كثّفت إسرائيل عملياتها العسكرية وقصفها على العاصمة السورية دمشق، مركّزةً استهدافها على مناطق كانت تُعدّ سابقاً من أكثر المناطق أماناً وتشديداً أمنياً، مثل المزة وكفر سوسة. هذه المناطق، التي لطالما كانت مربعات أمنية مغلقة تضم مقار لشخصيات سياسية وعسكرية رفيعة ومنازل لشخصيات دبلوماسية، تحوّلت بفعل القصف الإسرائيلي إلى مناطق عالية الخطورة، مما أثار موجة من المخاوف بين السكان.
الغارات الإسرائيلية الأخيرة، التي لم تعد تقتصر على استهداف مواقع عسكرية أو قيادات أجنبية، طالت مناطق سكنية تضم مدنيين سوريين، السكان في المناطق المستهدفة يعبرون عن قلقهم المتزايد، حيث أصبحوا بين خيارين أحلاهما مُرّ: البقاء في مواجهة خطر الاستهداف أو النزوح إلى مناطق أخرى أقل خطورة.
ودفعت الهجمات المتكررة العديد من السكان المدنيين للبحث عن بدائل للسكن خارج هذه المناطق، ومع ذلك، يعبر آخرون عن قناعتهم بأن الاستهداف يظل محدوداً ضمن نطاقات أمنية محددة، مما يجعلهم يفضّلون البقاء في المنطقة مع اتخاذ تدابير أمنية إضافية لتفادي الخطر.
المزة من مربع أمني إلى أكثر منطقة مهددة في دمشق
خلال الأيام الماضية، كثّفت إسرائيل استهدافها للعاصمة دمشق، وعند الحديث عن استهداف دمشق نفسها، تكون أغلب الأهداف في منطقة المزة أو كفر سوسة الملاصقة لها. تُعتبر مناطق الاستهداف مربعات أمنية كانت تحظى بحماية فائقة نتيجة طبيعة ما تضمه من مقار ومساكن لشخصيات رفيعة.
وأفادت مصادر محلية لموقع "تلفزيون سوريا" بأن الفيلات الشرقية والغربية تضم أفرعاً أمنية ومقار لجهات خارجية كفصائل فلسطينية أو إيرانية أو حزب الله، كما تضم منازلاً لضباط رفيعي المستوى في جيش النظام والأمن أو لعائلاتهم، ومنازل لوزراء وأجانب من عائلات بعثات دبلوماسية وشخصيات متنفذة وحساسة.
وذكرت المصادر أن المنطقة تتميز بوجود سفارات عربية وأجنبية ومقار بعثات دبلوماسية ومقار للأمم المتحدة، لذلك تحظى بحماية أمنية خاصة باتت تجذب مزيداً من الشخصيات الحساسة الخارجية والداخلية في سبيل الحصول على تلك الحماية الأمنية، حتى أن استثمارات تلك الشريحة، سواء العقارية أو التجارية، تتمركز غالباً هناك.
وتشير المصادر إلى أن الاستهدافات أجبرت السكان المدنيين على البحث عن أماكن أخرى بعيدة عن هذا المربع الأمني خوفاً من تعرضهم للخطر نتيجة استهداف الشرائح الأخرى.
وبحسب ما استطلع موقع "تلفزيون سوريا" من آراء سكان مدنيين في المنطقة، فإن بعضهم بدأ بالفعل بالبحث في بيع السكن أو تأجيره والانتقال إلى أماكن أكثر أماناً مثل ضاحية قدسيا ومشروع دمر، ومنهم من يفكر بالتوجه نحو جديدة عرطوز، أما البعض الآخر، فيرى أن الاستهدافات محددة ضمن مربع معين باستثناءات قليلة، بالتالي لا داعي للهرب أو ترك المنطقة طالما يعرف السكان طبيعة السكان والأبنية المحيطة بهم، حيث يستطيعون تحديد مدى الخطورة.
يؤكد أحد سكان تلك الأبنية لموقع "تلفزيون سوريا" أن هناك الكثير من المنازل في هذه الأبنية مستأجرة لأعوام أو أشهر من قبل ضباط من لبنان أو ضباط أمن سوريين كأماكن بديلة، حيث يتنقلون بين عدة منازل في المنطقة بين الحين والآخر، ويستأجرونها بأسماء أشخاص آخرين لتجنب الشبهات، ومن الصعب جداً تحديد نوعية الشخصية أو وقت وجودها.
وفي سياق متصل، يؤكد سكان من تلك المناطق أنهم باتوا يتخذون الكثير من وسائل الأمان في محاولة للحفاظ على سلامتهم، ومنها عدم التجوال دون سبب، وتفتيش السيارات قبل تشغيلها، وعدم الاقتراب من الأماكن التي تضم تلك الشخصيات والمقار.
استهداف مباشر للمناطق السكنية
ويوم الخميس الماضي، استهدفت الغارات الإسرائيلية مناطق "المزة – فيلات غربية"، وقدسيا، والسيدة زينب، هذه الغارات، التي أودت بحياة 15 شخصاً على الأقل في حصيلة أولية، تسببت بتدمير واسع في المباني والبنية التحتية، وضربت مناطق قريبة من القصر الجمهوري ومساكن مسؤولين بارزين في النظام السوري.
وفي حين وصفت إسرائيل هذه الغارات بأنها استهدفت مواقع تابعة لحركة الجهاد الإسلامي، كشفت التقارير المحلية أن الضربات أصابت مناطق مدنية تضم سكاناً من العائلات السورية.
ويوم أمس الجمعة، تكرر القصف الإسرائيلي على منطقة المزة في دمشق، ما أسفر عن مقتل 7 أشخاص على الأقل، وفق مصادر خاصة لموقع "تلفزيون سوريا".
هذه الهجمات جاءت بعد شهر من غارة سابقة استهدفت "بنايات الـ14" في حي المزة، وهي منطقة ذات كثافة سكانية عالية، وبحسب مصادر محلية، فإن المبنى المستهدف، الذي يضم 4 مداخل، كل منها يحتوي على 50 شقة ومجموعة من المحال التجارية، نجا من الانهيار الكامل، إلا أن الغارة تسببت بأضرار إنشائية كبيرة شكلت تهديداً بانهياره، مما كان سيعني كارثة إنسانية.
وأسفرت الغارة حينذاك عن مقتل 9 أشخاص، بينهم الطبيبة الشابة رهف قمحية، وعائلة الدكتور اليمني شوقي العود، وسيدة مع طفلها، بينما كان الهدف الرئيسي قيادياً في "حزب الله" اللبناني يُدعى "الحاج زياد"، الذي قُتل بعد ساعات قليلة من وصوله إلى إحدى الشقق المستأجرة في المبنى.
رسائل سياسية واستعراض للقوة
التحول في طبيعة الأهداف الإسرائيلية يعكس رسائل سياسية واضحة، فاختيار مناطق مثل "فيلات غربية" وقدسيا ومبنى قرب القصر الجمهوري يشير إلى رغبة إسرائيل في توسيع نطاق استهدافاتها ليشمل مواقع ذات رمزية كبيرة للنظام السوري وحلفائه الإيرانيين.
كما أن تزامن الغارات مع زيارة مستشار المرشد الإيراني، علي لاريجاني، إلى دمشق، يبرز البعد السياسي لهذه العمليات، والتي تهدف إلى تقويض النفوذ الإيراني في سوريا.
نحو سيناريو غزة وبيروت
الهجوم على "بنايات الـ14" شكّل مثالاً على الأثر الإنساني المدمر لهذا التصعيد، ورغم عدم انهيار المبنى، فإن التهديد كان قائماً، حيث تطلبت الأضرار الكبيرة تدعيم 40 عموداً وإعادة بناء أجزاء من البنية التحتية.
الجهات المحلية سارعت إلى ترميم المبنى لتجنب حدوث انهيار كامل، فيما بقي العديد من السكان مشردين بانتظار استكمال الإصلاحات، ومع أن مؤسسات النظام السوري حاولت طمأنة السكان بأن الأعمدة سليمة إنشائياً، إلا أن المخاوف من تكرار الهجمات ما زالت قائمة.
مع استمرار الغارات وتزايد استهداف المناطق المدنية، يبدو أن دمشق قد تواجه تصعيداً يشابه ما يحدث في غزة وبيروت.
ويمكن لإسرائيل أن تطالب مستقبلاً بإخلاء مناطق كاملة في سوريا تحت ذرائع أمنية، مما سيؤدي إلى موجات جديدة من النزوح والتشريد.