عادة ما تستخدم بعض الدول جس النبض السياسي لاستطلاع مواقف الأطراف المختلفة تجاه قضايا أو مواقف سياسية، وبذلك تستشرف ردود الأفعال قبل اتخاذ أي خطوة رسمية، ما يجعلها تتصرف بمرونة أكبر، تغييراً وتعديلاً، لأي قرار.
يساعد هذا الإجراء على التقليل من المخاطر المحتملة للقرارات التي يتخذها صناع القرار السياسي، وبذلك يعد جس النبض السياسي واحداً من أهم الأدوات الدبلوماسية المستخدمة لفهم العلاقات السياسية الداخلية والخارجية وتحليلها، بما يضمن مصالح الدول في علاقاتها مع الأطراف المختلفة.
والتاريخ السياسي زاخر بالأمثلة التي تؤكد فاعلية هذه الطريقة في التعاملات السياسية، ولعل من أشهرها تحالف كليوباترا مع يوليوس قيصر ضد أخيها بطليموس الثالث عشر، فقد سبق هذا التحالف إرسال وفد دبلوماسي من قبل كليوباترا إلى قيصر لجس نبضه السياسي، ومعرفة مدى اهتمامه بدعمها ضد أخيها، قبل أن تلتقي به شخصياً، لتؤدي هذه المناورات إلى تثبيت عرشها، وتقوية نفوذها في مصر.
تلجأ الدول إلى طرق عديدة لجس النبض السياسي لدى الأطراف المختلفة، ومن هذه الطرق التصريحات المعلنة أو المبهمة، كأن تصرح إحدى الدول عن رغبتها في إعادة العلاقات مع دولة أخرى كانت معادية لها، ومن ثمَّ تنتظر رداً غير رسمي ناتجاً عن هذا الموقف الجديد قبل القيام بالمبادرات الرسمية المعلنة. قد تتخذ هذه التصريحات طابعاً مبهماً وغير واضح، كتلك التصريحات التي أطلقتها بعض الدول العربية والغربية لإعادة تطبيع العلاقات مع النظام السوري، وكانت بذلك تحاول أن تجس نبض الشارع الذي يضم كثيرا من اللاجئين السوريين الذين جاؤوا هرباً من بطش النظام السوري، واستقبلتهم هذه الدول بأذرع مفتوحة. أو قد تلجأ بعض الدول إلى الوسطاء الذين تقتصر مهمتهم على نقل الرسائل بين الدولتين المتصارعتين، واختبار ردود الأفعال الناتجة، بمعنى الحصول على رد فعل أولي من خلال هؤلاء الوسطاء، على أساسه يمكن صياغة قرار سياسي، قبل الالتزام بخطوات واضحة لا يمكن التراجع عنها بعد اتخاذ القرار.
عادة ما يكون الوسطاء من الدول الصديقة أو المحايدة، فيكون دورهم حيوياً لإعادة العلاقات بين الدول المتصارعة. بل يمكن أن تنعكس القرارات على الدول الوسيطة بشكل إيجابي، لذلك قد تسعى بعض الدول الوسيطة إلى قرار سياسي يصب في مصلحتها بشكل أكبر من الدولتين المتصارعتين.
وقد فعلت مصر وإسرائيل هذا إبان اتفاقية كامب ديفيد، إذ استعانتا بوسطاء دوليين للوصول إلى قرار سياسي بينهما، من أهم هؤلاء الوسطاء الولايات المتحدة الأميركية التي سعت لجس نبض الطرفين بشأن شروط السلام بينهما، وانتهى ذلك بتوقيع اتفاقية سلام مشتركة بين الطرفين عام 1978.
يمكن للحكومات أن تتعرف من خلال جس نبض شعوبها -بغض النظر عن الطرق المستخدمة في ذلك- على تطلعات المواطنين، ومعرفة احتياجاتهم، لتحسين أدائها السياسي، وتعديل قراراتها بما يخدم مصلحة المواطنين، وتعزيز الثقة بين الشعب والحكومة.
ولا شك أن هذه الاتفاقية كانت لها نتائج مهمة لصالح الولايات المتحدة الأميركية. قد تلجأ بعض الدول إلى طرق غير مباشرة كالاتصالات السرية غير المعلنة التي تعطي الأطراف المتصارعة حرية أكبر في المناورات، وتمهد لمرحلة تالية تكون فيها الدول مستعدة بشكل أكبر للمفاوضات العلنية والوصول إلى قرارات سياسية بينها.
ولو تساءلنا عن أهمية هذه الأداة الدبلوماسية لدى الدول المتصارعة وغير المتصارعة، لعرفنا من خلال كل ما تحدثنا عنه أنها تخفف كثيرا من المخاطر التي يمكن أن تحدث بعد اتخاذ قرارات سياسية حساسة تحكم العلاقات بين البلدان، وتتجنب ظهور معارضة قوية وواسعة ضد بعض القرارات المتخذة بشكل غير مسبوق. لكن يمكننا أن نتساءل أيضاً عن أهمية هذه الأداة المستخدمة بين الحكومة السياسية وأفراد الشعب، إذ يمكن للحكومات أن تتعرف من خلال جس نبض شعوبها -بغض النظر عن الطرق المستخدمة في ذلك- إلى تطلعات المواطنين، ومعرفة احتياجاتهم، لتحسين أدائها السياسي، وتعديل قراراتها بما يخدم مصلحة المواطنين، وتعزيز الثقة بين الشعب والحكومة.
بمعنى آخر ضمان ولاء الشعوب للحكومات. ويمكن أن يكون جس النبض السياسي الشعبي وسيلة لتمادي الحكومة في الاستبداد والطغيان، كأن تقوم الحكومة -على سبيل المثال- برفع أسعار بعض المواد الغذائية وطرحها في الأسواق، ومن ثم تنتظر رد فعل الشارع الشعبي تجاه هذا الغلاء، وتتعرف إلى الطرق التي سيستخدمها المواطنون لمواجهة هذا الغلاء، وبناء على ذلك تقوم الحكومة برفع أسعار بقية المواد الغذائية الأخرى بشكل تدريجي وغير صادم، أو تقوم بإعادة التفكير في هذا القرار خوفاً من ردة فعل صادمة بين الحكومة والشعب. ففي كثير من القرارات التي اتخذتها الحكومات من دون جس نبض شعوبها أدت إلى حدوث ثورات شعبية ضد الحكومات المتعسفة.
قد يؤدي جس النبض السياسي إلى نشوء مواقف جديدة مبنية على ثقة مزعزعة وعلاقات متوترة، وقد يكون عامل التوقيت لهذا الجس هو المعوق الأساسي المؤدي إلى الوصول إلى نتائج عكسية.
وعلى الرغم من الأهمية التي تحدثنا عنها على الصعيد الخارجي والداخلي إلا أن هناك معوقات تقف دون الوصول إلى الأهداف المنشودة من عملية جس النبض السياسي، بل قد تعرقل هذه المعوقات فاعليته وتأثيره.
من أهم هذه المعوقات الوصول إلى ردود فعل غير دقيقة، أو الوصول إلى ردود فعل مضللة. فقد تلجأ الدول المعادية إلى تصدير ردود أفعال مخادعة، تؤدي إلى الوصول إلى قرارات غير سليمة لكلا الطرفين. قد يؤدي جس النبض السياسي إلى نشوء مواقف جديدة مبنية على ثقة مزعزعة وعلاقات متوترة، وقد يكون عامل التوقيت لهذا الجس هو المعوق الأساسي المؤدي إلى الوصول إلى نتائج عكسية، تزيد من تفاقم العلاقات بين الدول المتعارضة، بدلاً من الوصول إلى حلول إيجابية.
وفي الختام يمكننا أن نقول إن عملية جس النبض السياسي تعد أداة حيوية تستخدم بشكل واسع في عالم السياسة الذي يتطلب كثيرا من الدبلوماسية والحذاقة السياسية. إذ يمكن لهذه الأداة أن تستشرف مواقف الأطراف المختلفة، وتقوم بتقييم ردود الأفعال قبل اتخاذ أي قرار سياسي حاسم، سواء في العلاقات الخارجية أو الداخلية. ورغم كل التحديات، إلا أن هذه الأداة تبقى الوسيلة الأقل خطراً وضرراً والأكثر ذكاءً وحذراً في عالم السياسة، عالم الممكنات.