ما إن انتهت الحرب العالمية الثانية (1939- 1945) حتى تمّ الإعلان عن نهج شعر "الحداثة" في العالم العربي، الذي يختلف شكلاً وصياغة عن القصيدة العربية التقليدية، التي استمرت منذ العصر الجاهلي حتى اليوم معتمدة على بحور الشعر الـ16 التي وضع قواعدها الخليل بن أحمد الفراهيدي 718- 786م.
وبرز بذلك شكلان للشعر العربي، الأول أطلق عليه شعر "التفعيلة" أو الشعر "الحر" أو الشعر "المرسل" و"النظم المرسل المنطلق" أو "الشعر الجديد". أمّا الشكل الثاني فيتعلّق بنصوص "النثر" التي ما تزال تشهد سجالاً حول تصنيفها ضمن فنون الشعر العربي المعروفة.
هذا النهج الجديد، بشكليه، دعا إليه فريق من الشعراء رأوا أن الشعر العربي في قوالبه الموسيقية والتعبيرية الكلاسيكية، قد أدّى دوره وبلغ أهدافه، فنزعوا إلى التحرر ليس من القيود السابقة التي فرضتها بحور الشعر والعروض والقوافي في كتابة القصيدة العربية فحسب، بل تعدّى الأمر إلى الابتعاد قدر المستطاع عن كل ما يوحي بأنه مستمدّ من الشعر القديم من ناحية المضمون أيضاً، إذ أغرق شعراء الحداثة في استخدام الرمزية للتعبير عن مشاعرهم الخاصّة أو ميولهم السياسيّة بطريقة يصعب على القارئ أحياناً إدراك المقصود منها.
القصيدة الحرة/ التفعيلة وأسباب ظهورها
يتفق العديد من الأدباء والنقاد على أن أسباب ظهور شعر التفعيلة وانتشاره في العالم العربي تتلخص بالآتي:
- الميل إلى الواقع: إذ تتيح الأوزان الحرة للإنسان العربي المعاصر الهروب من الأجواء التخيّلية إلى العالم الحقيقي. فتسارع الأحداث المعاصرة يحول دون إمكانية الشاعر وضع قيود شعرية خاصة بوحدة القافية.
- الجنوح إلى الاستقلال والتجديد: ويتمثل في رغبة الشاعر العربي في الابتكار والتجديد، والتميّز عن شخصية شعراء العصور السابقة
- المضمون المعاصر: تناول شعر التفعيلة موضوعات حديثة ومعاصرة لم يتناولها الشعر من قبل، وتعبر عن الواقع الجديد الذي يواجهه الإنسان العربي.
خصائص شعر التفعيلة
تقوم قصيدة "التفعيلة" على فكرة "وحدة القصيدة" بدل وحدة البيت التي تخضع لها القصيدة الكلاسيكية، بالإضافة إلى عدم الالتزام بقافية واحدة في كامل القصيدة، كما دأب شعر التفعيلة إلى إيجاد تناسق وتوحيد بين الشكل والمضمون وتعددية التفعيلات في الأبيات الشعرية ضمن القصيدة الواحدة، وأسهم هذا في استخدام التدوير وشمول القصيدة الواحدة على عددٍ من البحور الشعرية. وقد يشتمل السطر أو "الشطر" الواحد على تفعيلة أو أكثر وصولاً إلى اثنتي عشرة تفعيلة، ويخرج هذا الشعر عن مبدأ تساوي الأشطر، مع تجريب أشكال مُستحدثة من الموسيقى الشعرية.
وينظّم شعر التفعيلة على نوعين من البحور هما:
- البحور الصافية، وهي: الكامل، والرمل، والهزج، والرجز، والمتقارب، والمتدارك.
- البحور الممزوجة هما: السريع والوافر.
مؤسسو ورواد الشعر الحر/ التفعيلة
لا يُعرف على وجه التحديد الشاعر العربي المؤسس لشعر التفعيلة، ففي حين يؤكّد الكثيرون من النقّاد والأدباء على أسبقية الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب في كتابة القصيدة الحرة؛ يتفق فريق آخر من النقاد على صدارة الشاعرة العراقية نازك الملائكة من خلال قصيدتها "الكوليرا".
وبصرف النظر عن أسبقية هذا وصدارة ذاك؛ لا يختلف اثنان حول أن العراق هي التي شهدت ولادة قصيدة التفعيلة الأولى وشعرائها، ثم انتشر هذا الأسلوب الشعري الجديد إلى بقية أصقاع العالم العربي.
أهم رواد الشعر الحرّ
-
بدر شاكر السيّاب:
شاعر عراقي ولد في قرَية جِيْكُور بمحافظة البصرة في جنوبي العراق (1926) وتوفي في الكويت عام 1964. ويعد السيّاب من أهم شعراء عصر الحداثة في العالم العربي، كما يعتبره الكثيرون مؤسس قصيدة التفعيلة. وهو من أخصب الشعراء وأشدّهم فيضاً شعريّاً، وتقصيّاً للتجربة الحياتيّة، ومن أغناهم تعبيراً عن خلجات النفس ونبضات الوجدان، خصوصاً وأنه توفي في عمر الـ37 فقط.
نتاج السياب الشعري
للسياب ديوان (أعمال كاملة) في جزأين نشرته دار العودة ببيروت سنة 1971، وجمعت فيه عدة دواوين أو قصائد طويلة صدرت للشاعر في فترات مختلفة، منها: أزهار ذابلة (1947)، وأساطير (1950)، والمومس العمياء (1954)، والأسلحة والأطفال (1955)، وحفّار القبور، وأنشودة المطر (1960)، والمعبد الغريق (1962)، ومنزل الأقنان (1963)، وشناشيل ابنة الجلبي (1964)، وإقبال (1965). كما للشاعر السياب شعرٌ لم ينشر بعد.
ولعل من أهم وأشهر قصائد السياب على الإطلاق قصيدة "أنشودة المطر" التي حملت عنوان إحدى مجموعاته الشعرية. وتقول القصيدة:
عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ،
أو شُرفتان راحَ ينأى عنهما القمرْ
عيناكِ حين تَبسمانِ تورقُ الكروم
وترقص الأضواء... كالأقمار في نهَرْ
يرجّه المجذاف وهناً ساعة السَّحَرْ
كأنما تنبض في غوريهما، النّجومْ...
وتغرقان في ضبابٍ من أسىً شفيفْ
كالبحر سرَّح اليدين فوقه المساءٍْ
دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريفْ
والموت، والميلاد، والظلام، والضياءْ
فتستفيق ملء روحي، رعشة البكاءْ
ونشوةٌ وحشيّةٌ تعانق السماءْ
كنشوة الطفل إذا خاف من القمرْ!
كأن أقواس السحاب تشرب الغيومْ
وقطرة فقطرةً تذوب في المطرْ...
وكركر الأطفالُ في عرائش المكرومْ
ودغدغت صمت العصافير على الشجرْ
أنشودةُ المطرْ...
مطرْ...
مطرْ...
مطرْ...
تثاءب المساء، والغيومُ ما تزالْ
تسحُّ ما تسحّ من دموعها الثِقالْ
كأنّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينامْ:
بأنّ أمّه ـ التي أفاق منذ عامْ
فلم يجدها، ثمّ حين لجّ في السؤالْ
قالوا له: (بعد غدٍ تعودْ .. )
لا بدّ أن تعودْ
وإنْ تهامس الرفاق أنها هناكْ
في جانب التلّ تنام نومة اللّحودْ
تسفّ من ترابها وتشرب المطرْ
كأن صياداً حزيناً يجمع الشِّباكْ
ويلعن المياه والقَدَرْ
وينثر الغناء حيث يأفل القمرْ
أتعلمين أيَّ حُزنٍ يبعث المطرْ؟
وكيف تنشج المزاريب إذا انهمرْ؟
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياعْ؟
بلا انتهاء ـ كالدَّم المراق، كالجياعْ
كالحب، كالأطفال، كالموتى ـ هو المطرْ!
ومقلتاكِ بي تطيفان مع المطرْ
وعبر أمواج الخليج تمسح البروقْ
سواحلَ العراق بالنجوم والمحارْ
كأنها تهمّ بالشروقْ
فيسحب الليل عليها من دمٍ دثارْ
أصيح بالخليج: (يا خليجْ
يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والرّدى!)
فيرجعٍُ الصّدى
كأنه النشيجْ:
(يا خليج
يا واهب المحار والردى .. )
أكاد أسمع العراق يذْخُر الرعودْ
ويخزن البروق في السّهول والجبالْ
حتى إذا ما فضَّ عنها ختمها الرّجالْ
لم تترك الرياح من ثمودْ
في الوادِ من أثرْ
أكاد أسمع النخيل يشربُ المطرْ
وأسمع القرى تئنّ، والمهاجرينْ
يصارعون بالمجاذيف وبالقلوعْ
عواصف الخليج، والرعود، منشدينْ:
(مطرْ...
مطرْ...
مطرْ...
وفي العراق جوعْ
وينثر الغلالَ فيه موسم الحصادْ
لتشبع الغربان والجَرادْ
وتطحن الشّوان والحجرْ
رحىً تدور في الحقول... حولها بشرْ
مطرْ...
مطرْ...
مطرْ...
وكم ذرفنا ليلة الرحيل، من دموعْ
ثمّ اعتللنا ـ خوفَ أن نُلامَ ـ بالمطرْ...
مطرْ...
مطرْ...
ومنذ أنْ كنّا صغاراً، كانت السماءْ
تغيمُ في الشتاءْ
ويهطل المطرْ
وكلَّ عام ـ حين يعشب الثرى ـ نجوعْ
ما مرَّ عامٌ والعِراق ليس فيه جوعْ
مطرْ...
مطرْ...
مطرْ...
في كل قطرةٍ من المطرْ
حمراءُ أو صفراء من أجنَّة الزَّهَرْ
وكلّ دمعةٍ من الجياع والعراةْ
وكلّ قطرةٍ تُراق من دم العبيدْ
فهي ابتسامٌ في انتظارِ مبسم جديدْ
أو حلمةٌ تورَّدتْ على فمِ الوليدْ
في عالم الغد الفتيّ، واهب الحياةْ!
مطرْ...
مطرْ...
مطرْ...
سيُعشبُ العراق بالمطرْ... )
أصيح بالخليج: (يا خليج ..
يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والردى!)
فيرجع الصدى
كأنّه النشيج:
(يا خليج
يا واهب المحار والردى!)
وينثر الخليج من هِباته الكثارْ،
على الرمال: رغوه الأُجاجَ، والمحارْ
وما تبقّى من عظام بائسٍ غريقْ
من المهاجرين ظلّ يشرب الردى
من لجَّة الخليج والقرارْ
وفي العراق ألف أفعى تشرب الرَّحيقْ
من زهرة يربُّها الفرات بالنَّدى
وأسمع الصدى
يرنّ في الخليجْ
(مطرْ...
مطرْ...
مطرْ...
في كلّ قطرةٍ من المطرْ
حمراء أو صفراء من أجنَّةِ الزَّهَرْ
وكلّ دمعة من الجياع والعراة
وكلّ قطرةٍ تراق من دم العبيدْ
فهي ابتسامٌ في انتظار مبسمٍ جديدْ
أو حلمةٌ تورَّدت على فمِ الوليدْ
في عالم الغد الفتيّ، واهب الحياة.)
ويهطل المطرْ...
-
نازك الملائكة:
شاعرة عراقية ولدت في بغداد 1923 وتوفيت في القاهرة 2007. نشأت في عائلة مولعة بالكتابة والأدب، فوالدها الأديب والباحث صادق جعفر الملائكة الذي درّس اللغة العربية في المدارس الثانوية وترك مؤلفات عديدة مهمة، منها "دائرة معارف الناس" المكون من عشرين مجلدا، وأمها الشاعرة سلمى عبد الرزاق التي كانت تكتب الشعر العمودي وتنشره في الصحف المحلية باسم مستعار هو "أم نزار الملائكة".
وجدتها (أم أمها) شاعرة هي الحاجة (هداية كبة) ابنة العلامة والشاعر الحاج محمد حسن كبة، وخالاها "جميل الملائكة" و"عبد الصاحب الملائكة" شاعران معروفان وخال أمها الشيخ محمد مهدي كبة شاعر وله ترجمة رباعيات الخيام نظماً.
درست نازك في قسم اللغة العربية بدار المعلمين العالية في بغداد، إلى جانب كلّ من بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وشعراء آخرين من رواد شعر الحداثة في العراق والعالم العربي.
أطلقت مجموعتها الشعرية الأولى "عشاق الليل" عام 1947 التي كتبت بأسلوب الشعر العمودي. وفي العام نفسه نشرت نازك قصيدتها الحرّة الأولى بعنوان "الكوليرا" لتشكّل ثورة على الشعر العمودي التقليدي، وهذا ما دفع مجموعة من النقاد إلى اعتبارها مؤسسة شعر التفعيلة.
كتبت نازك الملائكة قصيدة الكوليرا عندما اجتاح الوباء أرض مصر في تلك السنة وقضى على الآلاف من أبنائها. وهذا نص القصيدة:
سكَن الليلُ
أصغِ إلى وَقْع صَدَى الأنَّاتْ
في عُمْق الظلمةِ، تحتَ الصمتِ، على الأمواتْ
صَرخَاتٌ تعلو، تضطربُ
حزنٌ يتدفقُ، يلتهبُ
يتعثَّر فيه صَدى الآهاتْ
في كل فؤادٍ غليانُ
في الكوخِ الساكنِ أحزانُ
في كل مكانٍ روحٌ تصرخُ فى الظُلُماتْ
في كلِّ مكانٍ يبكى صوتْ
هذا ما قد مَزّقَهُ الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
يا حُزْنَ النيلِ الصارخِ مما فعلَ الموتْ
طَلَع الفجرُ
أصغِ إلى وَقْع خُطَى الماشينْ
في صمتِ الفجْر، أصِخْ، انظُرْ ركبَ الباكين
عشرةُ أمواتٍ، عشرونا
لا تُحْصِ أصِخْ للباكينا
اسمعْ صوتَ الطِّفْل المسكين
مَوْتَى، مَوْتَى، ضاعَ العددُ
مَوْتَى، موتَى، لم يَبْقَ غَدُ
في كلِّ مكانٍ جَسَدٌ يندُبُه محزونْ
لا لحظَةَ إخلادٍ لا صَمْتْ
هذا ما فعلتْ كفُّ الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
تشكو البشريّةُ تشكو ما يرتكبُ الموتْ
الكوليرا
في كَهْفِ الرُّعْب مع الأشلاءْ
في صمْت الأبدِ القاسي حيثُ الموتُ دواءْ
استيقظَ داءُ الكوليرا
حقْدًا يتدفّقُ موْتورا
هبطَ الوادى المرِحَ الوُضّاءْ
يصرخُ مضطربًا مجنونا
لا يسمَعُ صوتَ الباكينا
في كلِّ مكانٍ خلَّفَ مخلبُهُ أصداءْ
في كوخ الفلّاحة فى البيتْ
لا شيءَ سوى صرَخات الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
في شخص الكوليرا القاسى ينتقمُ الموتْ
الصمتُ مريرْ
لا شيءَ سوى رجْعِ التكبيرْ
حتّى حَفّارُ القبر ثَوَى لم يبقَ نَصِيرْ
الجامعُ ماتَ مؤذّنُهُ
الميّتُ من سيؤبّنُهُ
لم يبقَ سوى نوْحٍ وزفيرْ
الطفلُ بلا أمٍّ وأبِ
يبكي من قلبٍ ملتهِبِ
وغدًا لا شكَّ سيلقفُهُ الداءُ الشرّيرْ
يا شبَحَ الهيْضة ما أبقيتْ
لا شيءَ سوى أحزانِ الموتْ
الموتُ، الموتُ، الموتْ
يا مصرُ شعوري مزَّقَهُ ما فعلَ الموتْ
ولنازك العديد من الدواوين الشعرية، منها: عاشقة الليل 1947. شظايا الرماد 1949. قرارة الموجة 1957. شجرة القمر 1968. ويغير ألوانه البحر 1970. مأساة الحياة وأغنية للإنسان 1977. الصلاة والثورة 1978.
-
عبد الوهاب البيّاتي:
شاعر وأديب عراقي ولد في بغداد 1926 وتوفي في دمشق 1999. يُعد واحدًا من أربعة شعراء أسهموا في تأسيس مدرسة الشعر العربي الجديد في العراق (رواد الشعر الحر) إلى جانب كلّ من: بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وشاذل طاقة.
عمل في التعليم والصحافة، وتنقل بين بغداد والكويت والبحرين وسوريا وبيروت والقاهرة وإسبانيا والأردن وأميركا، ثم عاد إلى الأردن ومنها إلى سوريا إلى أن توفي.
يمتاز شعر البياتي بنزوعه نحو عالمية معاصرة بسبب تنقله الدائم بين دول العالم وعلاقاته الواسعة مع أدباء وشعراء العالم الكبار، مثل الشاعر التركي ناظم حكمت والشاعر الإسباني رفائيل ألبرتي والشاعر الروسي يفتشنكو وغيرهم. كما امتزج شعره مع التُراث والرموز الصوفية والأسطورية التي شكلت إحدى أهم الملاحم في حضوره الشعري وحداثته.
نتاجات البياتي
للبياتي الكثير من الدواوين الشعرية، منها: ديوان ملائكة وشياطين 1950م. أباريق مهشمة 1954م. المجد للأطفال والزيتون 1956م. رسالة إلى ناظم حكمت 1956م. عشرون قصيدة من برلين 1959م. طريق الحرية (بالروسية) 1962م. الموت في الحياة 1968م. تجربتي الشعرية 1968م. بكائية إلى شمس حزيران والمرتزقة 1969م. الكتابة على الطين 1970م. يوميات سياسي محترف 1970م. قصائد حب على بوابات العالم السبع 1971م. قمر شيراز 1975م. صوت السنوات الضوئية 1979م. كتاب المراثي 1995. الحريق 1996. خمسون قصيدة حب 1997. البحر بعيد أسمعه يتنهد 1998. ينابيع الشمس - السيرة الشعرية 1999.
ومن قصائد عبد الوهاب البياتي نختار قصيدة "مذكرات رجل مجهول":
مولاي ! أمثالي من البسطاء لا يتمردون
لأنهم لا يعلمون
بأن أمثالي لهم حق الحياة
وحق تقرير المصير
وإن في أطراف كوكبنا الحزين
تسيل أنهار الدماء
من أجل إنسان، الغد الآتي، السعيد
من أجلنا، مولاي أنهار الدماء
تسيل من أطراف كوكبنا الحزين
19 تشرين الثاني
الليل في بغداد، والدم والظلال
أبداً تطاردني كأني لا أزال
ظمآن عبر مقابر الريف البعيد وكان إنسان الغد الآتي السعيد
إنسان عالمنا الجديد
مولاي! يولد في المصانع والحقول .
وأيضاً قصيدة "الموت والقنديل":
صيحاتك كانت فأس الحطاب الموغل في
غابات اللغة العذراء، وكانت ملكًا أسطوريًّا
يحكم في مملكة العقل الباطن والأصقاع
الوثنية حيث الموسيقى والسحر الأسود
والجنس وحيث الثورة والموت، قناع الملك
الأسطوري الممتقع الوجه وراء زجاج نوافذ
قصر الصيف وكانت عربات الحرب
الآشورية تحت الأبراج المحروقة كانت
صيحاتك صوت نبيٍّ يبكي تحت الأسوار
المهدومة شعبًا مستلبًا مهزومًا كانت برقًا
أحمر في مدن العشق أضاء تماثيل الربات
وقاع الآبار المهجورة كانت صيحاتك
صيحاتي وأنا أتسلق أسوار المدن الأرضية
أرحل تحت الثلج أواصل موتي حيث
الموسيقى والثورة والحب وحيث الله
-
لميعة عباس:
ولدت "لميعة عباس عمارة" في بغداد عام 1929 وتوفيت عام 2021 في الولايات المتحدة الأميركية. نشأت في أسرة ميسورة الحال، وهي ابنة خال الشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد، أحد شعراء عصر التحوّل الحداثوي في العراق والعالم العربي إلى جوار بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وشاذل طاقة.
وسط ذلك المناخ المحتدم والمتمرد شعرياً بهدف الوصول إلى صورة جديدة للقصيدة العربية النمطية –الشعر العمودي- نشأت لميعة، وتمكنت في عمر مبكّر من خلق قصائد إبداعية استثنائية في شعر التفعيلة.
ومنذ قصائدها الأولى، كانت ترسل كل ما تبدعه إلى صديق والدها، الشاعر اللبناني المهجري "إيليا أبو ماضي أحد أبرز مؤسسي (الرابطة القلمية) إلى جانب جبران خليل جبران. وكان أبو ماضي يُدهش بموهبتها الشعرية ما جعله ينشر أول قصيدة لها في المجلة التي كان يرأس تحريرها "السمير" في بدايات عام 1944. وهو الذي قال فيها: "إن كان في العراق مثل هؤلاء الأطفال، فعلى أية نهضةٍ شعرية مُقبل العراق؟".
اتسم شعر لميعة الذي تناول المرأة والحب والغزل، بجسارة ورومانسية عالية، سواء في قصائدها باللهجة العراقية العامية أو الفصيحة، وبلغة محكمة التراكيب والمفردات، إضافة إلى رقّة وعذوبة في أسلوب الإلقاء.
دواوين لميعة عباس
تركت الشاعرة وراءها ستة دواوين شعرية تضمّ تجاربها الأدبية المهمة، بالرغم من التجاهل الملحوظ لمؤلفاتها من قبل النقاد، وهي: الزاوية الخالية 1960، عودة الربيع 1963، أغاني عشتار 1969، يُسمّونه الحب 1972، لو أنبأني العرّاف 1980، والبعد الأخير 1988.
-
شاذل جاسم طاقة:
شاعر وسياسي ودبلوماسي عراقي ولد في الموصل عام 1929 وتوفي 1974. ويعد من مؤسسي الشعر الحر مع السياب والبياتي ونازك الملائكة. وكانت له محاولات جادة ومهمة في تطوير البنية الإيقاعية الشعرية وكانت له اجتهادات عروضية مهدت لمحاولات كثيرة أعقبته.
بدأ شاذل بكتابة الشعر العمودي ثم انتقل إلى الشعر الحر في سن مبكرة ونشر قصائده في الصحف المحلية منذ أربعينيات القرن الماضي.
أصدر ديوانه الشعري الأول (المساء الأخير) عام 1950، ثم أصدر ديوانًا شعريًا مشتركًا في عام 1956 تحت عنوان (قصائد غير صالحة للنشر) ضم قصائد لشعراء عراقيين آخرين من مدينة الموصل هم عبد الحليم اللاوند وهاشم الطعان ويوسف الصائغ. وفي عام 1963 صدرت مجموعته الشعرية الثانية (ثم مات الليل) لتليها في عام 1969 مجموعته الشعرية الثالثة والأخيرة (الأعور الدجال والغرباء). ترجمت قصائده إلى العديد من اللغات الأجنبية.
ومن قصائد شاذل طاقة قصيدة "وعاد الرجال":
سألتُ شجيرة الكافور، قلتُ:
لعلّها تدري..
بأنا ذات أمسيةٍ
زرعنا فوقها قمراً
صغيراً أسود العينين والشَعْرِ..
أشعلنا له شمعاً وكافورا..
وفدّيناه بالنذر..
فذاب الكحل مبهورا..
وأحرقنا أصابعنا.. ولم ندر!
غريباً مرَّ، يا عيني، وما سَلَّمْ!
تقول شجيرة الكافور،
فانتظري مع الأحزان والأشواق عودته
ربيعاً آخراً..
يا ليتها تعَلْم..
بأنيّ حُكتُ من ضلعي وسادته
ومن نهديَّ.. والخدّين..
لو يعَلْم..
بأنّي لن أراه مرةً أخرى..
فإني، يا شجيرته،
ربيعٌ واحدٌ عشناه..
ثم مضى.. مضى.. مَرّا..
حزيناً مَرَّ، يا عيني، وما سَلَّمْ..
خلّفني مع الأحزان والصبر..
ينوسُ بليلنا قمرٌ حزينٌ..
أسود العينينِ والشعرِ!
سُقيتِ.. شجيرةَ الكافور، إن عادَ الرجال.. وكان بينهمو
حبيبي.. فانثري من فوقه الزهرا
وبُوسيه من الخدّين..
رُشّي فوقه العطرا..
وبوحي بالهوى عنّي..
وقولي:
إنني ما زلتُ أهواه..
وأحلُم؛
إذ يزور ضفافنا القمر الصغير
مُكحّل الجفنِ..
ينام على الرمال..
يُغازل النهرا.. وتقولين: أحبك!
شعراء التفعيلة في العالم العربي
بعد الشعراء المؤسسين في العراق، أصبحت الدعوة لشعر التفعيلة تأخذ مظهراً أكثر قوّة من السابق بظهور شعراء جدد في بقية الأقطار العربية، منهم: صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي من مصر، وأدونيس ونزار قباني من سوريا، وخليل حاوي من لبنان، وفدوى طوقان ومحمود درويش وسميح القاسم من فلسطين، ومحمد الفيتوري ومحيي الدين فارس من السودان، وغيرهم كثيرون.