الشعوب التي تبدو في الظاهر خانعة راضية بقدرها، تبتكر أنواعا من الحريات السرية أو الحريات البديلة تكون عونا لها في بقائها الوجودي، وتحفظ لها الحد الأدنى من التوازن النفسي وتكون بمثابة تنفس سرّي، رغماً عن أنف الأنظمة الشمولية المتوحشة بكل أنواعها سياسية اجتماعية اقتصادية عقائدية.. فتثقب جدران قوقعتها التي صنعتها لنفسها بفعل الخوف والاستبداد، تثقب قوقعتها التي عاشت سجنها عقودا وقرونا، بأدوات خفيفة مثل السخرية العابرة للخطاب والفنون، حيث يخترع الأذكياء الشجعان نكاتا وطرفا ملغزة تغمز من قناة رموز الحكم والسلطة وتنتقد الأوضاع القائمة، فتتفنن تلك الطرف التي تطير عبر الألسن خلال ساعات لتطوف مجتمعا كاملا أو شعبا كاملا في لسع ووخز السلطة ورموزها فتفقأ أورام الخوف والاحتقان والغضب التي رست طويلا حتى رسخت في نفوس الجماهير المقهورة..
شعوب ساخرة بالفطرة:
يعتبر السوريون من الشعوب الجادة نسبيا والمتحفظة في خطابها اليومي على خلاف الشعب المصري مثلا الذي يميل للانبساط في الحديث، فقد غاب عن السوريين وخصوصا عن نخبهم في الأزمات الكبرى استحضار روح السخرية التي تحوّل المأساة إلى مادة ساخرة تطفو فوقها النفوس المقهورة فتنجو الروح من جحيم القهر وتخفف من وطئة القمع والحذر والخوف وثقلها على النفس..
تستخدم الدول السخرية والنكات لتمرير رسائل لأعدائها في الخارج أو حتى في الداخل، لشعوبها.. هذا ما فعلته مثلا روسيا في المواجهة مع أوروبا التي بدأت قبل ذلك حربها الوحشية على أوكرانيا، فلقد اتهم سفير روسيا لدى الاتحاد الأوروبي، فلاديمير تشيزوف، الغربيين بـ "الافتراء".. وقال في مقابلة مع صحيفة فيلت الألمانية "لن يكون هناك هجوم يوم الأربعاء".
ثم أضاف تشيزوف ساخرا: "نادرا ما تبدأ الحروب في أوروبا يوم الأربعاء" في إشارة مضمنة إلى أن الحرب العالمية الأولى بدأت يوم الثلاثاء، وبدأت الحرب العالمية الثانية في أوروبا يوم الجمعة.
وفي المقابل راحت نخبة من الأوكرانيين تتابع عروض المسرح الساخر، وأغلب عروضه سياسية، تنال من المعتدي الروسي وبوتين والجيش الروسي، بغاية التخفيف عن الأوكرانيين المصدومين من الحرب، علّ الضحك على الغزاة يعدل مزاجهم ويعيد لهم توازنهم النفسي ومزاجهم الطبيعي..
يمكن للسخرية أن تكون عاملا نفسيا بل فكريا يسهم بشكل جذري في تغيير الأراء السياسية، وما كان للسخرية ذات الطابع السياسي أن تكون بهذا التأثير لولا وجود ظرف سياسي مناسب.. فمع بداية الثورة السورية، ظهرت بضع صفحات ساخرة من أهمها صفحة "الثورة الصينية ضد طاغية الصين" و"مشحم حمص الدولي للدبابات" و"معاليق الثورة" وصفحة "حاجز + 18" وهي صفحات نقدية ساخرة تنال من النظام أو تنتقد ثغرات فصائل أو جهات سياسية معارضة.
لكن من الملاحظ أنه بعد هجرة ملايين السوريين وجزء لا بأس منهم من المعارضين للنظام لم تظهر صفحات جديدة ساخرة بقوة الصفحات السابقة الذكر التي ظهرت مع بداية الثورة، يعود ذلك ربما لكون نصف السوريين الذين يعيشون في الخارج، يعيشون بحرية، معقولة نسبيا، فهم يتحدثون مباشرة وصراحة ولا يحتاجون للتوريات والتشفير باختراع نكات وطرف.. فالسوريون خارج مناطق النظام كما خارج سوريا، وبعد عقود من الخوف والحذر من الحديث في السياسة، صار بإمكانهم إسقاط النظام في الشارع وشتم رموزه دون خوف وقد أخذتهم هذه الحالة الجديدة درجة الاستغراق التام.. فلم يلتفتوا إلى تأسيس صفحات ومنابر ساخرة.
قوة الطرفة:
للطرفة عدا دورها النفسي، في حالات الخيبة والعجز وهي حالات ليست نادرة في السنوات الأخيرة.. دور تحريضي غير مباشر، ويبدو كما أسلفنا أنه بسبب طبيعة الشعب السوري النفسية -التي ربما يشكل الحماصنة استثناء جميلا فيها - غاب عن نخبنا - داخل وخارج مناطق النظام- استخدام سلاح الطرفة، بحيث إنها بدت مقصّرة في استحضار حرية بديلة يمارس الشعب من خلالها النقد السياسي المموه دون خوف من عقاب، فالنكات رغم خطورتها على السلطة لا تعود ملكيتها لحزب أو فصيل أو جهة سياسية وبالتالي لا يمكن المحاسبة على تداولها أو معرفة مؤلفها أو التفتيش عنها كما لو أنها منشورات أو أشرطة أو فيديوهات ممنوعة لو وجدت في موبايل أو منزل أو سيارة واحد منا تذهب به إلى المجهول.. بل هي وسيلة تعبير وسلاح إعلامي سياسي أو فكري بمعنى ما، كما أنها طريقة بسيطة ومجانية للعلاج النفسي..
ربما لا تشعل الطرف والنكات روح التمرد في شعب اعتاد الصمت واليأس واللامبالاة، مثلما يمكن لهتاف عفوي في تجمّع أو لصفعة شرطي مواطن أو لإهانة غير محسوبة من صاحب سلطة موجهة لمواطن أو مجموعة مواطنين.. أن تشعل ثورة أو تتسبب بإشعالها.. لكنها على الأقل تزيل بسحر عجيب الآلام والخيبات المتراكمة في نفوس الناس، ولو إلى حين، وتمسح كالبلسم من الروح مشاعر الهزيمة، وعلى الرغم من انتشار صفحات ساخرة عبر الفيسبوك - سبق ذكرها- غير أن الأثر السحري للطرفة والنكات لا يظهر إلا عند تداولها عبر طرفين، ناطق ومستمع، يتحول بدوره المستمع إلى ناطق مقابل مستمع آخر، وهكذا دواليك.. فقراءة طرفة عبر صفحة فيسبوك ليس له الأثر الذي تحدثه في الإنسان نكته يسمعها من شخص صديق أو قريب ..
والحقيقة فإن غياب الطرف والنكات عن الشارع السوري لعشر سنوات لهو أمر يشير إلى حجم تفشي وسائط التواصل الاجتماعي التي منعتنا من اللقاء الفيزيائي وتداول الحديث المباشر وتناقل الأخبار والطرف، كما يشير من جانب آخر إلى حجم الويلات التي عاشها هذا الشعب المعذب، خلال الحرب الدموية التي شنها عليه الديكتاتور الحاكم باسم أربع دول محتلة وعشرات التنظيمات الإرهابية، ففي هذه الحالة يغيب المزاج الطبيعي للبشر ويحل مزاج الأزمة والكارثة التي لا ينفع معها إلا نوع معين من التعبير أو الفن، كالغناء المقاوم الذي يرفع معنويات الشعب ويدفعه للمقاومة والصبر، فتداول الطرف والنكات يحتاج إلى ظرف مناسب وحد أدنى من الاستقرار والطمأنينة، لم يتوفر للسوريين وهم في حال الهرب والهجرة أو وهم يسكنون المخيمات وكامبات اللجوء، يعيشون مع الكارثة أو مع أخبار الكوارث لحظة بلحظة لعقد من الزمن.
في عودة إلى بعض عناوين الصفحات الساخرة المتخصصة عبر الفيسبوك، لم أجد أي نكتة سياسية سورية موجهة ضد النظام، والنكات السياسية التي وجدتها هي شبه سياسية أو نصف سياسية تتعلق بالحالة داخل سوريا ولا تشير إلا تلميحا إلى النظام فهي إذا نكات يسخر فيها الناس من وضعهم، مثل نكتة الشوفير والمخطوف، تقول الطرفة: "إذا ركبت سيارة أجرة ولم يحدثك الشوفير بالسياسة أو الأجرة فاعلم أنك مخطوف"، تقول نكتة ثانية: "تعريف الجلطة في سوريا: أنك تكون على حاجز، وتمد يدك على جيبك، وما تلاقي الهوية".
دعوة للضحك معاً:
ليست طرفة أو نكتة تلك التي لا تقال بصوت مسموع، فتدفعنا للضحك من الأعماق، برفقة إنسان، لنصبح شركاء في الضحك معا، في حفلة ضحك تنقل عدواها للمحيطين بنا في الشارع، أو المقهى أو الحديقة أو العمل أو وسائل النقل.. فتثير على الأقل ابتسامات الآخرين، لذلك فما نقرؤه من نكت عبر الفيسبوك أو الواتس آب أو غيرهما من وسائل التواصل لا ينطبق عليها صفة النكتة، فالنكتة لا تقرأ، بل تقال أو تسمع من شخص ما مباشرة، فالغاية الأساسية للنكتة هي إثارة الضحك، وبالتالي إحداث تغيير نفسي، وكيميائي في هرمونات الإنسان، يدفعه لمزاج إيجابي. بهذا تكون النكتة وسيلة علاج نفسي وربما أداة للشفاء من الكأبة مثلا، بنقلها عدوى البهجة للآخرين، فالشعوب الساخرة التي تتداول النكت والطرائف يوميا لا تتفشى فيها الأمراض النفسية، على نطاق واسع، ولإدراكها أهمية السخرية تسعى الأنظمة الديكتاتورية العربية للتنفيس عن الشعوب التي تحكمها فتسند لفنان أو مجموعة من فنانين موالين لها مهمة إضحاك الناس، وكذلك وللهدف ذاته، تنشر عبر المخبرين مقولات تسخر من الوضع القائم ومن المسؤولين والوزراء، إنما دون الاقتراب من شخص الرئيس أو الزعيم أو ضباط الأمن.