رغم الغموض الذي رافق لقاء رئيس النظام السوري بشار الأسد والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلا أن تصريحات الأخير حول تفاقم الأوضاع في الشرق الأوسط فتحت الباب أمام تأويلات عديدة، فاللقاء المفاجئ، الذي غاب عنه الإعلان الرسمي والشخصيات المرافقة، استمر لساعتين فقط، قبل أن يعود الأسد إلى دمشق، تاركاً وراءه سيلاً من التكهنات والتساؤلات بشأن القضايا التي نوقشت داخل قاعة الاجتماع.
التساؤلات دارت حول هدف اللقاء، وإذا ما كان بوتين يسعى لترتيب أوراق العلاقة بين النظام السوري وتركيا، خاصة مع تسارع التصريحات من مسؤولين أتراك ووسائل إعلام تركية حول إمكانية عقد لقاء بين الأسد والرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
أم أن هناك رسائل أخفتها تصريحات الرئيس الروسي وتتعلق بتصعيد محتمل في الشرق الأوسط، خصوصاً مع الحديث عن احتمالية اشتعال جبهة لبنان، التي قد تطلق شرارتها حادثة مقتل عدد من الأشخاص في مجدل شمس بالجولان السوري المحتل وكيفية تعامل الأسد معها.
ما وراء اللقاء؟
تأتي زيارة الأسد إلى موسكو في وقت حساس مليء بالتحديات وتسارع الأحداث في المنطقة، خصوصاً فيما يتعلق بالملف السوري الذي يشهد تغيرات تشمل تعديل مواقف العديد من الدول تجاه النظام، بما في ذلك إعادة العلاقات السياسية وفتح السفارات في دمشق.
ورغم أن الكثير من التحليلات سلطت الضوء على أن اللقاء ركز على مناقشة ملف التطبيع بين النظام السوري وتركيا، إلا أن الموضوع الرئيسي كان هو "الوضع في المنطقة المحيطة بسوريا" حسب ما صرح به متحدث الكرملين دميتري بيسكوف.
وقال بيسكوف إن "موضوع التسوية السياسية والوضع في المنطقة المحيطة بسوريا كان الموضوع الرئيسي في الاجتماع"، مضيفاً "بشكل عام، كان هناك تبادل واسع النطاق لوجهات النظر حول كافة المواضيع المتعلقة بالوضع في المنطقة، حول سوريا بالطبع".
ونقلت "روسيا اليوم" عن مصادر بأن "الغاية الجوهرية من اللقاء كانت البحث المعمق في التطورات السياسية والعسكرية الحاصلة في الشرق الأوسط، وما تقتضيه من تبادل للآراء حيال التعامل المشترك مع هذه التطورات".
وأشارت إلى أنه لم يجرِ بحث موضوع اللقاء المحتمل بين الأسد وبوتين، كما لم يطلب الرئيس الروسي من الأسد لقاء أردوغان، باعتبار أنه على اطلاع مسبق عبر مبعوثه الخاص ألكسندر لافرنتييف على موقف الأسد حيال العلاقة مع تركيا.
وكان لافرنتييف زار دمشق في 26 من الشهر الماضي، والتقى الأسد الذي أكد انفتاحه على جميع المبادرات المرتبطة بالعلاقة مع تركيا، ما أعطى إشارة إلى إمكانية لقاء أردوغان والبدء بالتجهيزات لعقد الاجتماع.
من جانبه أكد الدبلوماسي السابق والمحلل السياسي، رامي الشاعر، أن اللقاء بين الرئيسين كان بروتوكولياً وجاء برغبة من الأسد لتقديم التهاني بمناسبة الذكرى الثمانين على العلاقات الروسية-السورية.
واعتبر الشاعر في حديث مع موقع "تلفزيون سوريا" أن اللقاء الأخير لم يحمل رسائل جديدة تتعلق بتغيرات جوهرية في السياسة، وإنما حمل نصائح روسية بشأن التجاوب مع الجهود لإعادة العلاقات بين سوريا وتركيا بسبب أهميتها الضرورية لمساعدة سوريا في تجاوز أزمتها الاقتصادية المتفاقمة، ووقف التدهور المستمر، إلى جانب التأكيد على الدور الهام الذي يمكن أن تلعبه تركيا في تهيئة الأجواء للحوار السوري-السوري وتسوية الأوضاع في شمالي سوريا.
وحسب الشاعر، فإن تركيا والنظام لم يبحثا مكان وتوقيت انعقاد قمة أردوغان-الأسد حتى الآن، متوقعاً أن تعقد القمة قبل نهاية العام الحالي إما في منطقة حدودية بين البلدين أو في إحدى الدول المجاورة.
وذكرت صحيفة "تركيا" المقربة من حزب العدالة والتنمية الحاكم، أن اللقاء بين الرئيسين سيكون خلال الشهر المقبل على أقصى تقدير، في حين تدرس أنقرة خيار عقد القمة في معبر كسب الحدودي بعدما طُرحت العاصمة بغداد مكاناً للقاء.
ولن يؤدي اللقاء في حال انعقاده إلى تطبيع العلاقات بين البلدين بشكل كامل، وإنما الحديث يدور حول التركيز على ملفين رئيسين، حسب الشاعر، الأول هو ملف اللاجئين السوريين في تركيا، والثاني هو ضبط الحدود المشتركة، حيث "لا يمكن أن تستقر المناطق الحدودية إلا عبر تعزيز سيطرة السلطات المركزية على المنطقة"، حسب وصفه.
ماذا وراء تصريحات بوتين؟
لم يتجاوز التسجيل المصور الذي نشره الكرملين خلال استقبال بوتين للأسد الدقيقتين، ومع أن تصريح الرئيس الروسي كان مقتضباً إلا أنه حمل إشارات مهمة حول إمكانية تصعيد الوضع في الشرق الأوسط.
وقال بوتين: "أنا مهتم جداً بمعرفة رأيكم حول كيفية تطور الوضع في المنطقة ككل، ولسوء الحظ، تميل الأمور إلى التفاقم، كما نرى، وهذا ينطبق أيضاً على سوريا بشكل مباشر".
ووفقاً للمتحدث باسم الكرملين، فإن الوضع في المنطقة المحيطة بسوريا كان الموضوع الرئيسي في الاجتماع، في حين ذكرت "رئاسة الجمهورية" أن الأسد بحث مع بوتين خلال "زيارة عمل" إلى موسكو "الوضع في منطقة الشرق الأوسط والتطورات المتسارعة التي تعيشها، وجوانب التنسيق المشترك للتعامل معها".
وتعكس تصريحات بوتين القلق الروسي من مخاطر تصاعد الاضطرابات المرتبطة بما يجري في غزة واندلاع حرب شاملة بين إسرائيل وحزب الله، حسب المحلل السياسي محمود علوش، الذي اعتبر أنه لا يمكن عزل سوريا عن الحرب في حال اندلاعها، خاصة أنها تأتي في سياق مواجهة أوسع في المنطقة بين إسرائيل والمحور الإيراني.
وبينما يرى علوش في حديث مع موقع "تلفزيون سوريا" أن هذه التصريحات تشير إلى أن روسيا ترغب في تحييد سوريا عن ارتدادات أي اضطراب إقليمي أكبر من الوضع الذي نشهده اليوم، اعتبر الشاعر أن تصعيد التوتر في الشرق الأوسط الذي أعلن عنه بوتين "شيء واقعي في الظروف الحالية".
وحسب الشاعر فإن الأهم من ذلك هو تدهور العلاقات الروسية-الأميركية ومن خلفها حلف الناتو إلى أدنى مستوياتها، حيث يزيد التوتر مع واشنطن والناتو اللذين يمتلكان قواعد عسكرية كبيرة في الشرق الأوسط، معتبراً أن قرب منطقة الشرق الأوسط من الحدود الجنوبية لروسيا يجعلها ذات أهمية قصوى للأمن القومي الروسي.
وأشار الشاعر إلى أن هذه الديناميات تؤدي إلى تصاعد التوترات في المنطقة، و"تتجاوز مسألة فتح جبهة في لبنان مع إسرائيل أو حتى مع إيران وسوريا"، لافتاً إلى أن هذا التوتر يؤثر بشكل مباشر على حل الأزمات في الشرق الأوسط، بما في ذلك الأزمة السورية، حيث يعيق الجهود الرامية لتحقيق الاستقرار.
من جانبه، اعتبر الباحث في الشأن السياسي نضال السبع أن تصريحات بوتين هي مؤشر على امتلاكه "معلومات استخباراتية بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يتجه إلى توسيع نطاق المعركة، وبالتالي محطة نتنياهو في الكونغرس كانت بمثابة دعم له للانطلاق إلى المرحلة الثانية من استكمال العمليات العسكرية ضد لبنان وربما أيضاً تكون ضد سوريا".
وقال السبع لموقع "تلفزيون سوريا" إن نتنياهو منذ بدء السابع من أكتوبر صرح أن إسرائيل تتجه إلى تغيير وجه الشرق الأوسط، وهذا لا يتم بعملية عسكرية مقتصرة على غزة أو رفح وإنما بحاجة إلى عملية كبرى، معتبراً أن "الإسرائيليين منذ انطلاق العمليات يعرفون تماماً إلى أين يتجهون".
اختبار صعب
منذ إعلان حزب الله اللبناني انخراطه في حرب غزة عبر فتح جبهة "مساندة ودعم" على الحدود اللبنانية، تشهد المنطقة تصعيداً مستمراً، تخللته تبادلات نارية وتحركات عسكرية على جانبي الحدود، إلى جانب القصف اليومي الإسرائيلي الذي أدى إلى مقتل العشرات من قيادات الحزب.
آخر هذه التصعيدات كان حادثة قصف مجدل شمس في الجولان السوري المحتل، حيث قتل 12 شخصاً من جراء سقوط صاروخ على ملعب لكرة القدم، وفي الوقت الذي نفى فيه الحزب مسؤوليته، أكد مسؤولون إسرائيليون وقوفه وراء القصف.
وخلال الساعات الماضية، تصاعدت التهديدات الإسرائيلية بتوسيع العمليات العسكرية في الشمال، ما زاد من احتمال تفجر الوضع في المنطقة، حيث يقف الجميع على أطراف أصابعهم بانتظار تطورات قد تشعل شرارة مواجهة جديدة.
وقال رئيس الأركان الإسرائيلي هرتسي هليفي في تصريحات صحفية إن "الجيش رفع جاهزيته إلى المستوى التالي للقتال في الشمال"، في حين صرح وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس أن "حزب الله تجاوز الخطوط الحمراء، وإن إسرائيل تقترب من حرب شاملة معه".
وعلى الرغم من نأي النظام بنفسه عن الحرب وعدم الانخراط والانجرار إليها، خلال الأشهر الماضية، فإن اندلاع حرب شاملة بين تل أبيب وحزب الله ستكون اختباراً للأسد، حسب علوش، الذي اعتبر أن الحرب في حال اندلاعها لن تقتصر على لبنان فقط، وإنما سيكون لها ارتدادات كبيرة على سوريا، خاصة أن تل أبيب ستسعى إلى قطع خطوط الإمدادات العسكرية عبر الأراضي السورية.
وأشار علوش إلى أن أولوية الأسد في هذه المرحلة هي حماية نظامه من هذه المخاطر الإقليمية، وسيسعى قدر الإمكان إلى النأي بنفسه عن الحرب وعدم الانخراط فيها، مؤكداً أن التواصل بين موسكو ودمشق حول هذه النقطة يرتكز على فكرة كيفية عزل سوريا عن أي اضطراب إقليمي واسع بالمنطقة في المستقبل.
ويبقى السؤال هل الأسد قادر على عزل سوريا عن الحرب؟ علوش أوضح أنه لا يمكن عزلها بشكل كامل، بسبب الوجود الإيراني ومحاولة طهران استثمار وجودها على الأراضي السورية من أجل الضغط على إسرائيل، خاصة عبر جبهة الجنوب في حال تطور هذا الاضطراب إلى حرب شاملة بين إسرائيل وحزب الله.
ويرى أن الأسد لن يكون قادراً على منع إيران من استخدام الأراضي السورية من أجل الانخراط في هذه الحرب، مؤكداً أن "الأسد سيكون أمام اختبار صعب، لكنه سيسعى قدر الإمكان للحد من تداعيات هذه الحرب على سوريا".
أما الباحث في الشأن الإيراني، محمود البازي، فاعتقد خلال حديث مع موقع "تلفزيون سوريا" أن المعادلة في سوريا هي الحفاظ على صمت الجبهة السورية وتحييدها، ويبدو أن هذا نتيجة توافق روسي سوري، كما أن زيارة الأسد إلى روسيا كانت في الأساس للحفاظ على هذا التحييد في ظل الصراعات المحتملة القادمة.
طريق إمداد
على مدى الأشهر الماضية، ورغم عدم انخراط نظام الأسد في الحرب المرتبطة بغزة، إلا أن تل أبيب شنت حملة خفية وكثفت من ضرباتها السرية في سوريا مستهدفة شاحنات ومخازن أسلحة تابعة لإيران وحزب الله، بهدف قطع طريق الإمداد من طهران إلى جنوب لبنان مروراً بالعراق وسوريا.
وحسب الباحث في الشأن السياسي نضال السبع، فإنه رغم عدم انخراط النظام في سوريا عسكرياً في الحرب بعد نصيحة من أحد الزعماء العرب، لكن سوريا "توفر خطوط الإمداد لحزب الله والإيرانيين في سوريا وجنوب لبنان".
وكان موقع "أكسيوس" كشف في تشرين الأول العام الماضي، عن تحذير وجهه الرئيس الإماراتي محمد بن زايد إلى الأسد بعدم التدخل في الحرب بين حماس وإسرائيل، أو السماح بشن هجمات على إسرائيل انطلاقاً من الأراضي السورية.
وتابع السبع "صحيح أن سوريا ليست منخرطة مباشرة في مواجهة إسرائيل أو فتح جبهات قتال، لكنها توفر خطوط إمداد حيوية للمحور الإيراني وحزب الله، ولو لم يكن هناك هذا الرابط الجغرافي، لما استطاع حزب الله مواصلة عملياته العسكرية".
وحسب البازي فإن إيران والأسد باتوا مقتنعين بالمعادلة الجديدة القائمة على أن "سوريا خارج وحدة الساحات، لكنها داخل محور المقاومة" وهذا يوفر معادلة ربح-ربح للطرفين. بمعنى أن لا أحد اليوم ينتظر تفعيل الجبهة السورية في أي صراعات قادمة وذلك بفعل عوامل متعددة، أحدها الضغط الروسي.
وأكد أن سوريا لم تخرج نفسها مما يسمى محور المقاومة، بمعنى أنها ستبقى حلقة الوصل بين إيران وحزب الله طالما أن ذلك لا يدخلها في مواجهة مفتوحة، أما إيران فإنها تتعامل اليوم مع هذا الأساس ولذلك هي تحافظ وتقوي المسارات اللوجستية لطرق الإمداد لحزب الله وتستمر في دعمها له.
واعتقد البازي أنه ما لم يتم تغيير راديكالي في هذه المعادلة، فإن ظروف فتح جبهة لبنان لن يغير من الموقف السوري أو الإيراني شيئاً.