ما وقع في سوريا ابتداءً من آذار 2011 كان زلزالًا تحول إلى حرب وجودية في محاولة للانعتاق من سلطة الطاغوت التي امتلكت، مثل أخطبوط، آلاف الأذرع تخنق السوريين وتمنعهم من الحياة الطبيعية. أقول زلزالًا، فهو الوصف الأدق لتفسير كل ما حدث في سوريا طوال العقد الثاني من قرننا هذا وحتى اليوم.
لا شك أن اختزال حدث تاريخي ممتد بتوصيف أو تحليل ذي بُعد واحد ومن مستوى واحد هو ظلم بيّن لهذا الحدث، ومحاولة لتحجيمه تخفي خلفها "إرادوية معرفية" - لو صح التعبير - مفرداتها قسر وكسر واختزال ومزاجية. يصح ذلك على معركة مفصلية في حرب أو انقلاب عسكري، فما بالك بحدث من قبيل انتفاضة اجتماعية واسعة كالثورة السورية التي غيرت وجه سوريا إلى الأبد على جميع المستويات وفي شتى الأصعدة.
ودراسة حدث اجتماعي ضخم مثل انتفاضة لم تستقر تحولاتها ولم تنتهِ مخرجاتها بعد هو أمر صعب ومعقد، وليس بوسع باحث أو بضعة باحثين توصيفه وحصره وإطلاق أحكام نهائية عليه. هذا هو حال ما تم التعارف على تسميته بالثورة السورية، وهي أقرب إلى أن تكون ثورة بالفعل، إن كان من ناحية أثرها الاجتماعي أو النفسي الجمعي أو السياسي على الشعب السوري، أو من حيث سعة انتشارها وحجم التغيرات الجوهرية والتحديات الوجودية التي ألقت بثقلها على أنصارها وخصومها معًا.
كل ثورة لا تنجز أهدافها في المدى القريب تصاب باستعصاء يمنعها من إنجاز مهامها بعضها أو كلها لأسباب ذاتية أو خارجية، وهو ما يفسح المجال لتسلل أفكار عنفية أو استسلامية حتى لو كانت أهدافها مبررة أو منطقية.
فالثورة الحقيقية هي مجموعة انقلابات اجتماعية أولًا، وسياسية ثانيًا، ومعاشية اقتصادية ثالثًا، سواء كانت هذه الانقلابات سلبية أم إيجابية، بنّاءة أم هدامة. وإن كان التوصيف الماركسي ينظر إلى الثورة على أنها عملية هدم للبنى القديمة، وهو هدم لا بد منه كمقدمة لتشييد البناء الجديد للمجتمع والدولة.
كل ثورة لا تنجز أهدافها في المدى القريب تصاب باستعصاء يمنعها من إنجاز مهامها بعضها أو كلها لأسباب ذاتية أو خارجية، وهو ما يفسح المجال لتسلل أفكار عنفية أو استسلامية حتى لو كانت أهدافها مبررة أو منطقية. وربما تنحرف الثورة بفعل ضغط عامل الزمن بمعنى امتداده أكثر من المتوقع لتصبح حربًا مناطقية أو جهوية. فالثورة كائن حي قابل للضعف والانحراف بسبب قوة العوامل المؤثرة، لا سيما الخارجية منها. فقد يُفرض على الثوار الدفاع عن أنفسهم وأهليهم بالسلاح، وقد يضعف البعض ويحلم بالوصول إلى السلطة بقوة السلاح، وقد تدخل أفكار انحرافية تعيد ترتيب الأعداء أو تستبدلهم، فتجعل من فئة أو طائفة اجتماعية أو مذهبية عدوًا لا يقل عن العدو الأصلي الذي خرجت الثورة ضده. وقد تضطرب العقول وتشحن النفوس برغبة الانتقام بفعل القمع العنيف أو القتل دون تمييز الذي غالبًا ما تتبعه الأنظمة الوحشية.
يتحدث المؤرخون عن جرائم مروّعة ارتكبت خلال الثورة الفرنسية ترتقي إلى مستوى جرائم إبادة جماعية على خلفية المذهب الديني ما بين بروتستانت وكاثوليك، اشتملت على سبيل المثال على ذبح الأطفال وبقر بطون النساء الحوامل. مع ذلك، لم نقرأ لكاتب أو باحث عربي وصف الثورة الفرنسية بأنها حرب أهلية، أو أنها اتسمت في بعض مفاصلها أو في بعض المناطق التي شملتها الثورة بممارسات تطهيرية مذهبية أو عرقية جماعية متبادلة تصنف عادة تحت مسمى حرب أهلية.
منذ أحداث القامشلي 2004 عمل نظام العصابة بدأب لوضع الأسس المتينة لتحويل أي انتفاضة مستقبلية إلى حرب أهلية، فهو أثناء تلك الأحداث عمد فعليًا ومع سبق الإصرار إلى تجهيز العدة لإشعال فتيل نزاع أهلي بين المواطنين السوريين العرب والكرد في تلك المدينة.
وبهذه الذهنية الشريرة انطلقت العصابة في مواجهتها ثورة السوريين في آذار 2011، فظهر أول تصريح يوضح هذه النية على لسان بثينة شعبان بذكرها عبارة تتضمن كلمتين محرمتين في الخطاب الرسمي الأسدي وفي الخطاب الإعلامي وحتى في الشارع السوري، ألا وهما "علوي" و"سني". وهي بذلك قدمت رؤية العصابة للثورة ولأي انتفاضة تهدد موقعها كعصابة حاكمة أو تهدد مكاسبها من النهب المتراكم طوال عقود من التخريب المتعمد، بل أظهرت رؤية العصابة الحاكمة للسوريين على أنهم سنة وعلويون فقط، وليسوا مجتمعًا سوريًا، وليسوا مواطنين سوريين. وهي بذلك تثبت أنها فوق أنها عصابة، فهي عصابة مريضة طائفيًا. فلو كانت السلطة الحاكمة لسوريا دولة أو تصرفت كما تعارفت عليه الدول إزاء الثورات أو الاحتجاجات المطلبية لما تحولت تظاهرات احتجاجية في درعا ودمشق إلى ثورة عارمة. الجميع يعلم أو يتذكر أن احتجاجات درعا الأولى كانت تطالب بمكافحة الفساد وبإنهاء هيمنة شركات رامي مخلوف. وهي أصلًا انطلقت بسبب سلوك رجل مخابرات -من بيت مخلوف أيضًا- تصرف كما لو أنه رجل عصابات مع وفد وجهاء وأهالي أطفال معتقلين.
أسس النظام كل مقومات الحرب الأهلية، وعند اندلاع الثورة حاول التشويش عليها بافتعال حرب أهلية. نجح مؤقتًا هنا وهناك، لكن الجميع صار يعلم أنه السبب في تأجيج الكراهية والخراب والقتل.
وما يؤكد أن العصابة الحاكمة كانت تسعى عن سبق إصرار وترصد لتفجير حرب أهلية على خلفية طائفية هو قيام أجهزتها بتوزيع منشور قالت إنه "مخطط بندر" (بندر بن سلطان بن عبد العزيز آل سعود، رئيس جهاز الاستخبارات السعودي السابق) على نطاق واسع في العاصمة دمشق، يشرح فيه كاتبه -أي أجهزة الأمن- مسار الأحداث المتوقع بما في ذلك اقتتال طائفي بين السنة والعلويين، وظهور عصابات مسلحة وإرهابية ممولة من دول خليجية -كان النظام قد أحكم بناء هياكلها مسبقًا وإعداد قادتها طوال سنوات في معتقلاته وفروعه الأمنية.
إذا وطوال عقود، أسس النظام كل مقومات الحرب الأهلية، وعند اندلاع الثورة حاول التشويش عليها بافتعال حرب أهلية. نجح مؤقتًا هنا وهناك، لكن الجميع صار يعلم أنه السبب في تأجيج الكراهية والخراب والقتل. فهناك تفاصيل ووقائع تشي بأنها حرب أهلية محدودة في بعض وقائعها وفي بعض المناطق وخلال زمن محدد، على سبيل المثال الصراع الدموي بين الفصائل الإسلامية، وكذلك الصراع الخافت بين عصابات النظام من الشبيحة، والنزاع بين الفرقة الرابعة والشبيحة، دون أن ننسى أنها ثورة مجتمع لا تقل نسبة المشاركين فيها عن 20 بالمئة من عدد السكان، إضافة إلى شن النظام حرب إبادة وتهجير، وأخيرًا صراعاً إقليمياً ودولياً.
ومثلما أن الثورات يمكن أن تنتصر جزئيًا، فهي يمكن أن تصاب بنكوص أو انحراف كما أسلفنا، وكذلك يمكن أن تفشل جزئيًا فلا تحقق أهدافها الفرعية المعلنة كالكرامة والحرية، ولكنها حتمًا ستحقق رغبات كل الشعب -الثوار وغير الثوار والرماديين ومن سيصبح قلبيا مع الثورة- على المدى البعيد أي هدم النظام الذي كان قائمًا عند تفجر الثورة.
مع ذلك، ومع كل ما تقدم، فهناك دليل دامغ على أن السوريين الأحرار الواعين الرافضين للطاغوت الحاكم، المطالبين بالكرامة والعدالة والحرية، لا يمكن أن ينجرّوا إلى القتال أو إلى الحرب لو تركوا يعبرون عن أنفسهم بحرية. السويداء قدمت مثالًا ساطعًا عما نقوله، وإدلب والشمال المحرر قدما مثالًا رديفًا بتظاهراتهما المتوالية ضد سلطة الأمر الواقع هناك.
إن الزلزال السوري نتجت عنه ثورة، مثلما جرّ على البلاد حروبًا من كل نوع: داخلية بينية، وحربًا مع النظام، إضافة وبشكل أساسي إلى حرب إبادة وتهجير لمناطق الثورة، كما أدى إلى صراع إقليمي ودولي مستتر أحيانًا وفاقع الوضوح أحيانًا أخرى.
نعم، لقد أردناها ثورة للحرية والكرامة والعدالة، ولقد كان لنا ذلك. وأرادها النظام العصابة والنظام الإقليمي -والعربي ضمنًا- حربًا طائفية بين ميليشيات ولي الفقيه الشيعية وميليشيات سورية وعربية سنية. وكان لهم ذلك.
أردناها ثورة جميلة حالمة توزع الورود على العسكر، ولقد كان لنا ذلك، وأرادوها حرب العسكر على حملة الورود والهاتفين للحرية وإسقاط الطاغوت، ولقد كان لهم ذلك.
وما زال الصراع مستمرًا بين الحق والبربرية.