بعد مضي نصف قرن من وصوله إلى البلد الأوروبي، أقامت له الجامعة التي حقق فيها نجاحات فردية متتالية وحقق لها إنجازات علمية عديدة حفل تكريم "نهاية الخدمة".
تحدث الطبيب المغترب كمواطن ينتمي إلى ذلك البلد الأوروبي، وبالكاد منع دموعه عند قراءته جملًا تعبر عن محبته وامتنانه لمجتمعه الجديد ولجامعته التي صارت وطنًا له طوال عقود. لكن صدمة الطبيب السوري العجوز كانت في رئيس الجامعة الشاب الذي ألقى كلمة شكر مقتضبة أشار فيها إلى الطبيب العجوز بـ"اللاجئ".
أدرك الأخير أنه بعد خمسين عامًا من وجوده في وطنه الجديد، وعلى الرغم من مضي عقود على نيله الجنسية، بقي ابن البلد الأصلي يعتبره آخر وليس مواطنًا.
يعيش اللاجئ الناجح في عمله وحياته ازدواجية مرهقة، بين اعتباره نفسه مواطنًا بحكم القانون وبحكم إخلاصه لوطنه الجديد وبين نظرة مجتمعه الجديد إليه، المجتمع الذي يبقى يعتبره لاجئًا أو غريبًا مهما طال زمن وجوده بين ظهرانيه. لا يهم حقيقة أن يكون التمييز على خلفية ثقافية، عرقية، دينية أو قارية، إذ أنه في النهاية تمييز بين مواطن درجة أولى ومواطن درجة ثانية، وربما درجة ثالثة. سنجد هذا التمييز في معظم البلدان الأوروبية كما نجده في دول عربية أيضًا بين مواطنين ولاجئين، لا سيما إن كانوا سوريين!
هذا ما يمكن قوله بالنسبة للاجئين الناجحين و"المستقيمين". فماذا عن اللاجئين الجدد الذين ما زالوا ينتظرون في كامب اللجوء أو الذين لم يُقبل لجوؤهم بعد؟ وماذا عن العدد القليل من اللاجئين الذين لأسباب نفسية غالبًا ما يندفعون لارتكاب جرائم؟
الجريمة تعمم على كل اللاجئين، بل يستخدمها الإعلام وبعض الجهات السياسية المتربصة للإساءة إلى اللاجئين ومسألة اللجوء، باعتبارها أهم موضوعات البازارات السياسية خلال الانتخابات المحلية أو الاتحادية.
من الملاحظ أن الإعلام الألماني، في تعاطيه الإيجابي مع اللاجئين، يركز على الإنجازات الفردية لبعض اللاجئين للقول إن الإنجاز الفردي للاجئ يبقى خاصًا به. من ناحية أخرى، فإن الإعلام ذاته يتعامل مع جريمة يرتكبها لاجئ على أنها تنسحب على كل اللاجئين، كما لو أن مليون لاجئ هو من ارتكب تلك الجريمة!
فالجريمة تعمم على كل اللاجئين، بل يستخدمها الإعلام وبعض الجهات السياسية المتربصة للإساءة إلى اللاجئين ومسألة اللجوء، باعتبارها أهم موضوعات البازارات السياسية خلال الانتخابات المحلية أو الاتحادية. وتشكل هذه المسألة هدفًا مبيّتًا أو معلنًا لأحزاب لها أجندة ثابتة حيال اللجوء، فلا يتوانى بعض المتطرفين عن الدعوة لطرد اللاجئين أو على الأقل عدم الاعتراف بإنجازاتهم وأهمها الاندماج. هذه المواقف السلبية بمجملها هي أكبر عائق أمام اللاجئين يمنع اندماجهم في المجتمع الجديد.
فحملات التشهير الإعلامية بعد كل جريمة أشبه ما تكون بمحاولة لابتزاز اللاجئين لجعلهم مدانين دائمًا مهما كان حجم إنجازاتهم الفردية في بلد اللجوء. فمقابل كل إنجاز فردي تهلل له صحافة عربية أو سورية، هناك جريمة محتملة للاجئ مستقبلاً سوف تطبل لها صحيفة ألمانية لتعيد مجتمع اللجوء إلى حالة "صفر إنجازات".
كأنها سياسة ثابتة لتصفير عدّاد الإنجاز والاندماج، تنتهجها بعض الصحف الألمانية في محاولة لتنميط شخصية اللاجئ، الذي يصبح مع الضخ الإعلامي مجرد غريب شرير أو عاطل عن العمل شرير يجب الحذر منه لأنه يمكن أن يتحول إلى إرهابي في أي لحظة.
أما المعتدون الألمان فهم يمثلون أنفسهم أو هم مختلون عقليًا أو هم من اليمين تحديدًا. هنا نحن فيما يتعلق بالمعتدين الألمان أمام أنماط متعددة من البشر يمكن إجراء نقاش حيالها وإيجاد الأعذار.
إن ذكر كلمة "لاجئ" في مانشيت أي خبر يتحدث عن عمل إجرامي يسمم الجو العام، إذ ينشر في الشارع الألماني شعورًا بالغضب والكراهية والخوف من اللاجئين، وهو ما ينعكس بشكل آلي وفوري في الشارع اعتداءات على اللاجئين أو إساءات أو على الأقل رفع حواجز إضافية تحد من التعامل معهم. فكل جريمة يقترفها لاجئ تجعل منها الصحافة الألمانية جريمة جماعية تنسب أوتوماتيكياً لجميع اللاجئين. وبذلك فإن تلك الصحافة تصدر الحكم بالعقاب الجماعي على كل اللاجئين بعد نشرها لأخبار جرائم بعض اللاجئين. واللاجئون عموماً هم حقيقة من يدفعون الثمن الأكبر معنويًا وقانونيًا بعد نشر أي خبر عن ارتكاب لاجئ لجريمة. واللاجئون هم من يدفعون حاليًا الثمن تعاملاً نابذًا أو نظرة مريبة إليهم، وهم سيدفعون مستقبلًا ثمن التشدد في القوانين التي تطولهم.
الاندماج الناجح يتحقق بقبول طرفين، المجتمع المضيف واللاجئين، إنه إقدام ورضى من الطرفين.
فعلى الرغم من أن الدستور الألماني ينص على حق اللجوء الفردي، شهدنا وزيرة الداخلية بعد إحدى الجرائم التي ارتكبها لاجئ لم يُقبل طلب لجوئه تدفع بقوة وتضغط على الولايات الألمانية لترحيل اللاجئين غير المقبولين أو الذين لم تُقبل طلبات لجوئهم.
من ناحية أخرى، فإن بعض المحللين السوريين الذين يعيشون في أوروبا يخرجون بعد كل جريمة كبيرة، سواء صُنفت كجريمة إرهابية أو سوى ذلك، لاتهام النظام الأسدي بالمسؤولية عن الجريمة، في تضخيم لدور أجهزة النظام المتهالك أصلاً في الداخل، فكيف به في الخارج؟! والحقيقة فإن من يكتفي بتعليق المسؤولية على النظام الأسدي إنما هو يتهم اللاجئين الذين قام بعضهم بالاعتداء أو ربما يرتكبون مستقبلاً بعض الاعتداءات بأنهم عملاء للنظام. وفي الحقيقة فهذا ظلم بيّن، فكل لاجئ سوري بعد 2011 هو ضحية للنظام بشكل مباشر أو غير مباشر. كما أن إلقاء المسؤولية على طرف النظام فقط يقدم تغطية وإعفاء لنظام الاندماج، الذي هو في الحقيقة نظام نبذ وقهر للاجئين. فالمجتمع النابذ الذي ينظر إلى اللاجئين كغرباء، أو في أفضل الأحوال مواطنين درجة ثانية أو رابعة، لن يقبل الاندماج الفعلي. فالاندماج الناجح يتحقق بقبول طرفين، المجتمع المضيف واللاجئين، إنه إقدام ورضى من الطرفين.
أخيرًا، وفي استعراض عام لمشهد اللجوء، نشهد ازديادًا في أعداد اللاجئين أصحاب الجنسيات الذين يغادرون ألمانيا والسويد إلى خارج أوروبا دون عودة لأسباب تتعلق بالحالة المعيشية المتدهورة عمومًا، وغلاء الأسعار، وازدياد نسبة التضخم، وحملات الصحافة الصفراء، ومشكلات لا تتوقف مع "السوسيال" بما يخص سحب الأطفال من ذويهم، لا سيما في وسط عائلات اللاجئين من الدول العربية خصوصًا. وهذا وحده ملف خطير وذو شجون يستحق حديثًا مطولًا نتركه لمناسبة أخرى.