مع ندرة فرص العمل المهنية وانخفاض الأجور اليومية والشهرية يتجه الشباب في مناطق ريفي حلب الشمالي والشرقي نحو الأعمال العسكرية من خلال الانضمام إلى الفصائل العسكرية التابعة للجيش الوطني السوري، بهدف تحقيق مصدر دخل يعينهم على تحمل مشاق الحياة المعيشية.
وتتنوع أساليب البحث عن فرصة العمل بين وسائط اجتماعية من المعارف؛ وأخرى عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بينما يعتقد كثيرون أن العمل في المجال العسكري المسلح حل وحيد في إعالة أسرهم وسط استحالة الحصول على فرصة عمل مهنية ترتبط بطبيعة الخبرات والمعارف التي يمتلكونها.
العسكرة خيار الشباب
تنعدم الخيارات لدى الشباب الباحث عن فرص عمل في مناطق ريفي حلب الشمالي والشرقي، ما يضطرهم إلى العمل في مهن وحرف قد لا تناسب مهنتهم الأصلية، وفي حال استحالة الحصول على فرصة في المجال المهني يكون العمل العسكري خياراً مناسباً.
قرر عبد الله نعسان (19 عاماً)، من أبناء مدينة مارع شمالي حلب الانضمام إلى إحدى الكتائب المحلية التابعة للجيش الوطني، نتيجة قرابة عائلية تربطه مع أحد العناصر، بعدما فشل في الحصول على فرصة عمل تعينه على توفير احتياجاته التعليمية، لا سيما أنه أصبح طالباً جامعياً في سنته الأولى.
وقال خلال حديثه لموقع "تلفزيون سوريا" قال: "أعيش مع عائلتي ودخل والدي الشهري الذي يتقاضاه مقابل عمله شرطياً لا يغطي الاحتياجات الأساسية، بينما أنا كنت أعمل في العتالة وأعمال مهنية مقابل أجور يومية، بهدف مساعدة عائلتي، ولكن مع دخولي الجامعة قررت الانضمام إلى العمل العسكري".
وأضاف أن عمله في المجال العسكري يقتصر على مناوبات في نقاط عسكرية تقع على خطوط التماس في محيط مدينته، والتي يتراوح تعدادها شهرياً بين 8 و10 نوبات، بينما يبلغ راتبه نحو 1800 ليرة تركية (ما يعادل 55 دولاراً أميركياً).
الحال لدى أبو ياسر (32 عاماً) لا يختلف كثيراً؛ إلا أنه أشد قسوة، كونه المسؤولَ الوحيد عن عائلته المكونة من ثمانية أفراد، ونازحاً من ريف حلب الجنوبي إلى شمالي حلب؛ اضطر الرجلُ الانضمام إلى فصيل عسكري بهدف تحسين وضعه المعيشي.
ورغم امتلاك أبو ياسر مهنة وخبرة طويلة في الحدادة كان يعمل بها قبل تهجيره من بلدته، فإن ظروف النزوح وتدهور الأحوال المعيشية، وما تبعها من تراكمات وديون أجبرته على صرف كل مدخراته، ليبقى من دون عمل يغطي احتياج عائلته.
وقال خلال حديثه لموقع "تلفزيون سوريا": "بحثت كثيراً عن عمل بمهنة الحدادة، إلا أن معظم الورشات كانت تعمل يوماً وتعطل أياماً، وبالكاد تغطي مصروف صاحبها، ما اضطرني إلى البحث عن عمل قريب من مهنتي لكنني لم أجد؛ وأنا بحاجة إلى دفع إيجار منزل ومصاريف المعيشة".
وأضاف أنه يعمل الآن حارساً لمدة ثماني ساعات يومياً، في مقرّ عسكري تابع لفصيل الجبهة الشامية، ويحصل على مرتب شهري يصل إلى 2200 ليرة تركية (ما يعادل 68 دولاراً أميركياً). وأوضح، أنه يدفع نحو 1000 ليرة تركية (ما يعادل 30 دولاراً أميركياً) إيجار منزل في محيط البلدة، مكون من غرفتين ومنتفعاتهما، بينما يغطي احتياجات عائلته بالمبلغ المتبقي إلى جانب عمله في المياومة في أيام العطلة وبعد فترة الدوام.
وكانت العسكرة خياراً تطوعياً لدى الشباب السوري، وحاجةً ملحة تهدف إلى حماية المدنيين من العمليات العسكرية التي كان يشنها نظام الأسد خلال الأعوام الأولى من الثورة السورية، في مختلف المحافظات، إلا أنها باتت اليوم محط جذب للشباب؛ ومتاحةً أمام الباحثين عن مصدر دخل ثابت في ظل بطالة وانعدام فرص العمل وانخفاض أجور.
ندرة في فرص العمل
ينشر شباب في مجموعات وغروبات؛ وصفحات شخصية في مواقع التواصل الاجتماعي وعلى رأسها موقع "فيسبوك"، منشورات بحثاً عن فرصة عمل مهنية يوضع فيها معلومات تعرف عن المهنة والإمكانات والخبرات العملية ووسيلة التواصل المتاحة أمام الباحثين عن العمال.
إلا أن تلك المنشورات نادراً ما تلقى ردوداً وتفاعلاً من أصحاب الورش والمهن التي تحتاج إلى عمال وكوادر إضافية، وتقتصر على تعليقات مماثلة لأشخاص يبحثون عن فرصة عمل بات الحصول عليها أمراً في غاية الصعوبة، في ظل الظروف الاقتصادية، وارتفاع أعداد السكان وضيق المساحة الجغرافية، وركود الحركة التجارية.
يبحث محمد علي (28 عاماً) من مدينة اعزاز شمالي حلب عن فرصة عمل بأي مهنة يمكنها توفير عائد مادي يعينه في تغطية نفقات واحتياجات أسرته المكونة من ثلاثة أفراد، بعدما ترك عمله السابق في بقالية خضراوات في سوق المدينة.
قال خلال حديثه لموقع "تلفزيون سوريا": "كنت أعمل بائعاً في محل للخضراوات مقابل يومية تبلغ 100 ليرة تركية، فجأةً فصلني معلمي من العمل، وبقيت من دون مصدر دخل"، وأضاف أنه بحث عن فرصة عمل في سوق المدينة ووضع إعلاناً في مجموعة على موقع فيسبوك، لكن لم يستجب أحد لطلبه، رغم موافقته على العمل بأي مهنة".
أما الشاب إبراهيم الأحمد (24 عاماً) وهو مهجر من منطقة جبل الحص في ريف حلب الجنوبي ويقطن في مخيمٍ يطلق عليه اسم: وادي معرين إلى الشمال من مدينة اعزاز نحو 4 كيلومترات، فقد بات مسؤولاً عن إعالة عائلته المكونة من ستة أفراد بينهم زوجته.
وقال خلال حديثه لموقع "تلفزيون سوريا": "كنتُ أعملُ في مشروع زراعي من خلال ري المحاصيل وحراثتها، لكن فقدت عملي منذ أشهر، ولا أملك مصدر دخل ثابت لإعالة أسرتي، وظروفنا المعيشية في المخيم صعبة للغاية". وأضاف: "أنه يبحث عن عمل لإعالة أسرته، ووضعه المعيشي قائم على الدَّين، ويعمل يوماً ويجلس عشرة أخرى في منزله حتى تتاح له فرصة عمل مياوم".
وتعتمد شريحة واسعة من الأهالي على العمل اليومي (المياومة) مقابل أجور زهيدة، تتراوح بين 50 و100 ليرة تركية في أحسن الأحوال (ما يعادل 3 دولارات أميركية) وسط استغلال من قبل أصحاب المصالح والمشاريع للعمال بسبب توافر الأيدي العاملة وقلة فرص العمل.
وبلغت نسبة البطالة بين السكان المدنيين بينهم عمال المياومة إلى 88.74 %، بينما ارتفعت نِسبة الفقر لتصل إلى حدود 90 %، ما أدى إلى هجرة الشباب وارتفاع معدلات الجريمة وزيادة مستويات الفقر بين السكان شمال غربي سوريا، وفق آخر إحصائية أعدها فريق "منسقو استجابة سوريا"، في شباط/فبراير الماضي.
واعتبر الفريق، أن الأسباب الرئيسية لارتفاع نسبة البطالة تعود إلى؛ عدم توفر فرص عمل، وعدم وجود الخبرة الكافية وضعف التدريبات والكفاءات؛ والخبرات العملية لدى الشباب، وتوظيفهم في أعمال وأشغال مؤقتة لا تحتاج إلى خبرات وأجور متدنية لا تكفي لتحقيق أي هدف من أهدافه؛ فضلاً عن استغلال أزمة الشباب وتشغيلهم من دون عقود ولفترات قصيرة ومتقطعة، ما يمنع الشباب من تحقيق أي تقدم في حياتهم.
مؤشرات عسكرة المجتمع
يواجه الشباب صعوبة بالغة خلال بحثهم عن فرصة عمل تعينهم في التغلب على مشاق الحياة، وفي حال وجدوا تلك الفرصة بين الآلاف الذين يبحثون عن عمل، فإنهم يكابدون مرةً أخرى في ظل أجور منخفضة وغير متناسبة طرداً مع مستوى المعيشة، ما يدفعهم إلى العمل في أكثر من مجال؛ ليصبح الانخراط في العمل العسكري مصدر دخل رديف لآخرين.
يرى الناشط الحقوقي يوسف حسين، أن الشباب في شمال غربي سوريا تائه ولا يجد طريقاً سليماً يلتمسه لبناء مستقبله، في ظل الظروف الحالية، لأنه مجبر على الانخراط في سوق العمل الموجودة مهما كانت مخاطرها وظروفها لذلك كان العمل العسكري المسلح خياراً لهم.
وقال خلال حديثه لموقع "تلفزيون سوريا": "إن ضعف الواقع المعيشي أدى إلى انتشار ظاهرة العمل المسلح لدى الشباب، وتحوله إلى مصدر رزق مادي، فضلاً عن غياب التنظيم الإداري لمكونات الجيش الوطني التي باتت غير قادرة على ضبط وتنظيم حمل السلاح وفقاً لمقتضيات المصلحة العامة".
وأضاف: "أن الشباب الذي ينخرط في العمل المسلح في الواقع غير قادر على حمل السلاح، كونه غير مدرب ومؤهل، والأجدر به أن يكون في مقاعد الدراسة يكافح لبناء مستقبله؛ عوضاً عن إضاعة حياته في القتالات الفصائلية، التي باتت خطراً عليه وعلى المجتمع السوري".
وأوضح، أن حمل السلاح من قبل أشخاص مدنيين التحقوا في صفوف العسكرة نتيجة أوضاع اقتصادية يشكل خطورة كبيرة على المجتمع كون السلاح بات يستخدم في المشكلات والخلافات الشخصية البسيطة، إضافة إلى إمكانية ارتكاب الجرائم والانحراف وسط غياب الرادع القانوني.
بينما اعتبر الباحث في الاقتصاد السياسي يحيى السيد عمر، أن التحاق الشباب بالفصائل يشكل تهديداً للاستقرار الاجتماعي، ويقوض أي فرصة للإنعاش الاقتصادي مستقبلاً، ما يؤدي إلى عسكرة المجتمع، وتراجع مؤشرات المدنية والمواطنة، ويعزز فوضى انتشار السلاح، واستخدامه المباشر في الصراعات الداخلية والعشائرية؛ بينما على المدى الاقتصادي تنعكس على ثقافة العمل والإنتاج وتوقف المهن، وهي مؤشرات لها تأثيرات سلبية وخطيرة على المستقبل الاقتصادي والاجتماعي.
وقال خلال حديثه لموقع "تلفزيون سوريا": إن أسباب تصاعد التحاق الشباب بالفصائل المسلحة، تعود إلى دوافع اقتصادية، وهي تتمثل في قلة فرص العمل، وتدني الأجور، وارتفاع معدلات الفقر، ومعوقات وصعوبة الهجرة، لذلك كانت العسكرة الخيار الأنسب أمام الشباب كونها عامل جذب تقدم عوائد مادية مستقرة".
وأضاف: "أن قلة فرص العمل تأتي نتيجة فشل المؤسسات الرسمية المحلية، والمنظمات الإنسانية والمجتمع الدولي، التي لم تتمكن خلال سنوات طويلة من العمل على نقل البلاد إلى مرحلة التعافي المبكر، بينما لا يزال عملها مقتصراً على تقديم مساعدات مالية وعينية، رغم حجمها خلال السنوات الماضية؛ لكنها كانت تفتقر للاستثمار المناسب".
وأوضح، أن القضية السورية معقدة، نتيجة تداخلها بالمؤثرات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والطائفية والعشائرية، ما عرقل فرص الحل، مما أدى إلى أثار سلبية في القطاعين الاقتصادي والاجتماعي، ومن بينها ظاهرة عسكرة المجتمع.
في الخلاصة، لا بد من تضافر الجهود من قبل كافة الأطراف المتمثلة بالمؤسسات الرسمية، ومنظمات المجتمع المدني، والمنظمات الإنسانية السورية، والمجتمع الدولي، للعمل على إطلاق برامج التعافي المبكر من خلال خلق سوق عمل مستقرة، تفتح فرص عمل لآلاف الشباب الذين يبحثون عن مصادر دخل تغطي احتياجاتهم، وإلا فالشباب بات أمام واقع أشد ضراوة في ظل عجز الإمكانات وقلة الحيلة.