استغل قائد "هيئة تحرير الشام" أبو محمد الجولاني، خلال الأسبوع الفائت، مناسبة عيد الأضحى لعقد اجتماعات ولقاءات مكثّفة مع وجهاء ومدنيين في محافظة إدلب، ومع مجلس الوزراء في "حكومة الإنقاذ"، مع تركيز إعلامي على هذه اللقاءات ونشرها بالصوت والصورة دون اقتطاع كبير من محتواها.
عقد الجولاني لقاءات مع وجهاء المنطقة الشرقية الموجودين في إدلب، والجناح العسكري في "هيئة تحرير الشام"، ووجهاء منطقة إدلب وريفها، ومجلس وزراء "حكومة الإنقاذ" (الذراع المدنية للهيئة)، ورافق الجولاني في بعض الجلسات قادة في الهيئة، مثل "أبو ماريا القحطاني"، والشرعي العام "عبد الرحيم عطون"، والشرعي "مظهر لويس"، والقائد العسكري "أبو الحسن 600".
بناء كيان سنّي
لا يتردد الجولاني في مثل هذه اللقاءات، بتوجيه رسائل محلية وخارجية، والإضاءة على المشروع الذي تعمل عليه "الهيئة" و"حكومة الإنقاذ" والغاية منه، وكان اللقاء مع "مجلس الوزراء" فرصة ليقول إنّ "حكومة الإنقاذ مرحلة مهمة في تاريخ الثورة السورية، وهي بمثابة الانتقال من الحالة الفوضوية التي كانت عليها المناطق المحررة، إلى الحالة التنظيمية والقانونية".
لم يعد المشروع في "المحرّر" حسب الجولاني، مشروع ثورة ضد ظلم وطغيان فقط، إنما تحوّل إلى بناء "كيان سنّي"، لأن أبناء السنة معرّضون لخطر وجودي في سوريا، رغم أغلبيتهم وكثرة عددهم، إذ إن نظام الأسد يعمل على تغيير الهوية السنية بهوية أخرى، من خلال تجنيس عدد كبير من الإيرانيين واللبنانيين وغيرهم.
وصف الجولاني "العسكرة" بأنها "السور الذي يحمي المنطقة"، لكنه أشار إلى أن فكرة الثورة ليست عسكرية فحسب، وأن اقتصار الثورة على أنها عسكرية أو أمنية يعد توصيفاً خاطئاً للواقع، لأن الهدف بناء مجتمع وكيان إسلامي سني يحافظ على هوية وتراث الشعب ويتناسب مع طبيعته وتاريخه.
"إدلب فاقت كل المناطق"
خلال اللقاء مع وجهاء منطقة إدلب، قال الجولاني إن مهمتهم لا تقتصر على تحرير منطقة وإدارتها، مضيفاً أنه خلال فترة الاستقرار النسبي العامين الماضيين، تم العمل على أشياء كثيرة، كالمؤسسات التعليمية والشرطية والأمنية والعسكرية والقضائية.
ووصف الجولاني، إدلب بـ"منارة للعلم والمعرفة"، وأصبحت بنية تحتية لتنمية اقتصادية وبشرية، ومع كل الضغط الذي يحصل على إدلب، إلا أنها "بحجم الصراع في سوريا، فاقت مناطق سيطرة النظام، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) مع كل الدعم الغربي المقدم لها، ومناطق غصن الزيتون ودرع الفرات الخاضعة لسيطرة الجيش الوطني، مع كل الدعم الموجه لها"، وفقاً للجولاني.
واعتبر زعيم "هيئة تحرير الشام" أن الشخصية الثورية ما زالت مستقلة في إدلب، لكونها لا أحد يتحكم بقرارها، وذلك "نعمة عظيمة، ومقدمة لأشياء كثيرة يمكن أن تحدث في المنطقة بالمستقبل القريب"، وفق قوله.
التوجه الاستراتيجي لـ"المناطق المحررة"
في مداخلة له، تساءل الدكتور عبد الرزاق الحسين، عميد كلية الهندسة المدنية والمعمارية في جامعة إدلب، عن التوجه الاستراتيجي لـ"المناطق المحررة"، مضيفاً: "بأي اتجاه ماضون؟ بناء دولة أو فيدرالية؟ هل هي دولة تابعة لمنظومة سياسية محددة؟ نريد أن نعلم ما هو التوجه الاستراتيجي".
أجاب الجولاني أن الخطة الاستراتيجية موجودة ومعالمها واضحة، والواجب الأول هو "أن تتحرر سوريا بأكملها، فكرة البقاء في منطقة واحدة هنا، هذه فكرة يجب أن لا نستسلم إليها، حتى لو واجهنا كل دول العالم وكل مشاريع العالم".
ويرى الجولاني أن الخطة العسكرية الاستراتيجية هي "تحرير كامل سوريا"، وذلك له خطوات وشيء من الإعداد، ويحتاج إلى فرصة سانحة، والظروف العامة في "المحرر" أو الدولية والمحلية والاقليمية تدفع باتجاه أن هناك فرصة كبيرة ستأتي على المنطقة للتحرير العسكري.
استقرار السلطة
قال الجولاني، إن "السلطة" في إدلب أولت اهتماماً للتعليم والموارد البشرية بشكل أساسي، ثم الكهرباء، والقضاء، مضيفاً أن ذلك كان بحاجة إلى استقرار السلطة في "المناطق المحررة"، فعندما كان "هناك تنازع فصائلي داخل المحرر، أدى ذلك إلى عدم البناء".
وأشار إلى وجود عدة فصائل سابقاً في إدلب، كلها تتدخل في إدارة المناطق، ما يعني تعطيل أي مشروع يمكن أن يحصل في المنطقة، لكن "عندما حدث نوع من الاستقرار السلطوي، وأصبح هناك حكومة ومؤسسات، والفصائل كفّت يدها عن إدارة الشؤون المدنية، وذهبت إلى الرباط، فُسح المجال إلى البناء، وسار الأمر على نحو جيد".
تطرّق الجولاني إلى تحسن الواقع الأمني، إذ قال: أصبح "الشخص فينا يذهب من شمال المحرر إلى جنوبه الساعة الثانية ليلاً وهو آمن على نفسه"، علماً أنه لا يوجد نسبة نجاح أمني 100% في أي دولة بالعالم.
وحاول "الغمز" بمناطق أخرى -دون أن يحددها- حيث ذكر أن الخلية الواحدة عندما تخرق الأمن لمرة واحدة، ثم يُقبض عليها، يكون ذلك نجاحاً أمنياً، لكن في مناطق ثانية، الخلية تنفذ 100 عملية، ثم يقال ألقي القبض على "فلان"، وهذا خلل كبير.
كلية عسكرية ووزارة دفاع
شرح الجولاني لوجهاء إدلب الحالة العسكرية في المنطقة، وتحدث عن غرفة عمليات "الفتح المبين"، والكلية العسكرية، مضيفاً أن من نتائج الكلية، تنظيم عسكري كبير، يتأهل إلى أن يصبح ربما وزارة دفاع في المستقبل، ليتم الخروج من الحالة الفصائلية.
الخطة الاقتصادية
بحسب الجولاني، تعتمد الخطة الاقتصادية في إدلب على ثلاثة أشياء وهي:
- الزراعة: من خلال العمل على إعادة التنمية الزراعية بما يتناسب مع حاجة الأمن الغذائي بالمنطقة، وحاجة سوق التصدير في الوقت نفسه.
- الصناعة: يحتاج ذلك إلى مدينة صناعية، ولا تنجح إن لم يتم توحيد المعابر الحدودية، لأن أي بضاعة تُصنّع في الداخل يجب أن تكون داعمة للإنتاج المحلي، بالتالي يجب منع دخول أصناف أجنبية تشابه الأصناف المنتجة، أو وضع ضرائب عالية على الأصناف المستوردة دعماً لتسويق الإنتاج المحلي.
وقال الجولاني إن الصناعيّ يحتاج 4 أيام فقط لتأمين تراخيص بناء مصنعه، ويعطى ضمانات على حماية منتجاته المحلية، والهدف هو الوصول إلى مرحلة تكون بها نسبة التصدير أكثر من نسبة الاستيراد.
- الخدمات: يشمل ذلك الكهرباء والنظافة والمياه والاتصالات وغيرها.
"الجولاني يقزّم السنّة"
يعتقد الباحث في مركز "مشارق ومغارب للدراسات" عباس شريفة أن عدم قدرة الجولاني على الاندماج مع الثورة، وعدم قبول الثورة لخطاب "هيئة تحرير الشام"، أو فشل الأخيرة بالتقرب من الحوامل الاجتماعية الثورية، دفع الهيئة للبحث عن تعريف مختلف لها، وهوية جديدة، وهي تمثيل السنة، وادعاء الهيئة أنها المشروع الذي يمثلهم، وهذا يعطيها مشروعية عند المجتمع السنّي بدلاً من المجتمع الثوري، وهذا ما يفسر تركيز الجولاني على بناء كيان للسنة، بدلاً من تحقيق أهداف الثورة.
ويضيف "شريفة" في حديث مع موقع تلفزيون سوريا أن خطاب الجولاني بهذه الطريقة، هو تقزيم للسنّة أنفسهم، فبدل أن يكونوا الغالبية في سوريا، والرافع الأساسي للثورة، سيصبحون مجرد طائفة من الطوائف ضمن منطقة معينة.
وفي تعليقه على حديث الجولاني عن أهمية عدم اقتصار الثورة على أنها عسكرية أو أمنية، لأن الهدف بناء مجتمع وكيان إسلامي، يقول "شريفة" إنّ هذا الهروب نحو الشمولية هو لتبرير التقاعس العسكري المتكرر لهيئة تحرير الشام، وهو بمثابة رسالة من الجولاني، أنه يجب النظر إلى باقي المكتسبات، وتحقيق المشروع الإسلامي الذي يصبو إليه البعض بـ "الصورة المبتورة" التي تعبّر عنها الهيئة.
تفرّد لا استقلالية بالقرار
ذكر "شريفة" أن إصرار زعيم "هيئة تحرير الشام" دائماً على المقارنة بين إدلب ومناطق سيطرة الجيش الوطني، هو من باب تحقيق التمايز، موضحاً أن المشروع الذي تبنيه الهيئة يرتبط بأشخاص وبمنظومة غير محوكمة قانونياً ولا شعبياً، وليس لها أي إطار مرجعي من الشعب السوري.
الحديث عن الاستقلالية بالقرار من جانب الجولاني، يراه الباحث "شريفة" غير دقيق، حيث أشار إلى أن إدلب تم انتزاعها من القوى الثورية، وما يجري هو تفرد بالقرار من قبل الهيئة وليس استقلالية، خاصة أن قرار الحرب والسلم بيد الجيش التركي، وهذا ينسف ما يقوله الجولاني.
انشغال بالبناء لا بالتوسع
ذكر الباحث في الجماعات الإسلامية محمد صفر، في حديث مع موقع تلفزيون سوريا أن حديث الجولاني عن مشروع بناء كيان سنّي، يحمل في طياته أن الأمور قد استتبت له، وأنه يسيطر على إدلب سيطرة كاملة، وأنه لم يعد منشغلاً بتوسيع المنطقة، بقدر ما هو منشغل بالبناء حالياً.
وعندما قال الجولاني إن الثورة ليست عسكرية وأمنية فقط، أراد أن يؤكد توجهه أنه ليس "رجل ميليشيا وقتال فقط، إنما رجل دولة، ويمكن التعويل عليه فيما يتعلق بمستقبل سوريا، أو مستقبل مناطق سيطرته على الأقل"، وفقاً للباحث.
و"هيئة تحرير الشام" هو الاسم الذي اختير عام 2017 لـ"جبهة النصرة" سابقاً ثم "جبهة فتح الشام"، وبعد أن تمكنت الهيئة من تفكيك مختلف الفصائل المنافسة لها في إدلب، وأمسكت بمفاصل الإدارة المحلية، تم الإعلان عن تشكيل "حكومة الإنقاذ" في 2017 أيضاً، التي حملت على عاتقها تأسيس بنية المشروع الذي تحلم به الهيئة، وهو "الكيان الإسلامي السني" وفقاً لقائدها.