في يوم الجمعة الثالث من شهر أيار وفي مدينة آخن الألمانية رحل الداعية والأديب والمفكِّر السوري عصام العطار (1927- 2024م) شقيق نائبة رئيس النظام السوري نجاح العطار.
ولد العطار وتربَّى في أسرة علمية، اهتمَّت بالخطابة والفقه واللغة والقرآن الكريم، وقد شغل منصب المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا سابقاً، كما أقام في مصر بعد مهاجمته النظام الديكتاتوري في عهد الرئيس الشيشكلي سنة 1951م.
وقد نشرت ابنته هادية العطار وصية والدها على صفحتها على الفيس بوك، والتي قال فيها: "وداعاً وداعاً يا إخوتي وأخواتي وأبنائي وبناتي وأهلي وبني وطني. أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، وأستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم، وأسأل الله تعالى لكم العون على كلِّ واجب وخير، والوقاية من كلِّ خطر وشر، والفرج من كلِّ شدة وبلاء وكرب. سامحوني سامحوني واسألوا الله تعالى لي المغفرة وحسن الختام. شكراً لكم شكراً. جزاكم الله خيراً".
أوجد العطار منهجاً لتحرير فلسطين يبدأ من تحويل الكلام إلى أفعال.
شغلت قضايا الأمة الإسلامية جميعها بال العطار، إذ كان رجل علم مؤثر في الأوساط الإسلامية من خلال خطبه ومحاضراته، ولكن قضية فلسطين كانت مركزها ومحركها الرئيس، لقد انتقد العطار البلدان العربية، وعاب عليها تقصيرها الشديد في دعم قضية مركزية تشكِّل منعطفاً مهماً في حياة الشعوب العربية كلها، على الرغم من أنَّ العدو يغتصب أرضنا وسماءنا ومياهنا، ويقذفنا بالموت بمختلف الوسائل كلَّ يوم، أمَّا حكامنا فقد باتت معركتهم الأولى مع شعوبهم، ليحتفظوا بسلطانهم الهزيل، فقال ناقداً:
وتفرّقوا شِيَعاً فكلّ مدينةٍ فيها أميرُ المؤمنينَ ومنبرُ
أوجد العطار منهجاً لتحرير فلسطين يبدأ من تحويل الكلام إلى أفعال، وعدم الاكتفاء بالقول، وتسخير الجهد والطاقات السياسية والعسكرية والاقتصادية في كل بلدٍ في سبيل هذه المهمة النبيلة، وأن تبدأ البلدان بعملية توحيد القيادة، وأن تتمّ الاستفادة من دروس المقاومة الشعبية الفلسطينية،
وأن يتم توظيف الرابطة الإسلامية التي تربط مئات الملايين من المسلمين فيما بينهم، فهم يلتقون معاً بالعقيدة والشعور، وأنَّ الوسيلة الصحيحة لتبنِّي القضية الفلسطينية في المحافل الدولية يكون من قبل جبهة إسلامية واحدة، ثمَّ أكد على ضرورة منح الشعوب الإسلامية حريتها وعدم تكميم أفواهها أو تكبيلها بالقيود، فمن أهم أسباب هزيمة حزيران سنة 1967م، وقبلها نكبة سنة 1948م – برأي العطار – هي عزل الشعوب وإهمال إعدادها إضافة إلى قتل روح الجهاد فيها.
رأى العطار بأنَّ التسوية تبدأ أولاً على المستوى الرسمي (الحكومات) ثم يراد لها أن تصل إلى الصعيد الشعبي.
لقد تنبَّأ العطار بمحاولة تصفية القضية الفلسطينية وجرِّ الحكومات إلى التطبيع مع الكيان الغاصب، حيث وجه رسالة إلى المقاومة الفلسطينية سنة 1968م، وقد أورد هذه الرسالة في كتابه (في قضية فلسطين)، قال فيها: "إيّاكمُ يا رجال المقاومة أن يلْفِتَكُم شيء من الأشياء عن هدفكم الأصيل: هدف التحرير واسترداد الوطن السليب، إيّاكم أن تغركم الخلافات المحليّة والعربية، وأن يستدرجكم اليسار أو اليمين، والشرق أو الغرب، لتخوضوا معركته بدل من معركتكم العتيدة؛ معركة العرب والمسلمين، إيّاكم أن يحوِّلكم الحكَّام المستغلون، ويُحوِّلوا القضية التي تجاهدون من أجلها إلى أداة في نزاعاتهم الخاصة، وخدمة مصالحهم الشخصية الصغيرة...".
لقد رأى العطار بأنَّ التسوية تبدأ أولاً على المستوى الرسمي (الحكومات) ثم يراد لها أن تصل إلى الصعيد الشعبي، وسيعمل الحكام لتهيئة الأجواء المختلفة لقبول هذه التسوية مع الغاصبين المحتلين، كما سيقومون بتبريرها وتزيينها، وقد وصف هؤلاء الحكَّام بقوله:
لا خَيْرَ فِيْهِمْ ولا إحْسَاسَ يَبْعَثُهُمْ سَيَّانَ إنْ عَجِزُوا حقَّاً وإنْ قَدِرُوا
اسْتَعْذَبُوا الذُّلَّ حتَّى أنَّ واحدَهم لا يقْبلُ العِّزَّ لو وَافَى بِهِ الغدْرُ
التسوية مع الاحتلال الإسرائيلي يراد لها أن تقوم على التسليم بما كان قبل الخامس من حزيران/ يونيو وتنتهي بالقبول بوجود "الكيان الصهيوني" وباستقلالها وسلامة "أراضيها"، ونحن علينا ألا نساوم في عقيدتنا، وفي وطننا، وأن نرفض كلَّ تسوية مع الكيان.
ولم يجد العطار بموقف الحكَّام العرب من طوفان الأقصى إلا موقف الاستكانة والاستهانة وهو نتاج سلسلة طويلة من الخضوع والخوف على مناصبهم، فهم لم يكتفوا بهذا الموقف الدوني بل إنَّهم عملوا على تفرقة الفلسطينيين بدلاً من مساعدتهم، فكان موقفهم أقرب لصف الصهيونية، على الرغم من أنَّ واقعهم وشعوبهم لا تقبل بحالهم، فالشعوب العربية والإسلامية تُدرك بأنَّ الإيمان الحقيقي لا ينسجم مع الخضوع؛ الأمر الذي قد يكون مفتاحاً لطوفان أو ربيع عربي، أو حتى إسلامي جديد، يقتلع الصهيونية وأتباعها، فالعالم الإسلامي تجمعه قواسم مشتركة كبيرة، وهو صاحب رسالة إنسانية للعالم أجمع، ولكن تفرِّقه السياسية وبراغماتيتها وبعض المنافع الاقتصادية.
ختاماً، يقول طاغور: "من يصمِّم على الانتصار يقترب جداً من النصر"، وهذه رؤية العطار الذي قال: "لن تهزم غزة بعد اليوم، ولن تموت مع هذا الإيمان والعطاء والشموخ قضيّة فلسطين.. حيّاكم الله يا شهداء غزّة، يا أبطال غزة".
وفي النهاية نتساءل لماذا نبقى صامتين، تاركين عدداً كبيراً من رموز ثورة الشعب السوري وعلمائها في حالة من التعطيل أو الكمون – حسب التعبير الفيزيائي- فبالأمس رحل عنَّا رائد الفضاء السوري محمد فارس، واليوم العالم العطار، وغيرهم ممَّن ترك بصمة في تاريخنا وذاكرتنا، فيا حبذا لو استغلينا فرصة وجودهم بيننا، ووظفنا حضورهم ليكونوا فاعلين ومؤثرين في ظلِّ عالم يتسارع فيه التافهون على التأثير بأجيالنا وصناعة حاضرنا.