أدّت الثورة السورية إلى طفرة في ظاهرة المواطنين الصحفيين الذين اضطروا إلى نقل أخبار مناطقهم في ظل التزييف الذي مارسه الإعلام الحكومي ومنع وكالات الأنباء المحايدة من العمل.
ومع مرور السنوات راكم هؤلاء خبرات، وخضعوا لدورات كان بعضها مفيداً، وربما انتسبوا إلى كليات متخصصة تلقوا فيها مناهج منظمة ولو عن بعد.
ولما تلاحقت سنوات عجاف أعاد فيها النظام السيطرة على مناطق ثائرة متعددة، كان الإعلاميون في طليعة المهجّرين إلى الشمال لأنهم على رأس قوائم المطلوبين، فانضموا إلى أعداد كبيرة أخرى من نظرائهم في إدلب وحلب، لتشهد المنطقة وفرة في الإعلاميين لم يخفّف منها كثيراً لجوء بعضهم إلى تركيا المجاورة وهجرة آخرين إلى أوروبا.
وقد ترافق ذلك مع الصعود المطّرد لنفوذ "أبي محمد الجولاني"، قائد "هيئة تحرير الشام"، الذي كان قد انتسب في شبابه إلى اختصاص الإعلام بقسم التعليم المفتوح في جامعة دمشق، وعُرفت عنه عنايته بالإعلام؛ سواء لتعزيز صورته أو لتزيين حكمه لإدلب داخلياً وخارجياً، فكان انتظام هذا العدد الكبير من الإعلاميين ضمن الإطار مهمة استغرقت سنوات واستُخدمت فيها أساليب متعددة لم تخلُ من التضييق والسجن لحمل أصحاب الرؤوس الحامية على مغادرة المنطقة نهائياً، ولو إلى شمالي حلب، أو الصمت.
قالت الحجج المراوغة إنه من غير المعقول أن يبقى الإعلاميون فوضى لا سراة لهم في عهد بناء "المؤسسات"، ومن غير المقبول أن يستغل أعداء الثورة والمتربصون بمناطقها الحرية الإعلامية ليدسّوا عملاء يتسللون إلى الجبهات ويكتبون التقارير تحت ستار العمل الصحافي من دون أن تُعرف أسماؤهم وتبعية منظماتهم
وكالعادة دخلت الشمولية تحت شعار "النظام والمراقبة" من بوابة الأمن، إذ قالت الحجج المراوغة إنه من غير المعقول أن يبقى الإعلاميون فوضى لا سراة لهم في عهد بناء "المؤسسات"، ومن غير المقبول أن يستغل أعداء الثورة والمتربصون بمناطقها الحرية الإعلامية ليدسّوا عملاء يتسللون إلى الجبهات ويكتبون التقارير تحت ستار العمل الصحافي من دون أن تُعرف أسماؤهم وتبعية منظماتهم.
ولضبط ذلك، ما على الإعلاميين إلا أن يحصلوا على ترخيص بسيط من وزارة الإعلام في "حكومة الإنقاذ السورية"، التي تسيطر عليها "الهيئة" وتتعاون مع "جهاز الأمن العام"، وإذا كانت التراخيص مؤقتة فإنما لتجديدها تلقائياً لمن يراعي الخطوط الحمراء ولابتزاز المشاغبين بسحبها أو الامتناع عن تمديدها وتركهم عرضة للعمل خارج "القانون".
وبعد سنوات من هندسة الوسط الإعلامي وتطفيش من لا يلتزم، استقر الإعلاميون في إدلب في طبقات يمكن رصدها كما يلي:
- إعلاميو "هيئة تحرير الشام": من المرتبطين بها عضوياً بوظائف معلنة أو من المستقلين ظاهرياً لكن نشاطهم ينحصر في تسويق مشروعها ومدح قيادتها والرد على خصومها على طول الخط، وهم على العموم من قليلي الخبرة في الإعلام قريبي الصلة بمصادر المعلومات.
ولتقوية هذا النوع من الكوادر الملتزمة افتتحت جامعة إدلب "كلية العلوم السياسية والإعلام"، التي لم تدمج هذين الاختصاصين بالصدفة، ويحتاج الانتساب إليها إلى اجتياز امتحان شفوي لا يُنظر إليه بحيادية.
وتضم ثلاثة معاهد إعلامية مهنية بفروع تقديم البرامج الإذاعية والتلفزيونية، والإخراج الإذاعي والتلفزيوني، والتصميم والتسويق، فضلاً عن توزع طلابها بين اختصاصَي العلوم السياسية والإعلام بدءاً من السنة الثالثة.
- الإعلاميون المشاهير: وهم من الذين عملوا بنشاط لسنوات طويلة أتاحت لهم أن يصبحوا "مؤثرين" على عدد كبير من المتابعين على وسائل التواصل، سواء أكانوا مستقلين أم ارتبطوا بمؤسسات إعلامية معروفة خارج البلد.
وتراعي "الهيئة" هؤلاء بتسهيل عملهم وإظهار التقدير لهم من دون أن تطمح إلى تسخيرهم في الدعاية المباشرة لها، مكتفية بسكوتهم عن تناول بعض المسائل الحساسة كالتعذيب في السجون، وانشغالهم بتغطية النشاطات البهيجة التي تعطي صورة إيجابية عن المنطقة وناسها وعن إدارتها بالتالي، أو تسليط الضوء على قضايا المعاناة الإنسانية.
- عموم الجسم الإعلامي: يشمل أكثرية الصحافيين المستقلين أو المرتبطين بمؤسسات محلية أو صغيرة إلى متوسطة في الخارج، ولا يُطلب من هؤلاء سوى أداء عملهم بروتينية ليس لها هدف سياسي معارض أو موال.
- الإعلام الرديف: يلتزم الإعلاميون الرسميون أو شبه الرسميين بإظهار درجة مقبولة من احترام أخلاقيات المهنة وأصول العمل الصحافي والابتعاد عن التشهير.
غير أن صدر "الهيئة" يضيق ببعض خصومها العنيدين، ولا سيما عندما تهدّد مطالبهم الجذرية شرعيتها أو قيادتها، كما هو حال الاحتجاجات المستمرة منذ أشهر والتي تطالب بالإطاحة بالجولاني وبمحاسبة جهاز "الأمن العام".
أتاحت هذه الخارطة لقيادة "الهيئة" أن تستخدم الإعلام كأحد الأسلحة في سبيل البقاء، سواء حين يكون ذراعاً ملتزماً بروايتها أو يغض النظر عن انتهاكاتها..
وبعد أن تُستنفد وسائل إغراء المخالف بمنصب أو بهدية مالية، وتهديده بفضيحة شخصية مخفية أو مختلقة؛ يجري تشويه سمعته عبر جيش إلكتروني من الإعلام الرديف الذي يستخدم حسابات وهمية كثيرة للنشر والتعليق والتفاعل وتكوين رأي عام يبدو جارفاً ولا يلبث أن يجتذب أعداداً وافرة من العناصر الفعليين من قواعد "الهيئة"، ممن يسارعون إلى المشاركة النشطة في حملة افتراء بذيئة تدفع إلى التساؤل عن تأثير الدورات الشرعية التي خضعوا لها عند انتسابهم إلى جماعة ما زالت تعدّ نفسها إسلامية رغم تحولاتها المتراكمة.
أتاحت هذه الخارطة -التقريبية من دون شك- لقيادة "الهيئة"، أن تستخدم الإعلام كأحد الأسلحة في سبيل البقاء، سواء حين يكون ذراعاً ملتزماً بروايتها أو يغض النظر عن انتهاكاتها أو يهدف إلى تحطيم خصومها.
لكن أكثر الإعلاميين في المناطق "المحرّرة" هم من الثائرين الذين لن يطيقوا موقع الساكت عن الحق إلى ما لا نهاية، فضلاً عن أن يسهموا في نهش كرامة أشخاص يطالبون بالعدالة والشفافية والمساءلة.