ومقالة... مشدداً على إخراجها من خانة الشعر شكلاً ومضموناً.
النثر قديماً
ليس المقصود ممّا سبق أن النثر حديث النشأة مطلقاً، بل إنه قديم قِدم الشعر العربي الذي وصلنا من شعراء العصر الجاهلي، وربما سبقه أيضاً. إلا أن ما وصل إلى أيدينا من نصوص النثر الأصلية العائدة إلى ذلك الزمان، قليلة جداً مقارنة بقصائد الشعر العمودي التي نالت القدر الأكبر من الاهتمام والدراسة نظراً لإيقاعها الموسيقي الذي له الأثر الكبير في القدرة على حفظها وتناقلها شفهياً في عصرٍ كاد التدوين فيه أن يكون معدوماً، على عكس النثر الذي يفتقر لذلك الإيقاع. ناهيك عن المكانة التي كان الشاعر يحظى بها داخل المجتمع القبلي مقارنة بـ "الناثر".
والنثر في العصر الجاهلي تمثّل في الدرجة الأولى بفن الخطابة الذي برع به العرب عموماً في ذلك الزمان، بالإضافة إلى الوصايا، والحكم والأمثال، والقصص والرسائل، والسجع الذي كان يردده الكُهّان والمنجّمون، وهلم جرّاً.
ومن الخطباء الذين اشتهروا في ذلك الزمان نذكر: عامر بن الظَّرب العدواني، وقسّ بن ساعدة، وهانئ بن قبيصة الشيباني، والشاعر عمرو بن كلثوم، وأكثم بن صيفي، بالإضافة إلى هاشم بن عبد مناف جدّ النبي محمد عليه الصلاة والسلام.
ونستعرض هنا، كمثال، ما جاء في أحد نصوص الخطب النثرية التي وصلتنا عن هاشم:
"يا معشرَ قريش، أنتم سادةُ العَرَبِ، أَحْسَنُها وُجُوهًا، وَأَعْظَمُها أحلامًا، وأَوْسَطُها أنسابًا، وأَقْرَبُها أرحامًا. يا معشرَ قريشٍ، أنتم جِيرانُ بيتِ اللهِ، أكرمَكم بِوِلايَتِهِ، وَخَصَّكم بِجِوَارِه دونِ بني إسماعيلَ، وحَفِظَ منكم أحسنَ ما حَفِظَ جارٌ مِن جارِهِ، فَأَكْرِمُوا ضَيْفَهُ، وُزُوَّارَ بَيْتِهِ؛ فإِنَّهم يأتونَكم شُعْثًا غُبْرًا مِن كلِّ بَلَدٍ، فَوَرَبِّ هذه البُنِيَّةِ لو كان لي مالٌ يَحْمِلُ ذلك لَكَفَيْتُكُمُوه.."([i]).
وخلال العصور اللاحقة، تطورت مضامين النثر وأشكاله وأساليبه بالتوازي مع انتشار التدوين والتآليف الذي واكب نشوء الدولة وتطور مؤسساتها السياسية والاجتماعية والثقافية.
ففي العصر الأموي غدت منابر المساجد والقصور والمجالس، ميداناً للمبارزة بالخطب والسجالات بين الفرق والأطراف السياسية والفكرية. وراح الناس يهتمون بنقل وتدوين أقوال وخطب القادة والخلفاء والعلماء النثرية، بقدر اهتمامهم بالشعر ويزيد.
ومن بين الخطب الشهيرة التي وصلتنا من ذلك العصر، "الخطبة البتراء" المنسوبة لوالي الأمويين على العراق، زياد بن أبيه، والتي جاء فيها:
"أما بعد، فإن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والغي الموفي بأهله على النار ما فيه سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام ينبت فيها الصغير، ولا يتحاشى عنها الكبير كأنكم لم تقرؤوا كتاب الله ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكبير لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته في الزمن السرمدي الذي لا يزول، أتكونون كمن طرفت عينيه الدنيا، وسدت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية.."([ii]) إلى آخر الخطبة.
وكذلك خطبة الحجاج بن يوسف الثقفي([iii]) التي ألقاها مهدّداً في مسجد الكوفة بالعراق، والتي ذاع صيتها لتصبح أحد أهم النصوص النثرية في التاريخ العربي، ومما جاء في نصها الذي يختلف بين مصدر وآخر بقليل من الكلمات:
"أما والله فإني لأحمل الشر بثقله وأحذوه بنعله وأجزيه بمثله، والله يا أهل العراق إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، والله لكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى. والله يا أهل العراق، إن أمير المؤمنين عبد الملك نثل كنانة بين يديه، فعجم عيدانها عوداً عوداً، فوجدني أمرّها عوداً، وأشدها مكساً، فوجهني إليكم، ورماكم بي. يا أهل العراق، يا أهل النفاق والشقاق ومساوئ الأخلاق.." إلى آخر الخطبة.
وبقي النثر محافظاً على هذا الإطار خلال العصور العربية اللاحقة، مع اتساع نطاقه ليُستخدم في العصر العباسي وما تلاه في العديد من كتب ومؤلفات الأدباء والمفكرين والعلماء، كالجاحظ والمعري والأصفهاني والكثيرين غيرهم.
النثر الحديث وإشكالية التصنيف
من خلال الاستعراض السريع للنثر ومقاصده في العصور السابقة، يتبيّن لنا أنه أسلوب أدبي يختلف كلياً عن الشعر المتداول في ذلك الزمان، وإن كان يتقاطع معه في بعض الجوانب المتعلقة بالأغراض والغايات، كإثارة الحماسة أو للترهيب والمفاخرة والتحريض... وأحياناً في بعض الجوانب الشكلية المتعلّقة بالقافية التي أقرب ما تكون إلى "السجع" في الأسلوب النثري. إلا أن الاختلاف يكمن بصورة رئيسة في الوزن والإيقاع الذي يختص به الشعر في ذلك الزمان، نظراً لتقيّده ببحور الشعر المعروفة التي استخلص قواعدها الخليل بن أحمد الفراهيدي.
والسجال الواقع اليوم بين الرافضين لفكرة "شعرية" النثر، وبين القائلين بـ "شعريته"، يكمن بالدرجة الأولى في تحرّر قصيدة النثر، ليس من بحور الشعر في القصيدة العمودية/ الكلاسيكية، بل ومن القواعد التي تعتمدها القصيدة الحرة (التفعيلة) التي تشتمل على: "وحدة القصيدة" بدل "وحدة البيت" وعدم الالتزام بقافية واحدة في كامل القصيدة، بالإضافة إلى حرص شعراء التفعيلة على التناسق والتوحيد بين الشكل والمضمون وتعددية التفعيلات في الأبيات الشعرية ضمن القصيدة الواحدة.
ذلك "التحرّر الشكلي" هو ما دفع الفريق المتمسّك بأسلوبية الشعر الكلاسيكي، وبعض متقبّلي قصيدة التفعيلة، إلى محاربة قصيدة النثر وإخراجها من قائمة الشعر، وإلى عدم تصنيف كتّابها في قائمة الشعراء بالرغم من وجود نتاجٍ نثري غزير لدى العديد من مشاهير شعراء القصيدة الحرّة، كما هي الحال لدى محمود درويش وأدونيس وخليل حاوي على سبيل المثال.
جاءت قصيدة النثر لتعلن أحقيتها الشعرية في وجه مناصري القصيدة الكلاسيكية، الذين عدّهم شعراء النثر شكلاً من أشكال التشدّد الأدبي الذي يأبى منطقية التسلسل التاريخي العقلاني للإبداع الأدبي
بينما يرى الفريق الداعم لـ شعرية النص النثري، أن "قصيدة النثر" جاءت نتيجة حتمية للتطور البشري وما رافقه من تجديد طال مختلف الجوانب الثقافية والفنية والأدبية... تماماً كالتجديد الذي أفرز قصيدة التفعيلة في منتصف القرن العشرين، بل ونفس التجديد الذي طرأ على الشعر التقليدي نفسه، والذي تمثل بظهور قصائد "الموشحات" في الأندلس بوصفها حركة تجديدية فرضها واقع ذلك العصر.
ومن هذا التجديد، جاءت قصيدة النثر لتعلن أحقيتها الشعرية في وجه مناصري القصيدة الكلاسيكية، الذين عدّهم شعراء النثر شكلاً من أشكال التشدّد الأدبي الذي يأبى منطقية التسلسل التاريخي العقلاني للإبداع الأدبي الذي لطالما كانوا يبشّرون بولادته. في حين اعتبر الكلاسيكيون قصيدة النثر أسلوباً دخيلاً على الشعر العربي، ونتاجاً لشعراء عرب تأثروا بالأدب الغربي وشعره الذي لا يخضع لوزن أو قافية، ويتعارض مع موضوعات الشعر العربي وقوالبه.
ولعل السبب الرئيس في اتهام شعراء النثر بالتبعية للغرب، يتمثل في اعتماد معظم النقّاد على تعريف قصيدة النثر الذي طرحته الناقدة الفرنسية سوزان برنار، حيث عرفت قصيدة النثر بأنها: "قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور، وخلق حر، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجًا عن كل تحديد، وشيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائية"([iv]).
من رواد قصيدة النثر
وبعيداً عن الخلاف الدائر بين الفريقين، يتفق العديد من الأدباء والنقّاد على جمالية نتاج العديد من الشعراء الذين نضجت لديهم تجربة قصيدة النثر، إذ قدّموا صوراً شعرية استثنائية قلما يقدّمها شعراء آخرون ينتمون لمدارس الشعر العمودي والتفعيلة، بالرغم من افتقارها الوزن والإيقاع والقافية، وللانتماء القومي أيضاً.
ومن بين أبرز شعراء قصيدة النثر على مستوى العالم العربي: أنسي الحاج، يوسف الخال، محمد الماغوط، بول شاوول، أدونيس، سعدي يوسف، رياض الصالح الحسين، وغيرهم.
أنسي الحاج
شاعر لبناني معاصر وأحد أهم روَّاد قصيدة النثر. ولد عام 1937م، ومارس الصحافة باحتراف منذ عام 1956م، وأسهم بتأسيس مجلة شعر 1957 التي نشر فيها كبار شعراء النثر في العالم العربي. توفي عام 2014، وله دواين كثيرة أهمها: لن، ماذا فعلت بالذهب ماذا صنعت بالوردة، الرأس المقطوع وغيرها.
اتهم الحاج في مقدمة ديوانه "لن" كل من يعود إلى التراث أو القصيدة التقليدية وحتى التفعيلة بالتخلف عن الحضارة. وقد كانت رؤية أنسي الحاج تتمثل بأن هذا الشكل الجديد سيمثل الحرية للشاعر المعاصر؛ للتعبير عن رؤيته الجديدة للعالم التي تستوجب وجود شكل أدبي جديد، يعبر فيه بحرية عما يريد دون قيود، بحسب وصفه.
من قصائده "تحت جفنيها":
"تُحبُّ الألوان، ولا أعرف لماذا الضجر، مرّات، على
كتفيها.
إذا حنت رأسها فلأنّها أعمق الأوتار. ومرّات، لا أعرف
لماذا مرّات، هي لا تسمع.
أين حبيبتي أين، أسأل، مرّات، وحبيبتي أمامي!
كلّ يوم يأتي، يغيب.
كلّ يوم لا يأتي، يغيب أيضاً!
...
لن أُغادر الحُبّ لن أُغادر حَرْبي. وإذا حبيبتي تُشاهد
الألوان ستُشاهد كم أحميها وأسير فيها.
فأنا اللون الفاتح الذي تُحبّه واللّون الغامق الذي
ستُحبّه.
أنا المُغمَضُ تحت جفنيها".
محمد الماغوط
شاعر سوري من مواليد مدينة السلمية بريف حماة عام 1934، ويعد من أهم أدباء العصر الحديث، ترك المدرسة مبكرًا بسبب الفقر. عمل في الصحافة بدمشق، وألف الكثير من المسرحيات الناقدة منها: ضيعة تشرين، شقائق النعمان، غربة، كاسك يا وطن، خارج السرب وغيرها، كما أبدع في مجال الرواية، إلا أنه تميّز بشدة في قصيدة النثر لدرجة أن كثيراً من النقاد يعتبرونه رائد القصيدة النثرية. توفي عام 2006، وترك خلفه دواوين عديدة منها: حزن في ضوء القمر، غرفة بملايين الجدران، سأخون وطني، الفرح ليس مهنتي، شرق عدن غرب الله، البدوي الأحمر.
ومن قصائده "الغرباء":
"قبورنا معتمةٌ على الرابيه
والليل يتساقطُ في الوادي
يسيرُ بين الثلوج والخنادق
وأبي يعود قتيلاً على جواده الذهبي
ومن صدره الهزيل
ينتفض سعالُ الغابات
وحفيفُ العجلات المحطّمه
والأنين التائهُ بين الصخور
ينشدُ أغنيةً جديدةً للرجل الضائع
للأطفال الشقر والقطيع الميت على الضفة الحجريه .
أيتها الجبالُ المكسوةُ بالثلوج والحجاره
أيها النهرُ الذي يرافق أبي في غربته
دعوني انطفىء كشمعةٍ أمام الريح
أتألّم كالماء حول السفينه
فالألم يبسط جناحه الخائن
والموتُ المعلقُ في خاصرة الجواد
يلج صدري كنظرةِ الفتاة المراهقه
كأنين الهواءِ القارس".
رياض الصالح الحسين
شاعر سوري ولد في درعا عام 1954، لعائلة تنحدر من قرية مارع بريف حلب، ولم يكمل رياض تعليمه بسبب اصابته بالصم والبكم المبكر، ما دفعه لتعليم نفسه بنفسه. وأجبرته الظروف المعيشية على العمل بسن مبكر، وعمل كعامل وموظف وصحفي، كما عانى من البطالة في بعض مراحل حياته، واستمر بكتابة الشعر والموضوعات الصحفية من عام 1976 إلى حين وفاته، وفي عام 1978 انتقل رياض الحسين من مدينة حلب ليعيش في دمشق، وكان قد تحول نهائيًا إلى كتابة قصيدة النثر.
واكبت حياة الشاعر عدة تحولات، إلّا أن التحول الأبرز، وربما الأكثر تأثيرًا في حياة الحسين القصيرة، كان اعتقاله مع مجموعة من شعراء ومثقفين، أسهم معهم في إصدار نشرة (الكراس الأدبي)، وتعرض الحسين في هذا الاعتقال لكثير من التعذيب؛ بغية التأكد من صممه وتعثر نطقه، حيث كان لتجربته تلك أن حددت وبلورت موقفه السياسي لبقية حياته.
قبل وفاته بخمسة أشهر، كان قد صدر لرياض الحسين ثلاثة دواوين متعاقبة، وهي خراب الدورة الدموية، أساطير يومية، بسيط كالماء واضح كطلقة مسدس؛ لتأتي الصدمة الثانية ذات التأثير الأكبر، والتي لم تكن سياسّية هذه المرة؛ بل أزمة عاطفية أحاقت به، فعزلته أكثر عن أصدقائه، وتركته حبيس جدران أربعة، صام خلالها عن الطعام والشراب إلى أن نُقل من سجنه الإرادي إلى مشفى المواساة، حيث توفي في تشرين الثاني 1982. ويرى العديد من النقاد أن رياض يعدّ واحداً من أهم شعراء قصيدة النثر على الرغم من قلة نتاجه ووفاته المبكرة
من قصائده "سورية":
"يا سورية الجميلة السعيدة
كمدفأة في كانون
يا سورية التعيسة
كعظمة بين أسنان كلب
يا سورية القاسية
كمشرط في يد جرَّاح
نحن أبناؤك الطيِّبون
الذين أكلنا خبزك و زيتونك و سياطك
أبدًا سنقودك إلى الينابيع
أبدًا سنجفِّف دمك بأصابعنا الخضراء
و دموعك بشفاهنا اليابسة
أبدًا سنشقّ أمامك الدروب
و لن نتركك تضيعين يا سورية
كأغنية في صحراء".
[i] - منير عبيد نجم الجبوري- محاضرة بعنوان "النثر في العصر الجاهلي"- جامعة بابل/ العراق
[ii] - ويكيبيديا- الخطبة البتراء
[iii] - "أشهر خطب الحجاج بن يوسف الثقفي"
[iv] - أحمد بزون، قصيدة النثر العربية، صفحة 57-60