إذا كنتَ سورياً، وتملك بطاقةً ذكية، فأنتَ ضمنتَ، حكماً، تذكرتك اليومية لدخول طابورِ القهر، كمشتركٍ دائم، فليس الجوع ولا الانتظار أكثر ما يؤلم السوريين، بل أكثر ما يوجعهم، أنهم يُحشرون في صفوفٍ طويلةٍ، بانتظار حصّتهم (المُخجلة) من منافذ الحياة الشحيحة، وبسببها يتجرّعون شتّى ألوان الذلّ والاستعباد.
فكلّ سوريّ يمضي في طريقِ البؤسِ حاملاً بيده بطاقته الذكية، التي باتت أشبه بهويّةٍ شخصية لا يمكن الاستغناء عنها، ففي سوريا فقط، من يفقد البطاقة يجوع، ومن يملكها يُذلّ، وما بين هذين الخيارين يعيش الشعب (الصامد!) أكبر مأساة اقتصادية واجتماعية منذ مئة عامٍ على الأقل.
أبو محمود الذي يقف أمام فرن جبّ حسن في اللاذقية، للحصول على ربطة خبزٍ، يعبر عن استيائه الشديد بينما يشير لبطاقته الذكية "هذه ليست بطاقةً للحصول على الخبز الذي لا يُؤكل غالباً، بل بطاقة الدخول إلى عالم الذلّ وقلّة القيمة"، ليؤكد إبراهيم، وهو طالب جامعي، ينتظر بدوره أمام الفرن الذي شهد عراكاً بالأيدي منذ قليل، والذي قد يصل في مناطق أخرى حدّ الطعن، بالإضافة إلى تدافعٍ مهينٍ تكون ضحيته النساء "من المعيب ما يحصل، أن تقف في الطابور يعني أن تربّي عداوةً مُسبقةً مع المنتظرين مثلك، هذه البطاقة أشبه بتدريبٍ على الكره والانتقام من ابن البلد، الذي يتحوّل بفضل الطوابير إلى عدوّ محتمل يجب سحقه إن تجرّأ على أخذ دورك".
"الانتظار ليس مشكلة"
بطاقةُ الذّكاء السورية، التي أصدرتها حكومة النظام، تعبر عن غباءٍ وبيروقراطية وفسادٍ، فهي نافذة الخدمة الوحيدة المتاحة للسوريين الذين يواجهون بوادر مجاعة قادمة، بينما لا يحصل العازب والعازبة على بطاقةٍ؟!، أم صفوان التي فقدت ثلاثة من أولادها في الحرب، تقول بعينين دامعتين بينما تنتظر معونتها عبر بطاقةٍ مخصّصةٍ لضحايا الحرب "هل هذا جزاء ما قدّمناه للوطن؟!، أحدهم سيخرج الآن، مثل العادة، ويقول المعونات تأجّلت أو انتهت، ليسرقوها لاحقاً، والله الذلّ يُوجع، يوجع أكتر من الرصاص يا ناس"..، وطوابير البنزين ليس أفضل حالاً، فتشاهد صفاً طويلاً من الوجوه الشاردة في القهر، بينما تتقدم سيارة فارهة متجاوزة مئات السيارات، تنحني لها رؤوس أصحاب الكازية، تحصل على حصتها الكاملة من البنزين، وتمضي دون أدنى تعليق من أحدهم، يعلّق شاهين بعد تنهيدة عميقة "هذا البلد لم يعد صالحاً للحياة، بلد يذلّ أبناءه هو غربة وكربة"، ليعلّق أبو لؤي بدوره "الانتظار ليس مشكلة، اعتدنا انتظار الفرج والأمل وانتهاء الحرب والأزمات، لكن أكثر ما يقهرنا أنّ شخصاً مسؤولاً يأتي ليأخذ دوركَ وحصّتكَ ببساطةٍ، وأنت لا تستطيع الاعتراض، لأنك حشرة حقيرة بنظرهم، هي البلد مو إلنا هي البلد لحراميتها".
اقرأ أيضاً: البطاقة الذكية.. من لم تصله رسالة خسر حصته من السكر والرز
بطاقة ملعونة
سوريّو الداخل، مسكونون بلعنة البطاقة الذكية، الأشبه بحبلٍ متينٍ يُشدُّ على رقابهم، وما من حلّ أو خلاص، تقول أم محمود التي تبلغ السبعين من عمرها "الذلّ جوع أيضاً، عندما أحمل هذه البطاقة الملعونة يغصّ قلبي، أشعر أني أبيع كرامتي كرمى لرغيف خبز أو كيلو رزّ أو أنبوبة غاز"..، ولا شكّ أنّ هذه البطاقة باتت تثير غضبَ الشارع الموالي، وتزيد من احتقانه يومياً، خاصة بعد تصريحات المسؤولين التي تبلغ حدّاً كبيراً من الوقاحة وانعدام المسؤولية، يقول فارس بابتسامة صفراء "المدير العام للمخابز يقول إنّ سبب أزمة الخبز هي زيادة الطلب عليه، وهناك من يدعو السوريين إلى صنع الخبز في بيوتهم، بينما الطحين غير متوفر، وهل هناك وقاحة وقلة شرف أكثر من ذلك؟!، وإن حدثت أزمة بنزين يقولون إنّ مصفاة بانياس قد تعطّلت، وخلال أزمة الكهرباء يتحجّجون بأنّ المسلّحين هم السبب، وفي الواقع الكهرباء السورية تُباع للبنان، يضيف بغصّةِ قهر: نعيش ببلدٍ أشبه بقبرٍ، وتحت رحمة مسؤولين يستعبدوننا عبر بطاقةٍ تافهةٍ كأخلاقهم الوضيعة"، وصديقه خالد، بدوره، يعلّق بعبوس "عندما يذهب المواطن إلى مراكز التوزيع ويشتكي من عدم استلامه رسالة البونات لمدّةٍ تتجاوز الشهر، يتم إلقاء اللوم على المواطن، واتهامه بتعبئة معلوماته الشخصية بشكل خاطئ في بيانات البطاقة الذكية، إنهم يسرقونك، ويستغبونك، وعلى عينك يا تاجر".
اقرأ أيضا: غباء "البطاقة الذكية"يرهق المواطنين في مناطق سيطرة نظام الأسد
من المؤكد أنّ الطوابير التي تغصّ بها الشوارع السوريّة، تشبه قيامة الفقر، لشعبٍ يبدو كأنّه في يوم الحشر، يتكدّسون، كما تتكدس آمالهم بحلّ قريبٍ لبؤسهم، يتهامسون فيما بينهم عن بلدٍ لا يملكون فيه شيئاً، فالبطاقة الذكية ليست هي باب احتيال وفساد ضاعفت معاناة السوريين، وغطاء لنظامٍ يعجز عن إطعام شعبهِ، بل هي سياسة واضحة لصرف طاقة السوريين المتبقية في اللهاث وراء لقمة العيش المغمّسة بالذلّ، وأبسط ما يُقال عنها (بطاقة: ما قلّ وذلّ).