لم يعد اهتمام الفصائل العسكرية السورية منصبّاً بشكل أساسي على الأهداف التي أُسست من أجلها، كقتال النظام السوري واستعادة المناطق من قبضته ومجابهته عسكرياً، أو إخراج المعتقلين، كما لم يعد للفصائل وجود لافت في الملف السياسي، ليكون بذلك الملف الاقتصادي متصدراً لاهتمامات هذه التشكيلات، سواء الجيش الوطني السوري، أو هيئة تحرير الشام، على حساب الملفات الأخرى.
اهتمام الفصائل بالملف الاقتصادي والتجاري لم يعد سراً، إذ تكرر وصف سكان منطقة شمال غربي سوريا لهذه التشكيلات بـ "الشركات الربحية"، بعد أن وضعت هذه المجموعات مقدراتها العسكرية من سلاح وأفراد تحت خدمة مصالحها المادية، فتُحرّك الجيوش لأجلها وتزهق الأرواح لتحقيق أكبر قدر من المكاسب فيها.
الفصائل تهمل الجانب العسكري
انخفضت وتيرة الأعمال العسكرية والقصف من قبل روسيا وإيران والنظام السوري على مناطق شمال غربي سوريا خلال عام 2022، لكن القصف لم يتوقف، ومنذ مطلع العام الجاري، حتى 5 تشرين الثاني الماضي، استجاب الدفاع المدني السوري لأكثر من 450 هجوماً لهذه القوات على إدلب وريف حلب.
ومن بين هذه الهجمات نحو 60 غارة جوية وأكثر من 300 هجوم مدفعي، وأكثر من 30 هجوماً صاروخياً، إضافة لهجمات أخرى بأسلحة متنوعة بينها صواريخ موجهة وهجومان بقنابل عنقودية، وأدت تلك الهجمات لمقتل 61 شخصاً بينهم 24 طفلاً و5 نساء وإصابة 152 آخرين بينهم 51 طفلاً و20 امرأة.
ومنذ الخامس من شهر آذار عام 2020 لم تتغير خرائط السيطرة بين الفاعلين العسكريين في سوريا، ومنذ ذلك الوقت لم تشن الفصائل عمليات برية تهدف لاستعادة جزء مما خسرته لحساب روسيا والنظام عام 2019 ومطلع عام 2020 في أرياف إدلب وحلب وحماة.
ويقتصر نشاط الفصائل العسكرية على قصف مواقع النظام بالأسلحة المدفعية أو الصواريخ، ويكون ذلك غالباً رداً على مجازر ارتكبتها الطائرات الروسية بحق المدنيين، ومع ذلك لم تسهم عمليات القصف هذه بوقف المجازر، أو التأثير بالمواقع المستهدفة.
وخلال الأسابيع الماضية بدأت هيئة تحرير الشام بالخروج عن هذه القاعدة جزئياً، من خلال الإعلان عن تنفيذ "عمليات انغماسية" ضد مواقع لقوات النظام، وقتل عناصر له، وهي عمليات لا تهدف بطبيعة الحال للسيطرة الجغرافية، ففي الغالب لا يتجاوز عدد المشاركين في العملية 10 أفراد.
وقال سالم الرجائي، وهو عسكري في هيئة تحرير الشام، إن الهيئة نفذت قبل أيام عملية تسلل خاطفة، على النقاط الخلفية لقوات النظام في جبهة "الأربيخ" بريف إدلب الشرقي، ما أدى لقتل أكثر من 12 وجرح عددٍ آخر منهم، فضلاً عن اغتنام أسلحتهم الفردية، وكميات من الذخائر.
وذكر الرجائي في حديث مع موقع "تلفزيون سوريا"، أن ذلك تزامن مع عملية انغماسية على محور "قبتان الجبل" بريف حلب الغربي، تم خلالها قتل عدد من عناصر قوات النظام، والسيطرة على كامل نقاطهم، ثم تفجيرها، بعد عودة عناصر الهيئة إلى مواقعهم.
ويرى القائد العسكري أن "قوات الأسد لا تفهم إلا لغة الحديد والنار"، ويضيف: "حربنا مع هذه الميليشيات لن تنتهي إلا بتحرير أراضينا التي احتلتها، وما أخذ بالدم لا يُسترجع إلا بالدم، ومن يريد رؤية المناطق تتحرر، ليجهز نفسه إيمانياً وبدنياً للمعارك القادمة لا محالة"، بحسب وصفه.
وعلى الرغم من الخطاب المتضمن وعوداً بـ "التحرير والمعارك"، والتي تشبه وعود قائد الهيئة أبو محمد الجولاني، بتحرير دمشق وحلب واللاذقية وحماة وغيرها، إلا أن الواقع يخلو من أي مؤشرات على ذلك من قبل الهيئة، كما هو الحال بالنسبة للجيش الوطني السوري، الذي يركز بشكل أساسي في عملياته العسكرية أو القصف - إن وجدت - على "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد).
أداء خجول سياسياً
شهد عام 2022 تطورات سياسية في الملف السوري، من أبرزها سعي بعض الدول العربية، مثل الأردن، للتطبيع مع النظام السوري، وإعادة العلاقات معه، فضلاً عن الجهود الجزائرية لإعادة النظام إلى مقعده في جامعة الدول العربية.
ولعل أبرز ما طرأ على الملف السوري سياسياً، تبدل الموقف التركي من إمكانية اللقاء والحوار مع رئيس النظام في سوريا بشار الأسد، حيث أكد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إمكانية رفع مستوى اتصالات بلاده مع النظام إلى المستوى الدبلوماسي، في حال توفرت الأرضية المناسبة لذلك.
وفي شهر تشرين الأول الماضي، شدّد وزير الخارجية التركي، على ضرورة إيجاد حل سياسي للقضية السورية عبر التوصل إلى اتفاق بين النظام السوري والمعارضة، استناداً إلى القرار الدولي رقم 2254.
وفي السياق نفسه، أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أنه "اقترح على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تشكيل آلية ثلاثية مع روسيا وسوريا لتسريع الدبلوماسية بين أنقرة ودمشق"، وبدء سلسلة من الاجتماعات بين هذه الأطراف لإعادة النظر في العلاقات المتوترة مع النظام السوري.
ورغم أن الحدث يعد تطوراً مفصلياً في الملف السوري، لم يكن للفصائل العسكرية (هيئة تحرير الشام - الجيش الوطني السوري بفيالقه الثلاثة - الجبهة الوطنية للتحرير) أي موقف رسمي حيال الخطوة المرتقبة للرئيس التركي حول لقاء بشار الأسد.
ويعكس ذلك إهمال هذه الجهات للملف السياسي، وعدم إدراكها لخطورة التطورات السياسية المذكورة، وهذا ما ينطبق على الحكومة السورية المؤقتة، ووزارة الدفاع التابعة لها، والائتلاف الوطني السوري، وحكومة الإنقاذ المرتبطة بهيئة تحرير الشام، إذ لم تعلن هذه الكيانات عن موقفها من التصريحات التركية بضرورة الحوار بين المعارضة السورية والنظام.
ويشار إلى أن بعض القادة العاملين في الجيش الوطني، أو الهيئة، ردوا على هذه التصريحات عبر حساباتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي فقط، تزامناً مع تصريح لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، يقول فيه، إن موسكو وأنقرة اتفقتا على فرز فصائل المعارضة المسلحة على أساس قبولها الحوار مع النظام السوري، دون ذكر مزيد من التفاصيل.
الاقتصاد في المقدمة
كان هجوم هيئة تحرير الشام على حركة أحرار الشام في عام 2017، من بوادر تفرد الهيئة في الحكم والإدارة بمحافظة إدلب، ترافق ذلك مع الإعلان عن تأسيس الجيش الوطني السوري، وبعد حملات التهجير وانحسار مناطق سيطرة المعارضة السورية في شمال غربي سوريا فقط، انقسمت هذه المنطقة إلى جزأين أيضاً، كل واحد منهما أشبه بدويلة صغيرة، معزولة عن الأخرى إدارياً.
وسعى كل طرف لتعزيز قوته عبر السيطرة على الموارد الاقتصادية وتنفيذ المشاريع التجارية عبر المكاتب الاقتصادية، وبعد توقف الأعمال العسكرية في إدلب بموجب اتفاق تركي - روسي في آذار 2020، لوحظ أن الملف الاقتصادي بات أولوية للتشكيلات العسكرية، التي وجدت في الجيش التركي خياراً لمواجهة روسيا عسكرياً، وفي الحكومة التركية خياراً لإدارة الصراع حول المنطقة سياسياً.
وبينما كانت هيئة تحرير الشام تدير الملف الاقتصادي بشكل منظّم، كانت فصائل الجيش الوطني تديره بعشوائية، إذ وجِد في كل فصيل مكتب اقتصادي يعمل بمعزل عن الفصائل الأخرى، مهمته رسم السياسات وتنفيذ المشاريع وتوفير الموارد المالية بشتى الوسائل.
ولعب الملف الاقتصادي دوراً في المواجهات الأخيرة بين هيئة تحرير الشام، وفصائل في الجيش الوطني السوري، إذ كان "معبر الحمران" الفاصل بين مناطق سيطرة الجيش الوطني وقوات "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) شرقي حلب، من ضمن الأهداف في قائمة الهيئة، نظراً للمكاسب المادية الكبيرة التي يمكن أن يوفرها.
ويتفق "مركز الحوار السوري" مع ذلك، حيث أكد أن العامل الاقتصادي يعد أحد العوامل الخفية التي كانت وراء اندلاع الاشتباكات، لا سيما بعد الحديث عن عودة افتتاح معابر نظامية مع مناطق سيطرة النظام السوري و"قسد"، وقد أظهرت حيثيات الاقتتال البعد الاقتصادي للصراع، من خلال تسريبات بمطالبة الهيئة بنسبة من عائدات المعابر وتوسيع دائرة نفوذها داخل المفاصل الاقتصادية والتجارية في المنطقة.
وفي الوقت نفسه، جاءت معارضة بعض الفصائل لدخول الهيئة إلى المنطقة نتيجة دوافع اقتصادية، لأن ذلك يعني دخول منافس قوي على الموارد المتاحة، حيث إن وجود تحرير الشام في منطقة عفرين وسيطرتها عليها يسمح لها بالوصول إلى خطوط تماسّ مشتركة مع "قسد"، وإنشاء معابر غير نظامية وإدارة عمليات التهريب معها.
ما أهم الأنشطة الاقتصادية؟
تعد المعابر من أبرز الموارد المالية للتشكيلات العسكرية، ويشمل ذلك المعابر الحدودية مع تركيا، أو المعابر مع مناطق سيطرة النظام وقسد، (الشرعية والتهريب)، ومن أهم المعابر، باب الهوى الحدودي مع تركيا، الخاضع لسيطرة هيئة تحرير الشام، فيما تتوزع سيطرة بقية المنافذ الحدودية على فصائل الجيش الوطني.
تعتمد "تحرير الشام" على تمويل نفسها بنفسها، من خلال الاستثمارات والتجارة والرسوم والإتاوات، وتنشط بتجارة عدة سلع، مثل السكر والموز، والدجاج المجمد، والقطع الإلكترونية والكهربائية، فضلاً عن استثمارها بشكل غير مباشر في المولات التجارية والمطاعم.
وتحصل الهيئة على أموال عبر "حكومة الإنقاذ"، من خلال وضع يدها على قطاع الاتصالات، والحصول على 10 بالمئة من الحصص الإغاثية الموزعة من قبل بعض المنظمات الإنسانية، إضافة لرسوم الطلبة في الكليات والمعاهد بجامعة إدلب، وتأجير العقارات، وتقديم خدمات أمنية للتجار لقاء مبالغ مالية.
وتستفيد الهيئة مادياً من خلال إشرافها على شبكات لتهريب البشر إلى تركيا، كما تحصل على واردات مالية كبيرة عبر احتكار تجارة المحروقات وغير ذلك من المواد الأساسية.
وقدّرت دراسة لمركز "جسور" للدراسات، مرابح هيئة تحرير الشام سنوياً 1 مليون دولار من خلال تجارة السكر، و1.8 مليون دولار من تجارة الدجاج المجمد، و2.4 مليون من تجارة الموز، و3.6 مليون من تجارة مواد البناء، فضلاً عن المرابح من سلع أخرى.
الدراسة نفسها أشارت إلى أن الهيئة تستثمر في عدة مجالات، عبر "إدارة الاستثمار والمشاريع" التي أسست عام 2017، ومن هذه الاستثمارات، شركات لتجارة المحروقات، مثل "وتد" و"وطيبة" و"خيرات الشام"، وشركة "ألفا" للإلكترونيات.
فصائل الجيش الوطني هي الأخرى تهتم بالمجال الاقتصادي، وتنشط بتجارة المحروقات، والاستثمار في بناء المولات وتأجير أقسامها، وتهريب البشر إلى تركيا، إضافة لإشرافها على معابر مع مناطق سيطرة النظام وقسد، لتهريب البشر والسلع، كما تُتهم بعض الفصائل بالحصول على موارد مالية من صنع وتجارة المواد المخدرة.
إدارة اقتصادية غير منضبطة
تعتبر الإدارة الاقتصادية من قبل الجيش الوطني السوري، غير منضبطة، بسبب تعدد المكاتب المالية والاقتصادية في كل فصيل، والتي تعمل بشكل مستقل عن الفصائل الأخرى، وترسم سياسات تعنى بالفصيل فقط، مع غياب التنسيق والتخطيط المشترك بين هذه المكاتب.
يؤكد ذلك المستشار الاقتصادي الدكتور أسامة القاضي، الذي قال إن لكل فصيل في الجيش الوطني مكتباً اقتصادياً مستقلاً، يهتم بجمع الأموال عبر الإتاوات وترفيق الشاحنات التجارية، والمعابر وشراء العقارات وغيرها، ويعني ذلك أن الجيش الوطني يحتوى على 27 مكتباً اقتصادياً.
ولتنظيم الملف الاقتصادي في الجيش الوطني، يفترض عدم وجود مكاتب اقتصادية للفصائل، واستلام وزارة المالية في الحكومة المؤقتة للمعابر، ويقول "القاضي" إن العسكري يجب أن يقتصر عمله على العسكرة، لأن دخولهم في شأن اقتصادي غير منضبط يعني بشكل أو بآخر إعادة تدوير تجربة النظام السوري في سرقة المدنيين ونهب أموالهم.
بالمقابل، يقترح "القاضي" في حديثه لموقع تلفزيون، أن تضع الحكومة السورية المؤقتة قوانين صارمة للحد من المداخيل غير الشرعية، وتخصيص موارد مالية لائقة لأفراد الشرطة والجيش، وهذا قد يسهم بالحد من لجوء الأفراد إلى أساليب غير قانونية لجني الأموال.
لا يمكن الفصل بين السياسة والاقتصاد
يعتقد الخبير الاقتصادي، الدكتور كرم شعار، أنه لا يمكن بأي دولة الفصل ما بين السياسة والاقتصاد، فهما ملفان مرتبطان عضوياً، وكل منهما محرك للآخر، لكن في حالة شمال غربي سوريا، انخفض اهتمام التشكيلات العسكرية بالسياسة أو العسكرة، على حساب الاقتصاد، لأسباب واتفاقيات عدة منها دولية وإقليمية خارج قدرة هذه التشكيلات.
ومن الضروري حسب "شعار" التمييز بين طبيعة النشاط الاقتصادي حسب مناطق السيطرة شمال غربي سوريا، ففي مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام هناك سلطة أمر واقع تعمل بعدة مجالات بشكل غير قانوني، وفي نفس الوقت هناك توجه للحوكمة وبناء المؤسسات.
وأفاد "شعار" في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، بأن هيئة تحرير الشام تركز على التدخل في القطاعات الاقتصادية الهامة بشكل مؤسساتي، ويشمل ذلك على سبيل المثال المحروقات والاتصالات والتعليم.
أما عن تأثير التركيز على الاقتصاد في مستقبل الثورة السورية، فيرى "شعار" أن الأطراف المستفيدة من اقتصاد الحرب، تسعى لاستدامة الصراع، وهذا "أكبر خطر مرتبط بأمراء الحرب الموجودين حالياً".
وتحاول هذا السلطات التأقلم مع الواقع الحالي - والذي فُرض بنسبة كبيرة من قوى خارجية - مع عدم الرغبة بوجود حريات في المنطقة، أو تغيير خريطة السيطرة العسكرية لأن ذلك قد يشكل خسارة اقتصادية بالنسبة لهذه الفصائل.
ولا يمانع كثيرون من سكان شمال غربي سوريا نشاط الفصائل العسكرية في المجال الاقتصادي، في ظل ما تعانيه من شح في الموارد وضعف في المنح المالية المقدمة للعناصر، وبالتوازي مع ذلك، يجب ألا يكون ذلك على حساب إهمال الجانب العسكري والسياسي والإنساني، إذ إن ملايين السوريين لم يشاركوا في الثورة مع تحمل التبعات المترتبة على ذلك من قتل واعتقال وتشريد وتهجير، من أجل أن ينتهي بهم المطاف داخل المخيمات على الشريط الحدودي شمالي البلاد، وسط إهمال دولي ومحلي، وفصائليّ بالدرجة الأولى.