دفعت الأزمة الاقتصادية في سوريا العديد من المدرسين والمعلمين من كلا الجنسين، ذكورا وإناثا، لترك العمل في مهنة التعليم، بحثاً عن أي مهنة أخرى تعين على تأمين لقمة العيش في مناطق سيطرة النظام السوري.
ومنذ سنوات تتحدث وسائل الإعلام التابعة أو المقربة من النظام السوري عن وجود أزمة عميقة في المرافق التعليمية في المدارس والثانويات وحتى المعاهد المتوسطة والجامعات.
والسبب الأساسي وراء ذلك هو انخفاض رواتب المعلمين إلى الحدود الدنيا التي قد يحصل على أفضل منها أي عامل يعمل في سوق الهال (سوق الخضراوات والفواكه) بدمشق.
ورصد موقع "تلفزيون سوريا" عدة حالات لمعلمين تركوا السلك التعليمي عبر تقديم استقالاتهم نهائياً وبدؤوا العمل في المطاعم والمقاهي وتوصيل الطلبات وما إلى ذلك من المهن التي قد لا تحتاج مهارة عالية أو حرفة.
"الشهادة العلمية في سوريا بلا قيمة"
خلف "كاشير" أحد المطاعم في حي الميدان بدمشق، يعمل معلم مادة التاريخ أحمد الباشا، بعد 7 سنوات من العمل في التعليم، حيث تراجع دخله المادي لدرجة كبيرة لم يعد قادراً خلالها على تأمين لقمة العيش.
وقال الباشا في حديثه مع موقع "تلفزيون سوريا، إن "الشهادة العلمية لم تعد ذات قيمة في سوريا، يعني درست 4 سنوات تاريخ، وتعينت في إحدى المدارس القريبة من هنا، وبقيت أعمل لأكثر من 7 سنوات، بالبداية كان الراتب جيداً إلى حد ما، لكن فيما بعد تحول الأمر إلى تضييع وقت".
وأضاف أن راتب الـ 200 ألف ليرة لا يكفي كلفة غداء لعائلة من أربعة أشخاص، ما يعني أنني سأعيش بدون ثمن خبز إلى آخر الشهر.
وأكّد على أن المشكلة الأساسية ليست فقط بالرواتب، حتى إن مدرسي التاريخ لا يقدمون دروسا خصوصية إلا ما ندر، متسائلا ما هو الذي لا يفهمه الناس بالتاريخ حتى يحصلون على دروس بها؟
ولفت إلى أن هذا الوضع يشمل العديد من التخصصات المشابهة مثل الجغرافيا والفلسفة والموسيقا والرياضة والتربية الإسلامية وحتى علم الأحياء.
ولفت إلى أنه بدأ العمل في المطعم منذ 3 سنوات بشكل جزئي بعد دوام المدرسة، وكان يحصل على 4 إلى 5 أضعاف راتبه بالتعليم.
وأشار إلى أن العمل الخاص في سوريا هو أفضل بجميع الأحوال من العمل في سلك التعليم أو الوظيفة الحكومية.
وبيّن أنه بعد استقالته التي دفع عليها رشوى وصلت لـ 3 ملايين ليرة حتى قُبلت منه، تفرغ للعمل وراء الكاشير لـ 12 ساعة باليوم وبدون عطلة أسبوعية إلا ما ندر.
"جلي الفناجين والصحون أحسن من التدريس"
ولم يكن الحال أفضل بالنسبة لغصون التي عملت مدرّسة ابتدائية بديلة لخمس سنوات متتالية بدمشق.
وقالت غصون لموقع "تلفزيون سوريا"، إنها تحب العمل بالتدريس جداً، وأن التعامل مع الأطفال من أروع ما يكون، لكن المتعة لا تجلب الخبز لعائلتي وأهلي.
وأضافت غصون التي تساهم في إعالة جزء كبير من عائلتها، أن العائلة في سوريا اليوم تحتاج أقل ما يكون لـ 7 أو 8 ملايين ليرة سورية بالشهر، وكان دخلي من المدرسة يصل لـ 200 ألف ومع الدروس الخصوصية أحصل ما يقارب الـ 600 ألف ليرة، ولكن هذا المبلغ لا يكفي شيئاً.
ولفتت إلى أن العمل في جلي الصحون وأواني المقهى يؤمن لي من ضعفين إلى 3 أضعاف المبلغ السابق.
وأشارت إلى أنه توجد حياة موازية هنا في دمشق، توجد مقاه في حي المالكي وأبو رمانة قد تصل الفاتورة لثلاثة أشخاص إلى عدة ملايين، وصاحب المقهى يوزع "البقشيش" على الجميع لذلك نحصل على إضافي جيد، ويختلف من شهر لآخر.
وشددت الخريجة من فرع علم النفس بكلية الآداب في جامعة دمشق، على أنه يعز عليها أن تعمل في هذا المجال بعد سنوات الدراسة والتحصيل العلمي ولكن "ليس باليد حيلة".
التجارة أفضل من التعليم
أبو سامر، مدرس التربية الإسلامية بإحدى ثانويات دمشق، منذ 14 عاماً، فضّل العمل في بيع الخضراوات والفواكه بمحل مع شريك له على الاستمرار في التدريس.
وقال أبو سامر لموقع "تلفزيون سوريا"، يعني أن تكون مدرساً للتربية الإسلامية لهو شرف كبير ومهمة رفيعة لأي إنسان، ولكن كيف يمكن تأمين مصاريف البيت والعائلة، التكاليف لا يمكن تحملها.
وأضاف أبو سامر أن الاستقالة من الكادر التدريسي اليوم من أصعب ما يكون، ولها تبعات قانونية وقضائية ليست بسيطة إن لم تتم الموافقة الإدارية النهائية عليها.
وأشار إلى أن "العمل في التجارة أياً كان نوعها، ورغم الخسائر التي قد تتعرض لها، إلا أنها أفضل من التعليم من الناحية المادية، وهو كلام مؤسف وغير صحي، ولكن ليس لدينا خيارات أخرى".
وكان أبو سامر يدرس إلى جانب التربية الإسلامية، مادة اللغة العربية، بدروس خصوصية، ولكن مع ذلك يرى أن الناس ليس لديها الإمكانية لدفع الأجور فكان يستحيي منهم.
وبيّن أبو سامر أنه أسبوعياً يقدم دروسا خصوصية مجانية أو شبه مجانية لمن يقصده من المعارف والأصدقاء لتدريس أبنائهم، ليبقى على اتصال مع التعليم.
الاستقالة ليست بالأمر الهين في سوريا
ويعد التقدم بطلب الاستقالة من الوظيفة الحكومية، وخصوصاً من الكادر التعليمي أصعب من تقديم الطلب للحصول على وظيفة، بسبب قلة الكادر التعليمي بشكل كبير في سوريا، نتيجة الهجرة الكبيرة للكادر التدريسي إلى خارج البلاد، وانخفاض قيمة الرواتب، مع الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد.
وتعد الاستقالات من قطاع التعليم بين الأعلى في الدوائر والمؤسسات الحكومية مناطق سيطرة النظام مقارنة بالقطاعات الأخرى.
وفي حزيران 2023، أصدر مدير التنمية الإدارية في وزارة التربية السورية سامر الخطيب تعميماً لمديريات التربية يقضي بعدم قبول طلبات الاستقالة، وعدم رفع طلبات استقالة الفئة الأولى إلى الإدارة المركزية.
ويحتاج من يتقدم بطلب استقالة إلى موافقة أمنية تخص الأنشطة والمعاملات للموظفين والعاملين في الدولة.
ويستثني التعميم حالات محددة مثل من تجاوز 30 سنة عمل، والحاصلين على إجازة سنوية بلا راتب لمدة سنتين متتاليتين، والعامل الذي لديه وضع صحي يمنعه من مزاولة عمله، وكذلك حالات لم الشمل والالتحاق بالشريك، إلا أن معظم المتقدمين بطلبات الاستقالة من الحالات السابقة يخضعون لمساءلة من الفروع الأمنية المختلفة في سوريا.
وفي كانون الأول الماضي، أعلن وزير التربية والتعليم في حكومة النظام السوري عامر مارديني، فتح باب الاستقالة للمعلمين والمدرسين بشرط قضائهم في الخدمة 30 عاماً فما فوق وتأمين البديل، مشيراً إلى أن تلك الاستقالات لن تؤثر على "العملية التربوية"، وهو في مضمونه قرار مشابه لقرار مدير التنمية الإدارية بالوزارة إلا بتفاصيل بسيطة.
وعادة ما ينجح المدرس في الحصول على طلب الاستقالة من خلال دفع الإتاوات والرشى في مديريات التربية والتعليم والوزارة، وبالطبع مع الحصة المحفوظة سلفاً لضباط المخابرات والأجهزة الأمنية التي تبدأ القصة بتوصية منهم.