إنَّ معظم الأنظمة الاستبدادية ترسّخ مفهوم الفلسفة العبثية في سياستها مع الشعوب التي تحكمها، وقد نتجت تلك الفلسفة من العلاقة القائمة على الاغتراب بين رأس السلطة وحاشيته من جهة وبينه وبين الشعوب من جهة أخرى، فالشعور الدائم بأنَّ كلَّ من حوله يتملَّقون إليه وينافقون له، سواء أكان هذا الشعور منبعثاً من سلوكهم الحقيقي أم غير الحقيقي يعزِّز من الاغتراب بين الطرفين؛ اغتراب السلطة عن الشعب واغتراب الشعب عن السلطة، ويصبح الأشخاص لدى سلطة الاستبداد مثل الأشياء، قيمتهم تتحدَّد من خلال ما تجنيه منهم من منافع، وتبدأ حالة فقدان القيمة والمعنى بالتنامي والتضخُّم إلى أن تصل إلى مرحلة يتقزَّم فيها الوجود، فيما عدا المستبدِّ المتمثِّل برأس السلطة، وهنا تتجلَّى السياسة العبثية في محاولات السلطات الاستبدادية في إعطاء معانٍ جديدة للوجود، انطلاقاً من مفهوم واحد وهو امتلاك القوة، القوَّة بشقيها المادي والمعنوي، ولا يهمُّ إن كانت هذه المعاني الجديدة تتفق مع القوانين أو لا تتفق، ولا يهم أيضاً إن كانت ترضي الآخر الذي تفرض عليه قسراً أو لا، فالحقيقة التي يدركها كلُّ ديكتاتور من موقعه لا يمكن أن يدركها غيره، وهي أنَّه يجب أن تكون الحياة مصدر سعادة بالنسبة له فقط، مهما كانت الوسائل التي يمكن أن تُبذل في سبيل الوصول إلى تلك السعادة.
الحرية التي تستشعرها السلطات الاستبدادية هي حرية فاسدة كتلك الحرية التي دفعت كاليجولا على سبيل المثال إلى إصدار قرار بإمساك القمر، وجعل الشمس تغرب من الشرق
وتستطيع السلطات الاستبدادية تحقيق تلك السعادة من خلال القدرة على تطبيق القوة، والتي قد تصل في كثير من الأحيان إلى العنف، فالسلطة السياسية قادرة من خلال امتلاكها لكلِّ وسائل القوة على تطويع الشعوب كما تريد من خلال لعبة تحقيق المستحيل، فكلُّ شيء لدى السلطات الاستبدادية يمكن أن يتحوَّل إلى ممكن، بمعنى آخر إنَّ تلك السلطات قادرة على إقناع نفسها ومن حولها أنَّه لا يوجد شيء غير مباح، أو غير ممكن، ومن هنا كان مبعث الحرية المطلقة التي تشعر بها، الحرية ليس بمعناها الاصطلاحي المتعارف عليه، بل بمعناها المخصوص والذي يشير إلى المعنى الشمولي الذي تتحكَّم من خلاله السلطات بكلِّ شيء من دون مرجعية معينة، والتي قد تجعل تلك السلطات تنظر إلى الشعوب نظرة العبودية المنافية للحرية بكل معانيها، وهذه الحرية التي تستشعرها السلطات الاستبدادية هي حرية فاسدة كتلك الحرية التي دفعت كاليجولا على سبيل المثال إلى إصدار قرار بإمساك القمر، وجعل الشمس تغرب من الشرق، ومنع الناس أن يموتوا إلا في الوقت الذي يرغب به هو، وبهذا يمكن تفسير الشَّر الناتج عن هذه الحرية بغياب الفكر كما تذهب إلى ذلك الفيلسوفة الألمانية حنة آرندت، وهي لا تنتج عن الغباء والبلادة، إنَّما تنتج عن عدم القدرة على التفكير وذلك بسبب السعي الحثيث لتحقيق غاية محددة بالذات، لذلك فقد تتبنَّى تلك السلطات قاعدةً تربط مسبقاً بين أسبابها ونتائجها تقول هذه القاعدة: (أنا أعيش إذن أنا أدمر كل شيء حولي... هذا ما تعنيه السعادة والحرية المطلقة)، وبذلك تصبح هذه الحرية مرتبطة بسياسة المستحيل التي تنتهجها تلك السلطات والتي تحتل مكان القانون وتنسفه.
وتبدأ السلطات الاستبدادية بتطبيق الفلسفة العبثية في حدود الممكنات ثمَّ تتجاوزها للسعي وراء المستحيلات، لأنَّها في أصلها قائمة على الرغبات والشهوات، وهي حالة عائمة بين قمة الخواء التي تشعر به السلطة وقمة الطموح التي تدفعه نحوها غرائزها المتورمة بالشهوات، وغالباً ما يكون هذا السلوك صادر عن شخصية سادية، لا تستطيع السيطرة على تلك السلوكات المَرَضية التي تسعى إلى إشباع غرائزها بكلِّ الوسائل للوصول إلى ذروة النشوة الاستبدادية، وهذه السياسة تتقاطع مع قاعدة الفيلسوف الإيطالي ميكافيللي في الحكم والتي تؤكد على أولوية بقاء النظام السياسي واستمراره بغض النظر عن أي اعتبارات أخلاقية أو دينية أو حتى سياسية.
القرارات الناتجة عن سلطة الطغاة هي قرارات عبثية وغير منطقية، وهكذا يحقِّق الطغاة متعتهم المطلقة من خلال التحرُّر من القواعد التي لا يقيمون لها أصلاً أي وزن أو قيمة
وغالباً ما تكون الغاية التي تقف وراء سياسة المستحيل العبثية هي غاية تحقيق الأبدية والخلود، حيث تتوافق مع الكثير من السياسات التي يحاول فيها الحكَّام التمسُّك بكرسي الحكم وتحقيق حلم الخلود الأبدي على اعتبار أنَّ وجودهم هو تحقيق للمصلحة العليا للدولة والسلطة، وبما أنَّ البقاء الأبدي هي الغاية الوحيدة التي يسعى إليها الحكَّام الطغاة، فإنَّهم يلجؤون لتحقيقها إلى كل الوسائل، بغضِّ النظر عن مشروعية هذه الوسائل، بمعنى أنَّ القرارات الناتجة عن سلطة الطغاة هي قرارات عبثية وغير منطقية، وهكذا يحقِّق الطغاة متعتهم المطلقة من خلال التحرُّر من القواعد التي لا يقيمون لها أصلاً أي وزن أو قيمة.
ولكن نتساءل هل استطاعت السلطات الاستبدادية عبر التاريخ أن تصل إلى ما كانت ترغب بتحقيقه؟ لقد وقع معظم هؤلاء الطغاة الذين أرادوا أن يغيِّروا طبيعة الأشياء بإرادتهم في تناقض كبير، فرغباتهم المستحيلة لم تتحقق بطغيانهم وجبروتهم، بل أدَّت إلى نتائج مغايرة تماماً، وهي انتشار الوعي عند شعوبهم الذين أرهقتهم سياستهم المتجبِّرة، وبالتالي تحوَّل الوعي إلى ثورة وتمرُّد عليهم، وبذلك يمكن أن نقول إنَّ القوة النابعة من السلطة الاستبدادية آلت إلى عجز تام مبعثه منطق العبث الذي تراه تلك السلطات في كل شيء في الحياة، وهذا دليل دامغ على عدم قدرتهم على امتلاك الحرية والإرادة وعلى فشل سياسة المستحيل البعيدة كل البعد عن المنطق والحقيقة.