فتح طارق بن زياد شبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال) عام 711م بعد عبوره المضيق الذي ارتبط منذ ذلك الحين باسمه "مضيق جبل طارق"، ومن ثم انتصاره على حاكم إسبانيا رودريك (لذريق في المصادر العربية المعاصرة) ومقتله في معركة (وادي لكّة) الشهيرة.
ومنذ ذلك الحين وصولاً إلى عام 1492م، حكم العرب المسلمون تلك الأراضي التي باتت تُعرف بـ (الأندلس) نسبة إلى قبائل (الوندال/ Vandals) الجرمانية التي نزحت إلى إسبانيا وانتقل جزء كبير منها أيضًا إلى شمالي أفريقيا.
ونُميّز في تلك القرون التي قاربت الـ8، سبع مراحل/ عصور رئيسة بحسب الأحداث التاريخية وأنظمة الحكم التي مرّت بها، وهي:
- عصر (الولاة) في عصر الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك 711-750م.
- عصر (الإمارة) الأموية التي بدأت مع وصول عبد الرحمن الداخل (صقر قريش) إلى الأندلس.
- عصر (الخلافة) الذي أعلنه الأمير عبد الرحمن الثالث/ الناصر 891- 961م.
- عصر (ملوك الطوائف) 1031- 1091م.
- (المرابطون) 1106-1143م، فـ(الموحدون) قبل أن تنقسم مجدداً إلى (ملوك طوائف) مرة أخرى ويزول الحكم العربي/ الإسلامي في الأندلس بصورة نهائية مع دخول ملك الإسبان فرناندو الثاني مملكة غرناطة في الـ2 من كانون الثاني 1492م.
وشهدت الأندلس بداية استقرارها السياسي والاجتماعي والفكري مع وصول الأمير الأموي عبد الرحمن الداخل الذي فر من جيوش العباسيين في الشرق وأسس لحكم الأمويين في الأندلس، الذي استمر بين عامي 756 و1031م (عصر المرابطين).
السمات الحضارية للعرب في الأندلس
في القرن العاشر الميلادي كانت قرطبة -التي جعلها الداخل مقر إمارته- عاصمة الدولة الأموية في الأندلس، وكانت معروفة في الشرق والغرب بثرائها وتطورها، كما مثلت جسرًا بين الفلسفة اليونانية وأوروبا .
وتعرف فترة حكم العرب/ المسلمين في الأندلس بـ "العصر الذهبي" للعلم، إذ انتشرت المكتبات والمعاهد العلمية والحمامات العامة وازدهر الأدب والشعر والعمارة وأسهم المسلمون وغيرهم في هذه النهضة الثقافية.
كما تمتع أبناء الديانات الأخرى كاليهود والمسيحيين بحرية ممارسة شعائرهم وطقوسهم. وبصفة عامة كانوا يعاملون أفضل من غيرهم من الشعوب التي تعرضت للغزو في ذلك الزمن.
الشعر والشعراء في الأندلس
ما إن استقر الحكم العربي في الأندلس، حتى رحل إليها الشعراء وبدأ الشعر الأندلسي بالبروز والنمو والتنوّع الفنّي، ولم يمرّ الكثير من الوقت حتى نظم الأندلسيون أشعارهم لتكتسب نمطاً إبداعياً خاصاً.
وشاع فنّ الشعر داخل المجتمع الأندلسي، حيث لم يقتصر نظم الشعر على الشعراء المحترفين وحسب وإنما شاركهم الأمراء والوزراء والكتاب والفقهاء والفلاسفة والأطباء وأصحاب النحو واللغة وغيرهم.
وبسبب تكوينه الثقافي القائم على علوم اللغة العربية وآدابها، بالإضافة إلى طبيعة الأندلس المثيرة للعواطف والخيال، اكتسب المجتمع الأندلسي حسّاً شعرياً فطرياً وكأن معظم أهله تحولوا إلى شعراء.
إلا أن كل ذلك لا يلغي كون شعر الأندلس امتداداً للشعر العربي في المشرق الذي بقي الأندلسيون متعلقين به وبأهله، ومتأثرين بكل جديد فيه عن طريق الكتب التي تصل إليهم منه، أو العلماء الذين يأتون من الشرق أو بالعكس. وبالرغم من تقليد شعراء الأندلس لشعراء المشرق، إلا أن ذلك لم يمنعهم من الإِبداع والابتكار، والتميز بميزات تخصهم عن غيرهم.
وأضحى الشعر بشكل خاص يمثّل أحد أهم جوانب الحضارة العربية في الأندلس. كما أن من أكثر ما انتشر في تلك البلاد وظلّ خالدًا فيها هو الشعر العربي الذي تطور كثيراً وكَثُر ناظموه وفحوله من أمثال:
- ابن زيدون
- لسان الدين بن الخطيب
- المعتمد بن عباد
- ابن عبدون
- ابن عربي
- بشار بن برد
- ابن سهل الأندلسي
- ابن هانئ
- ابن خفاجة
- ابن شهيد الأندلسي
- ابن دراج القسطلي
- ابن هذيل
- ابن ميمون
- ابن عبد ربه.. وكثيرون غيرهم. وبعد أن ذهب كل أثر للعرب من الأندلس بقي الشعر.
خصائص الشعر الأندلسي وسماته
انفرد الشعر الأندلسي بمجموعة من الخصائص التي ميزت موضوعاته الرئيسة، سواء في الوصف -وخاصة وصف الطبيعة- وفي الغزل والرثاء، بالإضافة إلى الشعر الفلسفي.
ويُعتبر الوضوح والبساطة من أكثر ما تميّز به الشعر الأندلسي، والتلميح إلى الأحداث والوقائع التاريخيّة وخاصة المتعلّقة بأمر رثاء الممالك المندثرة، أما فيما يتعلق بتراكيب الأبيات الشعرية الأندلسية فتمتاز ألفاظها بالوضوح والسهولة ورقّة الأسلوب، وخلوها من الغرابة، والاهتمام بالصنعة اللفظيّة، كما بقي الشعر الأندلسي ملتزماً بالأوزان والقوافي في بداية ظهوره، إلى أن بدأ الأندلسيون مع مرور الوقت بابتداع أوزان جديدة خاصة بعد انتشار الغناء في المجالس.
وباستثناء شعر ابن هانئ الذي كان متأثراً بشعر المتنبي، خلت المعاني في شعر الأندلسيين من المبالغة، وأبدعوا بالتصوير والتخيّل، فحملت أبياتهم تشبيها واستعارات دقيقة. كما كثر استخدام البحور الخفيفة القصيرة في الشعر الأندلسي نظراً لتماشيها مع طبيعة الحياة السائدة من حبّ الغناء واللهو كما هي الحال في الشعر العباسي.
أغراض الشعر الأندلسي
من أبرز الأغراض التي تناولها الشعر الأندلسي وتفرّد بها:
- الوصف، وخاصة وصف الطبيعة.
- الرثاء، والذي يندرج ضمنه رثاء المدن والأماكن.
- الحنين إلى الموطن.
- الاستغاثة والاستنجاد.
- بالإضافة إلى الأغراض الشعرية الأخرى المعروفة، كالغزل والهجاء والمدح وغيرها.
الوصف/ وصف الطبيعة
تمتاز الأندلس بطبيعة ساحرة ووافرة الجمال، فجبالها الخضراء وسهولها الجميلة وأشجارها المتنوعة وجمال أصوات طيورها.. كل ذلك له كان له أثره في جمال الأندلس الذي انعكس على شعرها بشكل عام. فأصبح وصف الطبيعة من أبرز أغراض الشعر عند الأندلسيين الذين راحوا يتغنون بوصف جنانها ورياضها.
يقول ابن خفاجة:
يا أهل أندلس لله دركم ماء وظل وأنهار وأشجار
ما جنّة الخلد إلا في دياركم ولو تخيرت هذا كنت أختار
و قال آخر:
حـبذا أنـدلسٍ من بـلدٍ لم تـزل تنتج لـي كل سـرورْ
طـائرٌ شادٍ وظـلٌ وارفٌ ومـياهٌ سائحـاتٌ وقـصــور
ووصف الطبيعة بالعموم كان حاضراً في الشعر العربي منذ العصر الجاهلي، إذ وصف الشعراء صحراءهم وتفننوا في وصفها لكن هذا الوصف لم يتعد الجانب المادي. وفي العصر الأموي والعباسي عندما انتقل العرب المسلمون إلى البلدان المفتوحة وارتقت حياتهم الاجتماعية أضافت على وصف الطبيعة وصف المظاهر المدنيَّة والحضارة.
ولكن الجديد الذي جاء به الأندلسيون يتمثل في أن وصف الطبيعة أصبح من الأغراض والموضوعات الرئيسة التي عرف بها شعراء الأندلس.
و أفرد شعراء الطبيعة في الأندلس قصائد مستقلة ومقطوعات شعرية خاصة في هذا الغرض بحيث تستطيع هذه القصائد استيعاب طاقة الشاعر وخياله التصويري، فوصف اللوحات الطبيعية والصناعية مُمَثَّلة في الحقول والرياض والأنهار والجبال وفي القصور والحدائق والنوافير والأحواض .
ونظراً للاهتمام الزائد بها، أصبح شعر الطبيعة يحل محل أبيات النسيب في قصائد المديح، ويرافق أبيات الغزل بالحبيبة، وأبيات جلسات السهر والخمر. بل إن قصيدة الرثاء لا تخلو في أغلب الأحيان من جانبٍ وصفي للطبيعة.
ووصل الأمر بشعراء الأندلس إلى اعتبار المرأة صورة من محاسن الطبيعة وعناصرها الجمالية، فوصفوا المرأة بالجنة والشمس، وشبّهوا ملامح وجهها وجسدها بالورود والزهور والفاكهة.
من أشعار وصف الطبيعة
يصف الشاعر لسان الدين بن الخطيب مدينة غرناطة فيقول:
أحِنُّ إلى غَرناطة كُلمَا هفّت نَسيمَ الصّبا تهدي الجَوى وتشوقُ
سَقى الله مِنْ غَرناطةَ كُلَّ منهلٍ بمَنهلِ سُحبٍ ماؤهُنَّ هريقُ
ديارٌ يدورُ الحُسنُ بَين خِيامِها وأرضٌ لها قلبُ الشَجىِّ مشوقُ
وما شاقني إلى نَظارةُ مَنظرٍ وبَهجةُ وادٍ للعيونِ تَروقُ
وهذه أبيات في زهرة الياسمين للمعتضد بالله عباد بن محمد بن عباد يصفها مشبهاً إياها بكواكب مبيضة في السماء ويشبه الشعيرات الحمراء التي تنسرح في صفحتها بخد حسناء بدا ما بدا فيه من آثار فيقول:
إنما ياسـميننا الغضُّ كواكبٌ في السماء تبيضُّ
والطرق الحمر في جوانبه كخد حسناء مسه عضُّ
ويقول ابن حمديس في وصف النيلوفر:
ونيلوفرٍ أوراقه مستديرةٌ تفتَّح فيما بينهن له زهرُ
كما اعترضت خُضر التراس وبينها عواملُ أرماحٍ أسنَّتُها حُمرُ
هو ابن بلادي كاغترابي اغترابه كلانا عن الأوطان أزعجه الدهرُ
أما ابن زيدون، فيخاطب محبوبته (ولّادة) ابنة الخليفة (المستكفي) ويعبّر لها عن شوقه في أبيات يصف فيها جمال حدائق مدينة (الزهراء) التي جعلها الأمويون حاضرة الخلافة في الأندلس:
إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا والأفق طلق ومرأى الأرض قد راقا
وللنسيم اعتلال في أصائله كأنه رق لي فاعتل إشفاقا
والروض عن مائه الفضي مبتسم كما شققت عن اللبات أطواقا
يوم كأيام لذات لنا انصرمت بتنا لها حين نام الدهر سراقا
نلهو بما يستميل العين من زهر جال الندى فيه حتى مال أعناقا
الرثاء/ مراثي المدن
كانت مضامين قصائد الرثاء في كافة عصور الشعر العربي، بدءًا من الجاهلي وصولاً إلى الأندلسي، تتلخص في الحزن والبكاء على الفقيد ومدحه وإبراز أخلاقه الحميدة وصفاته الحسنة ومواقفه النبيلة.
إلا أن الرثاء في العصر الأندلسي تغيّر وتجدد في موضوعاته، منها ما كان رثاء للأهل والأقارب والأحبّة وللنفس أيضاً، وهو لا يختلف عن الرثاء المعروف في الشعر العربي عموماً، لكنه جاء أكثر عمقاً وصدقاً من رثاء سابقيه.
والجديد في فن الرثاء لدى الأندلسيين يتمثل في "رثاء المدن"، إذ ارتبط الشاعر الأندلسي بمدينته فأحبها ووصفها وعبّر عنها في أشعاره، كما صوّر الانتصارات وندب الحروب والانكسارات، وبذلك ظهر غرض رثاء المدن.
وصوّر الشعراء التدمير والتخريب الذي ألحقه الأعداء بديارهم، فكان ذلك التصوير بمنزلة موقف استنجاد ورثاء، والذي يسعون من خلاله إلى استنهاض الهمم وتحريك العزائم والمشاعر، ونظم العديد من الشعراء قصائد رثوا فيها مدن الأندلس التي تعرضت للغزو والخراب.
ويرثي (ابن شهيد) مدينة قرطبة في قصيدة يقول فيها:
فلمثل قرطبة يقل بكاء من يبكي بعين دمعها متفجر
دار أقال الله عثرة أهلها يبكي بعين دمعها متفجر
في كل ناحية فريق منهم متفطر لفراقها متحير
ورياح زهرتها تلوح عليهم بروائح يفتر منها العنبر
والدار قد ضرب الكمال رواقه فيها وباع النقص فيها يقصر
والقوم قد أمنوا تغير حسنها فتعمموا بجمالها وتأزروا
يا طيبهم بقصورها وخدورها وبدورها بقصورها تتخدر
وتعد مدينة بلنسية (فالنسيا) من أهم المدن الأندلسية التي أحرقها الروم وخربوا معالمها، فرثاها الكثير من الشعراء ومنهم ابن خفاجة الذي قال:
عاثَتْ بساحَتكِ العِدا يا دارُ ومَحا محاسِنَكِ البِلى والنَّارُ
وإذا تَردد في جَنابِكِ نَاظرٌ طالَ اعتبارٌ فيكِ واستِعبارُ
أرضٌ تقاذفَتِ الخُطوبُ بأهلِهَا وتمخَّضتْ بِخرابِها الأقدارُ
كتبتْ يدُ الحَدَثانِ في عَرصَاتِها لا أنتِ أنتِ ولا الدِّيارُ دِيارُ
الاستغاثة والاستصراخ والاستنجاد
برز في العصر الأندلسي أسلوب الاستغاثة في الشعر، والذي يعني أن يقوم الشاعر بالدعوة إلى العون وطلب النجدة ممن يمتلك القوة والقدرة، فكانت بدايات شعر الاستصراخ والاستغاثة بشكل جدي بعد انحلال دولة بني أمية وقيام الثورات، ومن ثم ازدهر في عهد الموحدين، فتميز بصورته الصادقة والمعبرة والمتأسيَّة، فكان الشاعر يستنجد من خلال قصيدته العرب، وغالبًا ما كان هذا الاستنجاد بأسلوب النداء.
كما تميزت الأشعار في هذا الغرض بدقة الألفاظ، وسحر الأسلوب، ومن الشعراء الذين وظفوا الاستغاثة والاستصراخ في أشعارهم، هو لسان الدين بن الخطيب، إذ يقول:
أإخْوانَنا لا تنْسَوا الفضْلَ والعَطْفا فقدْ كادَ نُورُ الله بالكُفْرِ أنْ يُطْفا
وإذْ بلغَ الماءُ الزُّبَى فتدارَكوا فقدْ بسَطَ الدّينُ الحَنيفُ لكُمْ كَفّا
تَحَكّمَ في سُكّانِ أندَلُسَ العِدَى فلَهفاً على الإسلامِ ما بينَهُمْ لهْفا
الحنين إلى الوطن
تعلّق شعراء الأندلس بأوطانهم ومدنهم، وضربت جذور الحنين في أعماقهم، ولعل السبب يتعلّق بجمال طبيعة الأندلس أيضاً. ومثّل الشعراء الحب الصادق والعفوي اتجاه أوطانهم، وعبّروا عن حنينهم لها وكأنها المحبوبة بأسمى معاني الحب والشوق والحنين.
فهذا ابن دراج القسطلي يبكي شبابه ويندب دياره فيقول:
فيا لَلشَّباب الغضِّ أنهج بُرْدُهُ ويا لَرياضِ الَّلهْوِ جَفَّ سَفَاها
وما هي إلا الشَّمْسُ حَلَّتْ بمفْرقي فأعْشَى عُيونَ الغانياتِ سَنَاها
وعينُ الصِّبا عارَ المشيبُ سَوادَها فَعَنْ أيِّ عَيْنٍ بَعْدَ تِلْك أُرَاها
سَلامٌ على شَرْخِ الشَّبابِ مُرَدَّدٌ وآهًا لِوَصْل الغانياتِ وآها
ويا لديار اللهو أقوَتْ وسُومها ومَحَّتْ مغانيها وصَمَّ صَدَاها
ومن أشعار ابن الخطيب في الحنين إلى الوطن قوله:
سَقَى اللهُ مِنْ غَرْنَاطَةٍ مُتبَوَّأ غَمَامًا يُرَوِّي سَاحَتَيْهَا سِجَالُهُ
وَرَبْعًا بِحَمْرَاءِ الْمَدينةِ آهِلًا أُمِيطَتْ عَلَى بَدْرِ السَّماءِ حِجَالُهُ
وَغَابًا بِهِ لِلْمُلْكِ أَشْبالُ ضَيْغَمٍ يَرُوعُ الأَعَادِي بَأَسُهُ وَصيَالُهُ
لَقَدْ هَاجَنِي شَوْقٌ إِلَيْهَا مُبَرَحٌ إِذَا شِمْتُ بَرْقَ الشَّرْقِ شَبَّ ذُبَالُهُ
الغزل
قُسم شعر الغزل في العصر الأندلسي إلى قسمين، فمن الشعراء من لجأ إلى الغزل العذري كأن يصف مشاعر شوقه وعشقه وحبه لمحبوبته من دون أن يصف جمالها الخارجي ومفاتنها، أما البعض الآخر فقد لجأ إلى الغزل الصريح والفاضح.
وكان الغزل عند الشعراء الأندلسيين عموماً رقيقاً وصادقاً، يتذكر الشاعر من خلال محبوبته بعد طول غياب، إذ جددوا في أشعارهم وأصبح الشعراء يلقون قصائدهم في مجالس الأمراء والحكام، ومنها قصائد ابن عبد ربه الذي يقول:
يا لؤلؤًا يَسْبي العقولَ أَنِيقا وَرَشًا بَتقطيعِ القُلوبِ رَفيقا
ما إِنْ رأَيْتُ وَلا سَمْعتُ بِمِثلهِ دُرّاً يعودُ مِنَ الحياءِ عَقيقا
وإذا نَظرتَ إِلى محاسنِ وجههِ أبصَرْتَ وجْهَكَ في سَناهُ غَريقا
يَا منْ تَقَطعَ خَصْرُهُ مِنْ رقَّةٍ مَا بالُ قَلْبِكَ لا يَكُونُ رَقِيقا
المدح
يُعد المدح من أهم الأغراض التي تناولها الشعر الأندلسي، ويتطابق هذا النوع من الشعر مع ما كان سائداً عند شعراء العباسيين، إذ كان المديح يقتصر على الأمراء والخلفاء والحكماء بهدف التقرب منهم.
وتميزت قصائد المدح بالجزالة، والأسلوب السلس الذي يحمل الفخامة والرقة في صوره ومعانيه، ولم يلتزم الشعراء الأندلسيّون بشكل واحد في قصيدة المدح، فالبعض كان ينهج نهج الأقدمين أي أن يقف في البداية على الأطلال، فيبدأ بمقدمة طللية من مديح وغزل، والبعض الآخر يلجأ إلى الموضوع مباشرة دون مقدمات طللية.
وظهر صنف جديد من شعراء المديح في الأندلس، وهم الشعراء الذين يلجؤون إلى وصف الطبيعة والشكوى والعتاب قبل الدخول في موضوع المديح. كما تأثّر البعض الآخر في مدائحه بنزعة عقلية خاصة، كان سببها الامتزاج الحضاري بين الثقافات.
ومن أهم شعراء المديح: ابن دراج القسطلي، وابن حمديس الصقلي، وابن هانئ الأندلسي الذي مدح إبراهيم بن جعفر بن علي في إحدى قصائده قائلًا:
قد مَرَرْنَا على مَغَانيكِ تلكِ فرأينَا فيهَا مَشابِهَ مِنكِ
عارَضَتْنا المَها الخوَاذِلُ أسْرا باً بأجراعِهَا فلمْ نَسْلُ عنكِ
لا يُرَعْ للمَها بداركِ سِرْبٌ فلقد أشبَهَتْكِ إن لم تَكُنْكِ
مُسعِدي عُجْ فقد رأيتَ مَعاجي يومَ أبكي على الدّيارِ وتبكي
الهجاء
تطور غرض الهجاء بشكل ملحوظ في العصر الأندلسي، وذلك لأسباب عدة من بينها السياسية ما أدى إلى ظهور الهجاء السياسي كهجاء (البربر) على سبيل المثال وهجاء الملوك والحكام والقبائل. وأسباب اجتماعية كانتشار تيار المجون فتمّ هجو أصحاب ذلك التيار، كما تم هجاء بعض طبقات المجتمع وكذلك الأهل والأقارب.
ولم يلجأ الشعراء إلى الهجو المباشر كما كان الحال عند العباسيين، وإنما لجأ أغلبهم إلى رسم صورة تشبيهية دالة على السخرية. كما لم ينفرد غرض الهجاء على الشعراء فقط، بل شاركتهم الشاعرات، كالشاعرة "ولّادة بنت المستكفي" و"مهجة" وغيرهن.
ومن أبرز شعراء الهجاء: أبو إسحاق الإلبيري، وابن هذيل، وابن ميمون، وابن الخطيب، وابن أبي الفتح الذي يهجو فيقول:
يا ناقِصَ الدّينِ والمُروءَةِ والْعَقْلِ ومُجْري اللّسانِ بالهَذَرِ
يا بغْلَ طاحونَةٍ يَدورُ بِها مُجْتهِدَ السّيْرِ مغْمَضَ البَصَرِ
في أشْهُرٍ عشْرَةٍ طحَنْتَهُمُ فَيا رَحى الشّؤمِ والبَوارِ دُري
الموشحات الأندلسية
ومن فنون الشعر الأندلسي الموشحات الأندلسية، وهي فن من فنون الشعر العربي المستحدثة، وتختلف الموشحات عن القصيدة التقليدية في قوافيها المتعددة وأوزانها المتنوعة.
ونشأت الموشحات في الأندلس أواخر القرن الثالث الهجري عند الفترة التي أشاع فيهم فن الموسيقا والغناء، ونتيجة هذا الازدهار أثر في ذلك الشعر .
كما نشأت الموشحات الأندلسية بسبب رغبة أهل الأندلس وحاجاتهم للتجديد والخروج على نظام القصيدة التقليدية، بحيث ينسجم هذا الأدب مع طبيعة أحوالهم الاجتماعية في هذه المرحلة، وتميز هذا النوع من الأدب عن غيره بعدة أمور منها خصوصية البناء وتميز اللغة واختلاف الإيقاع والموسيقا.
وارتبط الموشح، كفرع من الشعر العربي، حصريًا بزمن الأندلس. ومع ذلك، لا يوجد اتفاق بين العلماء على أصل هذا النوع من الشعر، والواضح أن الموشح الوحيد المسجل يعود إلى الأندلس وحدها والشعراء الأندلسيين.
وهذا لا يعني أن الموشح منفصل تمامًا عن تقليد الشعر العربي قبل الأندلس، على العكس من ذلك، فإن الصلة بين القصيدة العربية الكلاسيكية والموشح ضرورية، يعتمد الشكل الجديد على كسر البنية التقليدية للقصيدة وأهم وحدتها البيت.
ولعل أحد أهم الأسباب التي حافظت على هذا التراث من الاندثار والاختفاء هو انتقالها إلى بلاد المغرب العربي ومصر وبلاد الشام قبل سقوط الأندلس، مما حافظ عليها وطورها وأوصلها إلينا اليوم، لتبقى فنًا عربيًا أصيلًا ليس فيه عناصر دخيلة من الشرق أو الغرب، وتحتوي على كنوز من المقامات والأوزان والجماليات الموسيقية، ما يجعل أداءها حكرًا على الفنانين المقتدرين غناءً وعزفًا حتى زماننا الحاليّ، ورغم التطوير الذي أدخله بعض الموسيقيين على الموشحات، فإنها حافظت على روحها الخاصة ونكهتها المميزة، حيث إن المستمع العادي يميزها فورًا حال سماعها.
ومن الموشحات نستعرض ما كتبه ابن زهير الأندلسي:
أيها الساقي إليك المشتكى
قد دعوناك وإن لم تسمع
ونديم همت في غرته
وبشرب الراح من راحته
كلما استيقظ من نشوته
جذب الزق إليه واتكا
وسقاني أربعًا في أربع
ما لعيني عشيت بالنظر
أنكرت بعدك ضوء القمر
فإذا ما شئت فاسمع خبري
غشيت عيناي من طول البكا
وبكى بعضي على بعضي معي
غصن بان مال من حيث التوى
مات من يهواه من فرط الجوى
خافق الأحشاء موهون القوى
كلما فكر بالبين بكى
ويحه يبكي لما لم يقع
وليس أشهر من موشّح الشاعر لسان الدين بن الخطيب (زمان الوصل في الأندلس):
جادكَ الغيثُ إذا الغيـثُ همى يا زمانَ الوصلِ بالأندلسِ
لم يكنْ وصلكَ إلّا حُلُمَا في الكرى أو خلسةَ المختلسِ
***
إذ يقودُ الدهرُ أشتاتَ المنى
ننقل الخطوَ على ما ترسمُ
زمراً بين فُرادى وثنا
مثلمَا يدعو الحجيجَ الموسمُ
والحيا قد جللَ الروض سنا
فثغورُ الزهرِ فيه تبسمُ
وروى النعمانُ عن ماء السّما كيفَ يروي مالكٌ عـن أنَسِ
فكساهُ الحُسن ثوباً مُعلما يزدهي منه بأبهى ملبسِ
***
في ليالٍ كتمتْ سرَّ الهوى
بالدُجى لولا شموس الغُررِ
مالَ نجمُ الكـأس فيها وهوى
مستقيمَ السيرِ سعدَ الأثرِ
وطرٌ ما فيه من عيبٍ سوى
أنّه مرَّ كلمحِ البصرِ
حين لذّ النوم شيئاً أو كما هجمَ الصبح هجوم الحرسِ
غارتِ الشهب بنا أو ربما أثرت فينا عيون النّرجسِ