يأتي القرار الأخير برفع أسعار الكهرباء المنزلية من ضمن توجهات حكومة النظام السوري لدعم اقتصادها المتهالك وتمويل خزائنها من جيب المواطن، وذلك من خلال رفع الأسعار من جهة، ورفع الدعم مقابل تدني الخدمات وانقطاعها من جهةٍ أخرى.
وقد اعتاد السوريون في مناطق سيطرة النظام على أن كل زيادة على الرواتب والأجور، لا بد من أن يسبقها أو يتبعها زيادة على الأسعار حتى إن كان ذلك برفع أسعار البصل والبطاطا.
مضاعفة أسعار الكهرباء بنسبة 600%
أصدرت حكومة النظام، نهاية كانون الثاني الفائت، قراراً "من دون إعلان" برفع سعر الكيلوواط الساعي من الكهرباء المستجرة لأغراض منزلية، وفق 5 شرائح، وفي تفاصيل القرار تراوحت نسبة الرفع بين 400% للشريحة الأولى، 316% لللثانية، 575% للثالثة، 200% للرابعة والخامسة، عن كل دورة.
وتعليقاً على تضاعف أسعار الكهرباء "المفاجئ"، يقول أحد أهالي العاصمة دمشق (م. الغزاوي) لـ موقع تلفزيون سوريا: "لم نكن نتوقع أن يصل رفع الأسعار إلى الكهرباء مجدّداً، ليس لأن ذلك مستبعداً عن الحكومة بل لأننا لا نرى الكهرباء أصلاً".
"فواتير خيالية لولا رحمة التقنين"
يبدو أنّ التقنين المتواصل لساعات قد تتجاوز الـ20 يومياً منقذاً للسوريين، بعد قرار رفع الأسعار الأخير، وتتشابه تعليقات السوريين على ذلك بين متهكّم ومستاء، لأنّه وبحسبة بسيطة لتكلفة استهلاك الكهرباء من دون تقنين، كفيلة بإدخال السوريين في متاهة "الديون" فقط لتسديد قيمة الفاتورة عن كل دورة.
في حديثه لـ موقع تلفزيون سوريا، يخبرنا مهندس الكهرباء (محمد.ع) أن انعدام التقنين سيرفع استهلاك المنازل بالكيلوواط الساعي بنسبة 30% على الأقل، وهو ما سيضاعف بالضرورة قيمة فواتير الكهرباء.
ويقول: "إذا فرضنا أن استهلاك المنازل في كل دورة (مدتها شهران) وفي الحالات الجيدة من وصل الكهرباء وتشغيل الأجهزة المستمر، يتراوح في الوقت الحالي بين 600 و1300 كليوواط، فقد يصل الاستهلاك في حال انعدم التقنين، إلى 1800-3000 كيلوواط للدورة الواحدة، ما يعني أن المنزل الذي يستهلك 1800 كيلوواط بالحد الأدنى ستصل فاتورته إلى 263 ألف ليرة سورية، وهو ما يعادل تقريباً ثلثي راتب الموظف (الحكومي) من الفئة الأولى، عدا عن هامش الضريبة المفروضة على الفاتورة".
مناطق كاملة خارج شبكة الكهرباء
في الوقت الذي تُبادر فيه حكومة النظام إلى رفع أسعار الكهرباء، تظهر مناطق كاملة ضمن دمشق وريفها خارج خدمة الكهرباء، بسبب عدم إصلاح التمديدات الكهربائية منذ سنوات طويلة.
ورغم ادّعاء النظام السماح للأهالي بالعودة إلى تلك المناطق التي استعاد السيطرة عليها منذ سنوات، إلا أنّ الواقع الخدمي فيها ما يزال معدوماً كما كان حين تعرّضها للقصف والدمار بمدافعه وطائراته، خلال سنوات الحرب.
ولم تنسَ قوات النظام وميليشياتها بدءاً من "الفرقة الرابعة" وليس انتهاء بعناصر المخابرات وميليشيا "الدفاع الوطني"، أن "تعفّش" (تسرق) المنطقة من التمديدات الكهربائية الحاوية على النحاس والألمنيوم وكل ما هو قابل للبيع، فلم يتركوا للأهالي حتى العدّادات والكابلات الكهربائية الواصلة إلى منازلهم.
وفي مناطق مثل: بيت سحم، يلدا، ببيلا، المليحة، القزاز، شارع فلسطين، اليرموك، التضامن، دف الشوك، سقبا، عين ترما، جوبر... وغيرها، اضطر الأهالي إلى مبادرات فيما بينهم من أجل تأمين الكهرباء مثل تركيب مولدات "الأمبيرات" الضخمة التي تؤمن الكهرباء إلى عدد من المنازل مقابل اشتراك أسبوعي أو شهري، كما بادر بعضهم إلى حلول شخصية مثل شراء مولدة صغيرة كافية لبيته أو تركيب الطاقة الشمسية أو حتى الاعتماد على البطاريات واللدّات للشحن والإنارة.
وفي حديثه لـ موقع تلفزيون سوريا، يقول "أبو قاسم"، إنّه اضطر إلى تمديد الكهرباء "خارجياً" لمنزله عن طريق تعليق كابلات خارجية على أحد الخطوط الأساسية الممتدة من علبة الكهرباء، موضحاً: "طلبت من فني الكهرباء أن يمدد لي خط خارجي لتأمين الكهرباء لمنزلي، وبعد حساب عدد المترات بين الخط الأساسي ومنزلي تبيّن أنها 128 متراً تقريباً، ووصل سعر متر الكابلات الكهربائية الجيدة إلى 3200 ليرة سورية، أي أنّ تمديد الكهرباء إلى منزلي كلّفني 410 آلاف ليرة سورية عدا عن أجرة الكهربجي".
وتظهر التمديدات الخارجية للأكبال مكشوفة في الشوارع والحارات ومعلقة على شرفات المنازل، دون وسائل حماية أو تغطية؛ الأمر الذي قد يعرضها للقطع والاهتلاك أو حتى الاحتراق في أوقات الأمطار، وبعرض الأهالي إلى الأضرار المباشرة.
أما الأمر الذي لم يكن بحسبان "أبو قاسم" وغيره من فكرة التمديدات الخارجية، هو سرقة هذه الكابلات التي دفع أصحابها تكلفتها، حيث يتابع "أبو قاسم" حديثه قائلاً: "بعد أقل من شهر لتمديد الكهرباء إلى منزلي، استيقظت لأجدها مقطوعة كاملةً من مكان تمديدها على الخط الأساسي ومسروقة.. يسترزقون من جيوبنا".
مفتشو الكهرباء و"الرزقة" الجديدة
ترسل وزارة الكهرباء التابعة للنظام في مناطق جنوبي دمشق، لجان تفتيش على ساعات الكهرباء (العدّادات)، حيث فرضت على الأهالي العائدين إلى بيوتهم، التقدّم بمعاملة "عداد كهربائي مفقود"، بعد أن سرقته الميليشيات.
تصل تكلفة المعاملة إلى 290 ألف ليرة سورية، وتحتاج إلى ورقة تثبت لصاحبها ملكية المنزل الذي يسكنه، وقد تحجّجت "الوزارة" بأن عدم تركيب عدادات حتى الآن جاء بسبب عدم توفرها والحاجة إلى استيرادها.
ويمتنع بعض الأهالي عن إجراء المعاملة بسبب تكلفتها العالية، إلى جانب أنّ بعض الساكنين لا يملكون ورقة ملكية؛ فعدد كبير من البيوت في المناطق المذكورة "تمّ الاستيلاء عليها بعد تهجير أصحابها وسفرهم أو حتى تأجيرها لآخرين من قبل عناصر الميليشيات المتنفذين في هذه المناطق".
وعن عقوبة عدم إجراء المعاملة، أوضح أحد الموظفين في مؤسسة كهرباء الريف (فضّل عدم ذكر اسمه) لـ موقع تلفزيون سوريا، أنّ مَن لا يبرز معاملة العداد المفقود للجنة الكشف والتفتيش، تتم إحالته إلى القضاء بتهمة "استجرار الكهرباء بطريقة غير شرعية"، ما يسميه السوريون "سرقة الكهرباء"، الأمر الذي يدفع البعض ممن لم يجروا المعاملة إلى دفع الرشاوى لهذه اللجان مقابل غض النظر.
يقول: "يدفع الشخص الذي لا يملك المعاملة للجنة الكشف ما قيمته مئة ألف ليرة سورية -على الأقل- كرشوة مقابل عدم محاسبته وإعطائه مهلة من أجل المعاملة، أما الذين لا يملكون ورقة ملكية للمنزل فلن يستطيعوا إجراء المعاملة وبالتالي سيدفعون للجنة في كل جولة لها".
تمهيد لرفع الدعم وتلاعب بالمسميات
في حديثه لإذاعة "هنا دمشق"، بتاريخ 31 كانون الثاني 2024، أوضح وزير الكهرباء في حكومة النظام غسان الزامل، أنّ "الكهرباء الحكومية ستبقى مدعومة للمنازل (إلى يوم الدين)"، طبقاً لقوله، الذي ما لبث أن تراجع عنه في ختام اللقاء، فقد أدرك بأنّه بالغ كثيراً ليستدرك قائلاً: "سيبقى قطاع الكهرباء للمنزلي مدعوماً حتى السنوات الكثيرة.. إلى أجل ليس قصيرا".
ومهّد الزامل إلى مخطط وزارة الكهرباء برفع الدعم عن الكهرباء "الحكومية" بالنسبة لفئات معينة من السوريين في الوقت القريب من العام الحالي؛ كما سبق ورُفع الدعم عن الخبز والمحروقات في السنوات السابقة، وهو ما سماه الزامل مُواربةً بـ"إعادة هيلكة دعم الكهرباء"، وهو ما أكّده لاحقاً معاونه أدهم البلان، ضمن ما وصفه بـ"(النهج الجديد) للعدل وإعادة توزيع الدعم".
في الوقت الذي يتسابق فيه مسؤولون حكومة النظام إلى إطلاق "التصريحات النارية" حول الطريقة الأمثل لإثقال كاهل السوريين وإبقائهم في الأزمات والغلاء المعيشي، تزداد ساعات التقنين الكهربائي التي وصلت إلى نحو 20 ساعة في اليوم أو لأيام متتالية، بحجة الأعطال نتيجة الأمطار واحتراق الكابلات وعدم تحمّل خزانات الكهرباء وانفجارها بين الحين والآخر.