لن تكون جريمة زولينغن التي وقعت قبل أسبوعين فريدة من نوعها. فقد ألقت الشرطة الألمانية يوم 12 أيلول/سبتمبر الجاري القبض على لاجئ سوري اقتنى ساطورين بنية الاعتداء على الجيش الألماني، بحسب وسائل إعلام ألمانية.
إلقاء القبض على هذا الشاب يدل على أن الشرطة أصبحت أكثر يقظة بعدما فشلت في رصد اعتداء زولينغن قبل وقوعه أو خلال وقوعه، مثلما فشلت في القبض على المرتكب، وهو شاب سوري وصل منذ سنتين إلى ألمانيا وبقي في كامب اللجوء لسنتين. مثل كل لاجئ يبقى سنتين على هذه الحال سيتعرض لضغوط نفسية متوالية ومتعددة لن ينجو منها إلا بالعمل والدراسة، فإن لم يتوفرا فمن المحتمل في حال تعرف على رفاق سوء أن يقودوه إلى الانحراف أو الإدمان على الكحول والحشيش وسواهما. وعلى ما يبدو، فإن الشاب اللاجئ لم يذهب في هذا الاتجاه إذ إن الضغوط النفسية فعلت فعلها ما دفعه لتنفيذ جريمته!
لكن أسئلة تدور في رأس كل لاجئ يعيش في ألمانيا لا بد من البوح بها، أسئلة من قبيل: هل يعقل أن شابًا لم يتجاوز الخامسة والعشرين يستطيع الحصول على سكين لحام ويختلط في كرنفال ثم يعتدي على عشرة أشخاص ثم يهرب ولا يقبض عليه أحد؟ لا رجل شجاع ولا شرطي ولا رجل أمن؟ ثم لتكتمل المسرحية، يسلم المعتدي نفسه للشرطة في نفس اليوم ويدّعي أنه تابع لتنظيم داعش، ثم يقول إنه فعل ذلك لأجل فلسطين؟! ولتكتمل المسرحية أكثر، يترك رسالة على صفحته الفيسبوكية يدعو فيها زملاءه للثبات ولنصر الأمة؟! لكن ما هي احتمالات أن تكون الجريمة هي جريمة جنائية أرادت جهة ما أو أراد المرتكب نفسه تحويلها إلى جريمة سياسية ليتحول في لحظة إلى "بطل" ومعتقل جنائي سياسي؟
لماذا تُرك ذلك الشاب المحكوم طليقًا؟ لماذا لم تتم مراقبته؟ لماذا لم يعتبر مختلًا عقليًا بقرينة تكراره لاعتداءاته، وبالتالي إيداعه مركز إصلاح أو تأهيل اجتماعي ونفسي؟
وقعت جريمة زولينغن قبل أسبوعين من انتخابات محلية في عدد من الولايات الألمانية. لكن الجريمة لن تكون مثل أي جريمة كبيرة قبلها أو بعدها إلا بتبني صحيفة واسعة الانتشار (على الأغلب، ودوما صحيفة "بيلد") نشر القصة لتصبح ترندًا لبضعة أيام. ثم يأتي دور السياسيين فيسارعوا في اليوم التالي من الجريمة لوضع أكاليل الزهور على أضرحة ضحايا الإرهاب. وتبدأ فورًا اقتراحات ونقاشات على مستوى سياسي حزبي وبرلماني حول: أولًا، إذا ما كان يجب تسليم اللاجئين الصادرة بحقهم أحكام بالسجن وهم من الجنسيتين السورية والأفغانية.
وثانيًا، بعد يوم أو يومين، ينتقل النقاش إلى مستوى أعلى وأشد خطرًا يطول عشرات آلاف اللاجئين الذين لم يقبل لجوءهم، فيقدم بعض اليمينيين اقتراحًا بل طلبًا بطرد طالبي اللجوء الذين لم تقبل طلباتهم.
وثالثًا، بعد أسبوع من جريمة الاعتداء، يطرح أحدهم اقتراحًا لإبعاد المتقدمين الذين لم تقبل طلباتهم ووضعهم على الحدود من دون انتظار الإجراءات القانونية التي تأخذ وقتًا. ثم بعد أسبوع، يتقدم أحدهم باقتراح لإشراك الشرطة في عملية الإبعاد إلى الحدود، فيردّ مسؤول كبير في جهاز الشرطة بأن ذلك سيكون من دواعي سروره!
مسؤولية الشرطة وقنابل موقوتة
تقول الصحافة الألمانية إن هناك مئات من المرتكبين طلقاء في شوارع المدن الألمانية. فما احتمال أن يقوم ما نسبته واحد بالمئة منهم بارتكاب اعتداء كل شهر؟ ولماذا يُترك هؤلاء المرتكبون طلقاء؟
في اعتداء سابق، تُرك شاب محكوم بعدة أحكام طليقًا حتى قام باعتداء سافر، لتخرج وزيرة الداخلية وتشجب الاعتداء وتحرّض بشكل مباشر أو غير مباشر على اللاجئين، وتُسجل موقفًا سياسيًا سيُحسب لها ولجماعتها السياسية على حساب اللاجئين.
والسؤال: لماذا تُرك ذلك الشاب المحكوم طليقًا؟ لماذا لم تتم مراقبته؟ لماذا لم يعتبر مختلًا عقليًا بقرينة تكراره لاعتداءاته، وبالتالي إيداعه مركز إصلاح أو تأهيل اجتماعي ونفسي؟
ولماذا لا يؤخذ بعين الاعتبار أن جرائم الطعن تحدث في ألمانيا بمعدل 280 جريمة اعتداء بالسكين يوميًا؟ أي إنها من أكثر الجرائم شيوعًا. فهل حدث أن قامت صحيفة "بيلد" والصحافة الألمانية بحملة تشهير ضد أحد المعتدين الألمان؟ أو حتى بحملة ضد حمل السكاكين أو قامت بحملة ضد جرائم الطعن؟ وهل حدث أن خرجت وزيرة الداخلية في موقف ذي تردد سياسي يبعد الشبهات ولو مؤقتًا عن اللاجئين؟
إن المستفيد من جريمة زولينغن هي الأحزاب التي صعدت سياسيًا وحسّنت مواقعها الانتخابية.
متلازمة جريمة لاجئ -صحيفة بيلد- صعود اليمين
خلال السنوات الأخيرة يمكن ملاحظة علاقة ما -لدرجة التلازم- بين جريمة بشعة وبين صحيفة "بيلد" وبين الانتخابات ومن ثم صعود اليمين.
كما لو أن هذه الصحيفة تبحث عن جريمة طازجة قبل الانتخابات بأسبوعين أو ثلاثة أسابيع لتجعل منها جريمة الموسم وترندًا يشغل الناخبين الألمان حتى نهاية الانتخابات التي تحقق فيها أحزاب اليمين وكالعادة فوزًا متوقعًا.
حسنًا، ماذا لو أن صحيفة "بيلد" والإعلام الألماني أخذا بعين الاعتبار الاعتداءات التي نفذها إرهابيون يمينيون على اللاجئين قبل أسبوعين من الانتخابات المحلية؟ ماذا لو أن الصحيفة ووسائل الإعلام نشرت بعضًا من تلك الجرائم والاعتداءات؟ أما كان مزاج الناخبين الألمان تغير لصالح اللاجئين، ما ينعكس أوتوماتيكيًا على نتائج الانتخابات لصالح الأحزاب المضادة لليمين مثل حزب الخضر وكذلك اليسار؟
لكن على ما يبدو فإن تحالفًا قائمًا ما بين بعض الصحف ووسائل الإعلام الألمانية وبعض السياسيين لرفع حظوظ اليمين على حساب بقية الأحزاب. وهو ما يبدو صادمًا إذ أن الخطاب الذي يسود وسائل الإعلام معادٍ لليمين عمومًا. وهذا فرق ما بين واقع عملي وما بين ما هو نظري ومعلن. هل هذه ازدواجية أم نفاق أم باطنية سياسية؟
إن المستفيد من جريمة زولينغن هي الأحزاب التي صعدت سياسيًا وحسّنت مواقعها الانتخابية. ومن الغريب أن صحفيًا أو مسؤولًا ألمانيًا لم يطالب بإجراء تحقيق موسع عن شخصية المجرم وعن تقاعس الشرطة واستغلال صحيفة "بيلد" والحملة المصاحبة التي أطلقتها الصحيفة بشكل غير مباشر ضد اللاجئين، لا سيما السوريين منهم.
داعش قميص عثمان وكنز استراتيجي
لا شك أن كلا من نظامي الأسد وطالبان مستفيدان من الجريمة، طالما أن أحد السياسيين يقول إنه لا بد من الحوار مع الشيطان لإعادة اللاجئين إلى سوريا وأفغانستان!
وهنا لا بد من التساؤل -عطفًا على ما قالته الصحافة عن إرسال الشاب اللاجئ في جريمة زولينغن شريط الجريمة إلى داعش- هل بالفعل هو من قام بذلك أم أن داعش تصيدت الشريط المنشور فنشرته على موقعها؟
هناك أطراف عديدة مستفيدة من داعش كل بحسب موقعه وقوته. البعض يستفيد منها استراتيجيًا، والآخر يستفيد منها تكتيكيًا، والبعض يستفيد شخصيًا. داعش حجة لتوالي الهجرة، فيستفيد منها مافيات التهريب. داعش حجة لاستيلاء أمريكا و"قسد" على بترول سوريا، وعوائده لا تقل عن عشرة مليارات دولار سنويًا.
وداعش وسيلة سهلة لترسيخ أسطورة الخطر الإسلامي أو متلازمة الإسلام - الإرهاب. فهذه الأجندة الغربية تدر مليارات الدولارات على شركات الأمن و"السكيورتي" ومختلف أنواع الشركات الأمنية الخاصة أو التابعة للدولة العميقة. بل إن هكذا جرائم يمكن لـ"قسد" أن تستغلها، إذ إن "قسد" استغلت جريمة زولينغن فطلبت على إثرها من الألمان والأوروبيين الاعتراف بها.
الأخطر من كل ذلك أن داعش، مثل القاعدة قبلها، أصبحت قميص عثمان يستغله الجميع كما يلقي الجميع فشلهم عليه. ونسى الجميع فيما يتعلق بجريمة زولينغن وادعاءات المعتدي أنه ارتكب جريمته لأجل فلسطين أن داعش وفلسطين لم يلتقيا أبدًا، ولا أعتقد أنهما يمكن أن يلتقيا!
في النهاية، لا بد من التوضيح أن جنسية مرتكب الجريمة لا تجعل ممن يتشارك معه الجنسية مجرمين أو مدانين لتتم معاقبتهم -معنويًا على الأقل- إلا في زعم صحافة الفضائح. إن الفعل ينسب لفاعله وهذا ما يقوله المنطق والقانون. كما أنه لا يجوز تحميل طرف واحد مسؤولية الجريمة، ولا بد من تقاسم الجميع المسؤولية كي لا تتكرر هكذا جرائم خطيرة.