مشهد ضبابي يسود شمال غربي سوريا مع جملة من الأخبار والأنباء عن مفاوضات تركية - روسية لافتتاح المعابر التجارية بين مناطق سيطرة المعارضة السورية والنظام، واستئناف الحركة على الطرقات الدولية، في تحول ملحوظ على صعيد المنطقة.
كل هذه الخطوات والتحركات يُنظر إليها بترقب شديد، فالبعض متفائل بزوال الركام وغبار المواجهات العسكرية التي لطالما أعاقت عجلة التجارة الإقليمية والدولية، وتمهيد الطريق أمام انتعاش اقتصادي محتمل لسكان المنطقة، لكن في الوقت ذاته، ثمة الكثير من الضبابية والغموض الذي يلف مستقبل هذه الطرق وانعكاساتها السياسية والأمنية.
وعلى الرغم من الأهمية الاقتصادية البالغة لهذه الخطوة، إلا أن مواقف الفاعلين السياسيين والعسكريين في المنطقة ما تزال غير واضحة تماماً، إذ لم تبدِ فصائل المعارضة ومؤسساتها أي موقف حيال ذلك سواء بالقبول أو الرفض، لا سيما هيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري.
جملة من التطورات
تشير التقديرات إلى ارتباط وثيق بين افتتاح الطرق الدولية في شمال غربي سوريا وبين التطورات السياسية الأخيرة في المنطقة، فقد صاحب الحديث عن إمكانية فتح الطرقات، تصريحات من المسؤولين الأتراك ترحّب بالتقارب مع نظام الأسد وإعادة التطبيع معه.
هذه الخطوة التركية للأمام حيال العلاقة مع النظام، لا يمكن فصلها عن حديث إعادة فتح معبر أبو الزندين قرب مدينة الباب أمام الحركة التجارية بين مناطق سيطرة النظام السوري والمعارضة، إضافة لما رافق ذلك من حديث عن فتح الطرق الدولية في شمال غربي البلاد أمام القوافل التجارية، فالعلاقات التركية المتوترة مع النظام لأكثر من عقد، كانت أحد أهم العوائق أمام استئناف حركة البضائع والأشخاص عبر الحدود، وبإزالة هذا العائق السياسي، قد يتم تذليل المعوقات الأمنية والفنية الأخرى لتفعيل الشرايين التجارية.
كما أن التقارب التركي المحتمل مع النظام، قد يؤثر بشكل مباشر على مستقبل هذه الطرق الدولية وخططها التنموية، فإذا ما ترجم ذلك التقارب إلى إعادة حركة التجارة بين الطرفين مروراً بمناطق نفوذ الفصائل، فقد يؤدي ذلك إلى إعادة تشكيل خارطة التجارة الإقليمية وإعادة توجيه بعض التدفقات التجارية عبر معابر جديدة، وهو ما قد ينعكس على مصالح بعض الفصائل والجماعات المسيطرة على المعابر، والتي يبدو أنها لن تقف عائقاً أمام هذه الخطوة فيما لو درّت عليها الأموال.
ويمكن تلخيص الأحداث الميدانية والتصريحات السياسية خلال الأيام القليلة الماضية بالآتي:
- تصريح لوزير الخارجية التركي حقان فيدان قال فيه إن النظام السوري لا يستغل حالة الهدوء ووقف إطلاق النار، لحلّ المشكلات الدستورية و"تحقيق السلام مع معارضيه"، داعياً لتوحيد النظام والمعارضة السورية لمكافحة حزب العمال الكردستاني، كما أضاف: "ما نريده، هو أن يقيّم النظام السوري هذه الفترة من حالة عدم الصراع بعقلانية، وأن يستغل كل هذه السنوات كفرصة لحل مشكلاته الدستورية، وتحقيق السلام مع معارضيه، وإعادة الملايين من اللاجئين السوريين الذين فروا إلى الخارج أو غادروا أو هاجروا من جديد إلى بلدهم، ليعيدوا بناء بلادهم وينعشوا اقتصادها".
- أبدى رئيس النظام السوري بشار الأسد في لقاء مع المبعوث الخاص للرئيس الروسي ألكسندر لافرنتييف، انفتاحه على العلاقة مع تركيا مكررا شروطه المسبقة لتطبيع العلاقات مع أنقرة.
- أعرب الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، عن استعداد بلاده لإقامة علاقات دبلوماسية مع رئيس النظام السوري بشار الأسد، قائلاً إنه "لا يوجد سبب يمنع إقامة العلاقات الدبلوماسية. سنواصل تطوير العلاقات كما كنا نفعل في الماضي، ليس لدينا أي هدف أو نية للتدخل في الشؤون الداخلية لسوريا، لأن الشعب السوري هو مجتمع شقيق".
- إعلان المجلس المحلي لمدينة الباب شرقي حلب بدء تنظيف وتجهيز معبر أبو الزندين التجاري، وذلك تمهيداً لافتتاحه تجريبياً بهدف اعتماده كمعبر تجاري رسمي، قائلاً إنّ فتح المعبر سيمكّن التجار وأصحاب الأعمال من نقل البضائع والسلع، مما يسهم في تنشيط الحركة التجارية وزيادة موارد المجلس المحلي، والتي سيتم استخدامها للصالح العام وإعادة تأهيل البنية التحتية في المدينة.
ماذا عن الطرقات الدولية؟
نقلت صحيفة "الوطن" المقربة من النظام عن مصادر لها، أن "الطريق السريع حلب - اللاذقية (M4) جرى التفاهم بشأنه في اتفاق موسكو، الروسي - التركي منذ 5 آذار 2020، وتأخر افتتاحه من جراء "مماطلة أردوغان"، بحسب وصفها.
وأشارت إلى أنه "من غير الجائز ربط افتتاحه أمام حركة المرور والترانزيت بطريق غازي عنتاب (يمر من مدينة اعزاز إلى مدينة حلب)، الذي بات يعرف بطريق الشط، فيجب وضع الطريق الأول في الخدمة أولاً، ثم التفاوض على الطريق الثاني".
واعتبرت أن افتتاح معبر أبو الزندين تجريبياً أمام الشاحنات، لم يجر مقابل افتتاح طريقي M4 والشط، وإنما من خلال "تفاهم روسي - تركي مستقل يراعي المصلحة الاقتصادية السورية - التركية، ولاحقاً الاعتبارات الإنسانية عند فتحه أمام حركة تنقل الأفراد".
في غضون ذلك، نفى المجلس المحلي في مدينة اعزاز بريف حلب الشمالي، لموقع تلفزيون سوريا، التحضير لافتتاح معبر تجاري مع مناطق سيطرة النظام السوري، أو العمل على استئناف حركة السير على أوتستراد حلب - غازي عنتاب، وذلك بعد انتشار صور لعمل آليات هندسية بالقرب من حاجز "الشط" جنوب غربي اعزاز، القريب من خطوط التماس، خاصة أن ذلك تزامن مع تسيير شاحنات تجارية تجريبية عبر ممر أبو الزندين قرب مدينة الباب شرقي حلب الفاصل مع مناطق سيطرة النظام تمهيداً لافتتاحه رسمياً.
وعلم موقع تلفزيون سوريا من مصادر خاصة أن روسيا تعمل على استثمار الغضب التركي من الانتخابات المحلية التي تعتزم قسد إجراءها في آب المقبل، بعد أن أجّلت الانتخابات التي كانت مقررة في حزيران، إذ يجري الجانب الروسي اتصالات مع أنقرة ودمشق من أجل دفع مسار التقارب إلى الأمام، خاصة أن موسكو تلمّست رغبة تركية في تعزيز التنسيق بشأن سوريا.
الطرح الروسي الحالي يقوم على إعطاء زخم جديد لمسار أستانا وتفعيل الآلية من أجل معالجة مخاوف تركيا الأمنية، والعمل على تطبيق مذكرات التفاهم السابقة التي تتضمن إبعاد "التنظيمات الإرهابية" من المناطق الحدودية التركية مثل تل رفعت ومحيطها، ومنبج، بالمقابل، يتم العمل على حل الخلافات العالقة في إدلب وتنفيذ الاتفاقيات بخصوصها وتسهيل عمل "مؤسسات الدولة" فيها، وفتح الطرقات الدولية.
أبرز الطرق الدولية في شمال غربي سوريا
منذ اندلاع الثورة السورية في عام 2011، أصبحت الطرقات الدولية محط صراع بين مختلف الأطراف في سوريا ابتداءً من النظام السوري وفصائل المعارضة، وصولاً إلى تدخل الدول الإقليمية والدولية في هذا الصراع، حيث حاول كل طرف السيطرة على هذه الطرقات الاستراتيجية لتعزيز موقفه وزيادة عائداته المالية وكسب نقاط قوة في أي مفاوضات مستقبلية.
وانتقل هذا الصراع إلى مستوى أعلى مع تدخل القوى الإقليمية والدولية في سوريا، فأصبحت هذه الطرقات محط صراع بين هذه الدول التي حاولت كل منها توجيه حركة المرور والبضائع وفق مصالحها.
وفي شمال غربي سوريا يمكن الإشارة إلى أبرز الطرق الدولية، ومنها:
1- الطريق الدولي "دمشق - حلب" (M5)، وقد كانت فصائل المعارضة تسيطر على أجزاء منه في حماة وإدلب وحلب، لكن النظام تمكن بدعم روسي من بسط نفوذه على كامل الطريق، بعد السيطرة على مدن رئيسية في إدلب، منها خان شيخون ومعرة النعمان وسراقب، وتحظى فصائل المعارضة حالياً بإشراف جزئي على الطريق عبر التلال الحاكمة، من دون أي وجود فعلي، ومنذ سيطرة النظام على الطريق في عام 2020، اقتصر عمله على الحركة من وإلى المحافظات الخاضعة لسيطرة النظام، واستُخدم للحركة التجارية والنقل العسكري.
يعتبر M5 الطريق الرئيسي للنقل البري بين المناطق الشمالية والجنوبية في سوريا، وكان حيوياً لتدفق البضائع والتجارة بين المدن الرئيسية قبل اندلاع الثورة، ولطالما كانت السيطرة عليه بالكامل هدفاً استراتيجياً رئيسياً للنظام وداعميه خلال السنوات الماضية.
2- طريق "حلب - اللاذقية" الدولي (M4)، ويخضع جزء كبير منه لسيطرة "هيئة تحرير الشام" في إدلب التي يمر منها الطريق، وتمتد سيطرة الهيئة على الطريق من ريف جسر الشغور غربي إدلب، إلى حدود مدينة سراقب شرقي المحافظة.
وحاول النظام بدعم روسي السيطرة على الطريق إلا أنه لم يفلح بذلك، وفي عام 2020 سيّرت تركيا وروسيا دوريات مشتركة عليه، وكان الطريق نفسه على طاولة التفاهمات بين أردوغان وبوتين في آذار 2020، حيث اتفق الرئيسان على إقامة ممر أمني على بعد ستة كيلومترات شمالي (M4) وستة كيلومترات جنوبه، لكن ذلك لم يحدث، وما زال ملف الطريق مجمّداً منذ ذلك الحين.
ويمتد الجزء الآخر من الطريق نفسه "حلب - الحسكة" (M4 أيضاً) من مدينة حلب الخاضعة لسيطرة النظام باتجاه الشرق مروراً بمدينة الباب الخاضعة لسيطرة الجيش الوطني، ثم مدينة منبج الخاضعة لسيطرة "قسد"، ثم مناطق ريف الرقة وصولاً إلى الحسكة والحدود مع العراق.
3- طريق "غازي عنتاب - حلب"، ويعد من أكثر الطرق تعقيداً من ناحية السيطرة، حيث يخضع لإشراف الجيش الوطني السوري، وقوات "قسد"، والنظام السوري، ويمتد من معبر باب السلامة الحدودي مع تركيا شمالي حلب، مروراً بمدينة اعزاز، ثم مناطق سيطرة "قسد" في ريف تل رفعت، ثم مناطق سيطرة النظام والميليشيات الإيرانية في نبل والزهراء وحريتان وكفر حمرة، وصولاً إلى مركز مدينة حلب.
ما المصير المتوقع للطرق؟
ذكر الباحث في الشأن السوري وائل علوان، أن الطرق التي يجري الحديث عنها، تمرّ بالعديد من المناطق السورية، وتربط سوريا بالخارج، كما أن بعضها يمثّل نقطة عبور من تركيا إلى الخليج العربي، وقد سبّب إغلاق هذه الطرق مشكلات في حركة التجارة ما بين دول الخليج وتركيا ودول أوروبا والعكس، مضيفاً أن بعض الدول حاولت إيجاد بدائل لهذه الطرق.
ورأى علوان في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، أن استئناف حركة القوافل التجارية على الطرق الدولية شمالي سوريا ومرور المدنيين عليها، قد يكون جزءاً من عملية التعافي المبكر، ما يعني أن افتتاح الطرق أو المعابر ليس مصلحة محصورة في محور أستانا (النظام والمعارضة وتركيا وروسيا)، متوقعاً أن يكون الأمر مقبولاً على نطاق دولي، مع حرص الولايات المتحدة والغرب ألا يكون هناك تجاوز للعقوبات على النظام، خاصة أن مبدأ فتح الطرق التجارية ما بين مختلف مناطق السيطرة لدخول البضائع وتسهيل حركة المدنيين، هو موضوع أساسي ضمن برنامج التعافي المبكر الذي تبنته الأمم المتحدة.
وأشار الباحث إلى عدد من المحاذير والتخوفات، ومنها اقتران افتتاح المعابر والطرق بالتطبيع مع النظام السوري، وتخفيف الضغط عنه على المستويين السياسي والاقتصادي، فضلاً عن المخاوف الأمنية في ظل تشتت فصائل المعارضة.
وتوقع علوان أن تُفتح الطرق لاحقاً، مستدركاً بالقول: "لكن ذلك مرتبط بأن تلمس تركيا إيجابية فيما تعهدت به روسيا من التعاون في ملف مكافحة الإرهاب وإبعاد المجموعات الإنفصالية".
دوافع التنافس على الطرق الرئيسية
أورد مركز "جسور" في دراسة سابقة عدة دوافع وراء سعي الأطراف للسيطرة على الطرق في سوريا، منها:
عسكرياً: تكتسب الشبكة الطرقية في سوريا أهمية عسكرية بالغة بالنسبة لمختلف أطراف النزاع، نظراً لتأمين طرق الإمداد والنقل العسكري بين مناطق السيطرة وعبر الحدود.
سياسياً: فرض السيادة، وهذه الأخيرة أي السيادة تشمل شبكات الطرق المركزية إضافة إلى مراكز المحافظات والمعابر الحدودية وغيرها، والتي من شأن السيطرة عليها فرض سياسة أمر واقع أمام بقية القوى، كما تسعى أطراف النزاع في مسار المفاوضات لتعزيز مكاسبها، والتي ترتبط بنسبة الاستحواذ في خارطة النفوذ بما في ذلك مدى السيطرة على شبكات الطرق المركزية.
اقتصادياً: ترتبط أهداف أطراف النزاع بالسيطرة على الشبكة الطرقية على المستوى الاقتصادي بملف حركة التجارة والنقل الداخلية والخارجية والذي كان أحد البنود الرئيسية في مذكرة سوتشي (2018) الموقعة بين تركيا وروسيا، وأصبح أحد القضايا الخلافية بين الطرفين لاحقاً، وتتنافس القوى المحلية والدولية للسيطرة على خطوط الإمداد التي تصل بين مواقع إنتاج الحبوب والقطن ومشتقات النفط وبين مواقع التصنيع والاستهلاك والتصدير.
إنسانياً: إنّ سيطرة أطراف النزاع على الشبكة الطرقية لا سيما المركزية في سوريا، يحمل أهدافاً مرتبطة بالمساعدات الإنسانية عبر الحدود، على سبيل المثال، يسعى النظام السوري لفرض سيطرته على كامل الشبكة الطرقية لا سيما الرئيسية والدولية منها، من أجل إلغاء الحاجة إلى العمليات الإنسانية عبر الحدود.