ترك سوريو الثورة للنظام، في ما تركوا، عيد الشهداء الرسمي في 6 أيار. وأحد أسباب ذلك، فضلاً عن رغبتهم في هجر كل رموز دولة الأسد، أن شهداءهم ما زالوا طازجين لا يحتاجون إلى عيد. فهم أحياء في فيديو مجزرة حي التضامن التي هزّت الوجدان لمن استطاع إليه سبيلا، وفي عشرات آلاف الصور العتيقة التي أشهرَها أهل قلقون في وجه بضع مئات من الخارجين الكليلين من سجون النظام إثر العفو الأخير.
اللافت في هذين الحدثين المتعاقبين هو أنهما استطاعا اختراق الجدار بين ضفتي البلاد، فتمددا من محضنهما المعارض إلى جمهور الموالاة الذي تناقل فيديو المجزرة أو صورها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وشاهد تجمع أهالي المعتقلين والمفقودين تحت جسر الرئيس وسط العاصمة عبر وسائل الإعلام المحلية التي سُمِح لها بالتغطية لسبب ما.
لم يكن عبور الحدثين سهلاً بعد أن أصبح لكل ضفة من السوريتين أخبارها المختلفة عن الأخرى إلى حد بعيد، وانحسر التزامن. ولذلك فهما يصلحان لسبر التباين في القراءة والهوة في الموقف. فما يفترض جمهور الثورة أنه أدلة تفقأ العين لا مجال إلا أن تبعث الموالين على الخجل والمراجعة، يبدو، على المقلب الآخر، مسألة فيها نظر، قابلة لتبادل الحجج والردود ثم التملص. ويحيل هذا إلى درجة التباعد التي أزمنت وتكلست بين الفريقين اللذين أصبحا، بالفعل، طرفي حرب أهلية تنطلق من الجبهات لتشمل العقل والمحاكمة والرؤية وسياق الأدلة وتنظيم الأولويات وفق طلاقيّة النظر.
المؤيدون اللفظيون، البعيدون عن ساحة الفعل بنسبة أو بأخرى، كانوا أميل إلى تكذيب المقاطع المسرّبة والزعم أنها مفبركة
الموقف من مجزرة حي التضامن، على أطراف دمشق، بديهي لدى جمهور الثورة والعالم الغربي الغاردياني. فلا شيء أصرح في الجريمة من ارتكابها جماعياً، ولأسباب مزاجية، وخارج نطاق أي قانون، وبدم بارد. لكن الضفة الموالية للنظام تلقتها بطريقة تستحق الرصد. فالمؤيدون اللفظيون، البعيدون عن ساحة الفعل بنسبة أو بأخرى، كانوا أميل إلى تكذيب المقاطع المسرّبة والزعم أنها مفبركة. في حين سلّم بها ضمنياً من قاتلوا في صف النظام، أو القريبون من المقاتلين، ممن يشبهون مرتكبي المجزرة وربما مارسوا مثلها أو شهدوا حدوثه. لكن هؤلاء بادروا إلى التشويش على المجزرة بالتذكير بمجازر مضادة، في الساحل أو عدرا العمالية مثلاً، للقول بأن هذا من مقتضيات «الحرب»، وإن من يتحمل مسؤوليته هو من أطلقها مع بداية الاحتجاجات بعد أن كانت البلد مستقرة قبل آذار 2011. والحرب تدفع البشر إلى تجاوز طبيعتهم السوية باتجاه الغرائز، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن المنفذ الأبرز للمجزرة كان في حالة ردة فعل على فقد أخيه «الشهيد» في داريا. وهذا أمر يتفهمه مقاتلو النظام جيداً، فقد كتبوه مراراً على صواريخ وجّهت إلى المناطق المحررة انتقاماً لمقتل قريب أو ثأراً لصديق. ومن المألوف بينهم كذلك أن عدد الضحايا لا يبرّد الغليل، منذ شاعت لديهم الروح العدوانية المتغطرسة التي تعبّر عنها عبارة «بشسع نعل كليب» التي اشتهرت من مسلسل «الزير سالم» المحلي، لتفاضل بين قتيل ذي دم أزرق وبين هوامّ من قتلى الطرف الآخر هم أشبه بالذباب الذي لا يُجزئ قتله العديد مكان الفقيد العتيد!
الحادثة الثانية مركّبة من مرسوم العفو ومن الإجراءات المنفذة له.
وفي حين استبشر جمهور الثورة، أهل المعتقلين، بالمرسوم الذي بدا شاملاً، وهم الباحثون عن قشة في الأصل؛ أظهر جمهور النظام تململاً معتاداً من إخراج «الإرهابيين»، كما يفترضون بعقلية «لو ما عامل شي ما أخدوه»، وتداولوا عبارة «الرحمة للشهداء الأطهار وألف مبروك لقاتليهم». وبالكاد استطاع جمهور لصيق من المؤمنين الثابتين بـ«حكمة السيد الرئيس»، مدعوماً بهيبة الأخير وأجهزة أمنه، ضبط الأمور حتى لا تناله شخصياً تحت طائلة «طيبة القلب» التي اعتادت حاضنته اتهامه بها في مناسبات كهذه.
لا جسور بين السوريتين وسكانهما الأشداء. ولا اتفاق حتى على احترام دموع وآلام الأمهات والزوجات والأطفال الذين لا ذنب لهم في ما قد يكون فعله الرجال البالغون
أما المشاهد التي صاحبت الإفراجات المخيبة، من خروج بعض السجناء فاقدين لعقولهم أو بأجساد شبحية، ومن رميهم إلى الشارع دون قوائم معلنة في حين كان أهاليهم يلاحقون كلّ باص يُفترَض أن يحملهم، ويبيتون الليل أمام سجن صيدنايا أو تحت الجسر، والتي أثارت غضب جمهور الثورة إذ رأى فيها إذلالاً إضافياً؛ فلم تحرّك في عموم الجمهور الموالي إلا الشماتة واستذكار مشاهد «مشابهة» من خيبة عائلات مفقودي النظام حين خرجت الباصات التي من المفترض أن تحملهم من دوما والغوطة، وكان عددها قليلاً بالقياس إلى المنتظر والشائعات التي سبقتها. فعاد كثير من الأهالي خائبين، كما سجلت صور ذائعة جرت استعادتها الآن.
لا جسور بين السوريتين وسكانهما الأشداء. ولا اتفاق حتى على احترام دموع وآلام الأمهات والزوجات والأطفال الذين لا ذنب لهم في ما قد يكون فعله الرجال البالغون. لا حل في الأفق. «لا تصالح! ولو قيل رأس برأس، أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟ أقلب الغريب كقلب أخيك؟!» كما تردد القصيدة الشهيرة لأمل دنقل، المبنيّة على لازمة «لا تصالح» التي قيل إن كليباً نفسه كتبها بدمه لأخيه الزير قبل أن يفقد الحياة، في حرب البسوس أيضاً.
وحده يوسف العظمة، الواقف تمثالاً في ساحة المحافظة بدمشق، والتي تُعرف باسمه أحياناً؛ يحظى بلقب الشهيد على الضفتين دون خلاف. لكن أكثر من قرن مضى على سقوط وزير الدفاع الجسور للدولة الوليدة التي تتصارع أحشاؤها اليوم على تصنيف الشهيد في عيده الوطني.