على مدى الأسابيع الثلاثة الماضية، تركزت تصريحات مسؤولي النظام السوري حول عدم جدوى آلية الدعم الحكومي، مؤكدين في مناسبات مختلفة أن الآلية الحالية ليست "فعالة"، ويجب استبدالها لما لها "تأثير ضار" على خزينة الدولة.
ورغم أن حكومة النظام بدأت سياسة رفع الدعم بشكل تدريجي منذ سنوات، عبر سلسلة من القرارات والخطوات، فإن الحديث في الوقت الراهن يدور حول إلغائه بشكل كامل.
هذه التصريحات تزامنت مع حديث مماثل لمسؤولي النظام بشأن التحول إلى الخصخصة، ما يشير إلى توجه واضح نحو اتخاذ خطوات جديدة قد تتضمن تغييرات هيكلية في السياسات الاقتصادية، مثل تحرير القطاع العام وتحويل الاقتصاد إلى قطاع خاص يهيمن عليه شخصيات نافذة في النظام، بحسب محللين لموقع "تلفزيون سوريا".
خطة قديمة
في اجتماع عُقد في 31 من الشهر الماضي مع عدد من أساتذة الاقتصاد، وصف رئيس النظام بشار الأسد، آلية الدعم المتبعة في سوريا بأنها "أكثر بيئة للفساد"، معتبراً أن "الدعم يجب أن يكون لصالح الفقير لكن هو أفقر الفقير، والإجراءات التي تطبق لصالحه تنعكس عليه سلباً".
ومن جانبه، وصف وزير الاقتصاد في حكومة النظام السوري، محمد سامر خليل، الآلية بأنها "مشوهة" و"غير مجدية"، مشيراً إلى وجود "هدر وفساد" مرتبط بها، وفقًا لصحيفة "الوطن" المقربة من النظام.
وإلى جانب ذلك، بدأت وسائل إعلام النظام الرسمية والمقربة منه بالحديث عن فساد الآلية وعدم جدواها.
ونقلت صحيفة "تشرين" الناطقة باسم النظام السوري عن نائب عميد كلية الاقتصاد بجامعة دمشق إبراهيم العَدي قوله، إن "المسيرة التاريخية للدعم في سوريا أثبتت أنه سبب الفساد، وأن المستفيدين الحقيقيين منه ليسوا الفقراء".
لم يكن الحديث عن إلغاء الدعم مفاجئاً لدى كثير من السوريين، كونه يأتي في سياق خطة تعمل عليها حكومة النظام منذ سنوات، ومهدت لها سابقاً بخطوات وإجراءات كاستبعاد العديد من الفئات والشرائح الاجتماعية من الدعم، ورفع أسعار المشتقات النفطية كان آخرها ، يوم الاثنين الفائت.
وتعود خطة انسحاب حكومة النظام من الدعم إلى "الخطة الخمسية الحادية عشرة" في 2010، بحسب ما قاله رئيس مجموعة عمل اقتصاد سوريا، أسامة القاضي، لموقع تلفزيون سوريا.
وبحسب القاضي فإن النظام كان يخطط للانسحاب من الحياة العامة الاقتصادية، من خلال إنهاء الدعم عن المواد الغذائية والمحروقات، إضافة إلى بيع القطاع العام، لكن هذا المخطط توقف بعد اندلاع الثورة السورية.
كان النظام يخطط للانسحاب من الحياة العامة الاقتصادية، من خلال إنهاء الدعم عن المواد الغذائية والمحروقات، إضافة إلى بيع القطاع العام، لكن هذا المخطط توقف بعد اندلاع الثورة
أما الخبير الاقتصادي والأستاذ في جامعة لوزان السويسرية جوزيف ضاهر، فأكد لموقع تلفزيون سوريا أنه "في أواخر العقد الأول من القرن الحالي، أعلن المسؤولون السوريون في مناسبات عدة أن معظم منتجات الطاقة، ولا سيما المشتقات النفطية، ستُباع بسعر السوق بحلول العام 2015، إلا أن انتفاضة 2011 أبطأت هذا المسار".
ومنذ 2020 بدأت حكومة النظام العزف على "سمفونية" ضرورة إعادة ضبط آلية الدعم وتوزيعه على من يستحقه، بهدف استمالة الحاضنة الشعبية، بحسب ما يرى الخبير الاقتصادي والمالي الدكتور فراس شعبو.
وتوقع شعبو، في حديث لموقع "تلفزيون سوريا"، أن تتوجه حكومة النظام لرفع الدعم تدريجياً بشكل جزئي وبأساليب مختلفة، حتى الوصول إلى مرحلة "يصبح المواطن غير مطالب به كونه غير مجدٍ"، كما يحصل الآن في قطاع الكهرباء.
كما توقع إلغاء الدعم عن التأمين الاجتماعي والصحي الذي أصبح محط مناقشة بين مسؤولي النظام حالياً.
تمكين "إمبراطورية أسماء الأسد"
تتعدد الأسباب وراء رفع الدعم، ويمكن تقسيمها إلى أسباب ظاهرة تعلن عنها حكومة النظام، وأسباب خفية تسعى لها، بحسب ما يرى محللون.
وتربط حكومة النظام رفع الدعم بمعالجة عجز الموازنة العامة وإصلاحها وتخفيف الأعباء التضخمية، وتوجيه الدعم في تحقيق التنمية الاقتصادية وزيادة الإنتاج، بحسب ما صرح به وزير الاقتصاد محمد سامر خليل.
وبينما يروج مسؤولون بأن هدف الحكومة هو إيصال الدعم لمستحقيه، يؤكد الخبير الاقتصادي، فراس شعبو، أنه منذ استبعاد "ربع الشعب السوري" من الدعم الحكومي في 2022، لم يتم توزيع الفائض المالي على المستحقين الحقيقيين.
منذ استبعاد "ربع الشعب السوري" من الدعم الحكومي في 2022، لم يتم توزيع الفائض المالي على المستحقين الحقيقيين
ويرى شعبو أن السبب الرئيسي هو تخفيض الفاتورة لدى النظام لأن الدعم مرهق جداً بالنسبة له خاصة مع اضمحلال الموارد المالية، لذلك "هو قرار حتمي لا رجعة فيه".
بدوره اعتبر الخبير الاقتصادي جوزيف ضاهر، أن الأهداف الرئيسية التي ترمي حكومة النظام إلى تحقيقها من خلال خفض الدعم هي مالية ونقدية، أهمها تثبيت الليرة السورية، وزيادة إيرادات الدولة، وخفض الإنفاق الحكومي على الدعم، ومراكمة العملات الأجنبية.
لكن مع ذلك، لم يستقر اقتصاد البلاد ولا الليرة السورية التي استمرت في الانخفاض، كما لا "يزال السكان يقعون في براثن الفقر، والتعويضات رمزية وغير فعالة، وتستمر القدرة الشرائية للسوريين في التراجع".
وإلى جانب اتفاق المستشار الاقتصادي أسامة القاضي مع الرأي السابق بأن النظام يحاول الانسحاب شيئاً فشيئاً من الدعم لأنه عبء كبير عليه، يؤكد أن هدفه هو منح المقربين منه استيراد المواد الأساسية والمشتقات النفطية.
ويقول القاضي إن رامي مخلوف وشركاته القابضة كان سابقاً ذراع النظام في استيراد المواد، لكن الآن يريد تمكين مجموعة جديدة تحت مظلة "إمبراطورية أسماء الأسد".
ويضيف أن النظام يريد أن يصمم سياسات جديدة، بحيث تكون أسماء الأسد هي المعنية بإيصال الدعم للمواطنين، سواء كان عن طريق البطاقة الذكية التي كانت بإشرافها، أو احتكار كل الدعم بحيث توصله بالطريقة التي تريد عن طريق المؤسسات التي تريدها.
ويؤكد ضاهر أن هناك وضوحا شديدا ورغبة قوية من قبل حكومة النظام، لإعطاء الأولوية للقطاع الخاص الذي يهيمن عليه إلى حد كبير رجالُ أعمال مقربون من القصر الجمهوري وشبكاته.
وبحسب رأيه فإن النظام يستعد للاعتماد أكثر على القطاع الخاص، حيث "هناك رغبة في تعميق ديناميكيات الليبرالية الجديدة والتقشف التي بدأت قبل عام 2011".
وقال ضاهر إن النظام وضع سياسات اقتصادية ترمي إلى توطيد سلطته وتعزيز شبكات محسوبيته العديدة.
ومنذ 2018 بدأت حكومة النظام بتطبيق آلية سمتها "البطاقة الذكية" لتمكين المواطنين القابعين في مناطق سيطرتها من الحصول على المواد الأساسية والمحروقات بالسعر "المدعوم".
وتتولى شركة "تكامل" تنفيذ مشروع "البطاقة الذكية"، ويشغل مهند الدباغ ابن خالة أسماء الأسد منصب رئيس مجلس إدارتها ويمتلك فيها حصة 30 في المئة، في حين كانت الحصة الأكبر من الشركة مسجلة باسم شقيق أسماء الأسد زوجة بشار الأسد بحسب موقع اقتصادي.
كما تعتبر شركة "البوابة الذهبية" المستحوذ الأكبر على سوق المحروقات في مناطق النظام، وتملكها مجموعة القاطرجي، المقربة منه.
كما منحت وزارة الكهرباء في حكومة النظام العام الماضي، عقداً حصرياً لشركة "Infinity Sky light" لتشغيل محطة دير علي لتوليد الطاقة الكهربائية جنوب دمشق، والتي تعود ملكيتها لعلي نجيب إبراهيم المقرب من النظام.
خصخصة القطاعات.. والمستثمر أسماء
تتزامن التصريحات الحالية من مسؤولي النظام السوري بشأن فساد آلية الدعم وضرورة رفعها، مع تنظيم ندوات وإصدار تصريحات حول خصخصة القطاعات، في إطار ما يُعرف بنظام "التشاركية بين القطاعين العام والخاص".
في 18 من الشهر الماضي، أُقيمت ندوة في جامعة دمشق تحت عنوان "الاستثمار في الصحة"، وأكد فيها وزير الصحة في حكومة النظام، حسن الغباش، التوجه نحو "تحويل جميع المشافي إلى هيئات عامة مستقلة تتمتع بخصوصيتها الإدارية والمالية".
وأوضح الغباش أن "الهدف من هذه التحركات ليس بيع القطاع العام أو إلغاء الخدمات المجانية تماماً، وإنما توجيه الدعم والخدمات المجانية للأشخاص المستحقين دون تملك القطاع الخاص لأي جزء من المشافي".
وفي مقال نشره موقع "سناك سوري" حول "توديع الطبابة المجانية في سوريا"، تساءل عن مصير السوريين الفقراء في حال تحول المشافي إلى هيئات عامة مستقلة من خلال التشارك مع القطاع الخاص.
وفي 25 من الشهر نفسه، نظمت جامعة دمشق ندوة حوارية بعنوان "الاستثمار في التعليم"، بهدف "الوصول إلى مقترحات تسهم برسم خطة طريق لمشروع الاستثمار في هذا القطاع".
وفي هذا السياق، يرى الخبير الاقتصادي جوزيف ضاهر أن استراتيجية النظام تقوم على "الترويج لنموذج من التنمية الاقتصادية يعتمد على الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وخصخصة المنافع والخدمات العامة كحجر الأساس لإعادة إعمار البلاد والسبيل لإنعاش اقتصادها".
ويُشير ضاهر إلى أن حكومة النظام أعلنت في شباط 2016 خطتها لـ "التشاركية الوطنية"، كاستراتيجية جديدة للاقتصاد السياسي بدلاً من نموذج "اقتصاد السوق الاجتماعي" المطور في عام 2005.
وكشفت صحيفة "البعث" الرسمية في تموز الفائت أن حكومة النظام تدرس منح إدارة وتشغيل مطار دمشق الدولي لشركة خاصة، لم تسمها، وبنسبة 49 في المئة. ووصف مصدر في وزارة النقل للصحيفة السياسةَ الجديدة بـ"قطار التشاركية".
وكشف خبراء اقتصاديون أن الشركات الخاصة المشاركة تتبع مباشرة لبشار الأسد من خلال يسار إبراهيم وعلي نجيب إبراهيم.
وفي مطلع 2016، أصدر رئيس النظام بشار الأسد قانوناً حول "التشاركية بين القطاعين العام والخاص" بعد ست سنوات من صياغته.
وسمح القانون للقطاع الخاص بإدارة وتطوير الأصول الحكومية في جميع قطاعات الاقتصاد، بوصفه الشريك الرئيسي أو المالك.
ورغم التحول للاعتماد على القطاع الخاص، فإن شعبو، اعتبر أنه لن يكون أجنبياً، وإنما "القطاع التابع للنظام الذي يحاول الاستفادة من الاقتصاد السوري والتربح منه".
ويقول شعبو: "النظام تحول من دولة ترعى أفرادها ويوجد بينها وبينهم عقد اجتماعي إلى تاجر يريد التربح من هذه الدولة، ويحاول تسخير كافة مؤسساتها لخدمة مصالحه الشخصية، من خلال أفراد وميليشيات موجودة على الأرض".
في حين أكد القاضي أنه لن يكون هناك استثمار أجنبي، وإنما "هناك أسماء الأسد وما حولها، لأنه لا يوجد رجل عاقل يستثمر في سوريا، في ظل أجواء الحرب والتقسيم ومناطق النفوذ الموجودة، إضافة إلى الفساد المستشري، والجهات الكثيرة المستعدة لابتزاز أي مستثمر".