قليل من السوريين من يتذكر الانقلاب الأبيض الذي قفز فيه حافظ الأسد إلى قمة هرم السلطة في مثل هذه الأيام قبل أربعة وخمسين عاماً، وقليل منهم من يعرف ما جرى وقتئذ أصلاً. فقد اختلطت، لدى أجيال من السكان، المناسبات «الوطنية» التي لقنتهم إياها المدرسة في اجتماعها الصباحي وفي مقرراتها المختصة الموجهة. وصار صعباً على أكثرهم أن يميز بين عيد الجلاء (1946) وبين ذكرى استيلاء حزب البعث على الحكم في «ثورة» الثامن من آذار (1963) وبين تفرّد الأسد به (1970). لولا بصيص معرفة يلوح من الصفات؛ إذ تلحق بتعبير الحركة التصحيحية كلمة «المباركة»، وبحركة آذار لفظة «المجيدة»، في حين ظل اليوم الوطني عارياً من اللقب.
وبين الأمجاد والبركات سبع سنوات كانت تزداد عجفاً حتى قرر وزير الدفاع وقتئذ، حافظ الأسد، الانقضاض على رفاقه في قيادة الحزب وإيداعهم السجن لمدد طويلة، في إشارة إلى ما سيفعله بالبلاد كلها حتى وفاته وتسليم الدولة لابنه الذي حكمها ما يقرب من ربع قرن حتى الآن، على غفلة من التاريخ.
لا يفرّق كثيرون بين دكتاتورية الأسد وتسلط الذين قبله. بما أن طاقم الحكم آنذاك، الذي اشتهر باسم أقوى رجاله صلاح جديد، كان قد نشر القمع وقوّى أجهزة المخابرات وشرّع أبواب السجن السياسي. غير أن ما يسم تلك المرحلة هو اعتمادها دكتاتورية الحزب المتمثل بقيادته القطرية التي تشاركت الحكم. في حين أن مشروع الأسد حمل، منذ البداية، مؤشرات على الحكم الفردي الذي تعزز عبر السنوات وفق خطوات حثيثة متراكمة.
بالطبع كان للأسد مجموعته التي نفذت الانقلاب ودعمته، من الضباط والمسؤولين المدنيين في الحزب والحكومة، غير أنه كان حساساً للغاية تجاه أن يعدّ هؤلاء أنفسهم شركاء. وإن ظل مضطراً إلى ابتلاع معالم شعورهم هذا حتى مكّن حكمه الفردي في أوائل الثمانينيات، بعدما أزاح كل من راوده شعور الشراكة في صنع النظام واستبدل بهم أتباعاً يدينون بكل شيء لفضله المباشر. مستثنياً من الرعيل الأول من استشعروا اتجاه الريح فنزلوا إلى رتبة الأتباع طواعية لضمان بقائهم في سدة السلطة واستمرار حصولهم على مكاسبها.
تزامن التحول من الدكتاتورية الجماعية إلى طغيان الفرد مع تراجع مطّرد في مكانة الحزب. فطوال عقد السبعينيات تعايش الأسد مع البعث، واستخدمه، حتى أدى آخر مهامه الجدية في سنوات الصدام الدامي مع الإسلاميين
وقد تزامن التحول من الدكتاتورية الجماعية إلى طغيان الفرد مع تراجع مطّرد في مكانة الحزب. فطوال عقد السبعينيات تعايش الأسد مع البعث، واستخدمه، حتى أدى آخر مهامه الجدية في سنوات الصدام الدامي مع الإسلاميين، ثم أحال أمينه العام إلى التقاعد الذي عبّر عنه بوضوح الوجهان البيروقراطيان الكئيبان لعبد الله الأحمر؛ مساعد الأسد في القيادة القومية، وزهير مشارقة؛ مساعده في القطرية. حتى أصبحت وثيقة الانتساب إلى الحزب، الذي تضخم عديده فصار مليونياً، أهم بقليل فقط من التبرع بالدم أو غير محكوم، مما تطلبه الأوراق الرسمية في الوظائف الحكومية والبعثات التعليمية وسواها.
والحال أن تهميش البعث لم يأت فقط من ضيق الأسد بالشركاء. إذ إن الحزب كان قد وصل، منذ أواسط الستينيات، إلى طبعة يسارية تقابل شقيقتها اليمينية اللدود في العراق. وعلى الرغم من أن الأسد كان شريكاً في هذه الصيغة إلا أن انقلابه «الحركة التصحيحية» كان عليها بالذات. راغباً في التحرر من صدامها مع المجتمع، وخاصة المديني التجاري المحافظ منها، والانفتاح على المحيط العربي، «الرجعي» وفق مصطلحات تلك المرحلة. غير أن تركيز الأسد على أولوية وحتمية البقاء في السلطة والإبحار بها في خضم التحولات الداخلية والخارجية قادته إلى «براغماتية» أوسع من أن تحدّها مبادئ حزب أيديولوجي في نهاية المطاف. وكما اقتُرِح أن يكون رئيس البلاد إلى الأبد، متجاوزاً مدتي الحكم اللتين كانتا مقررتين في الدستور من دون تجديد؛ شاع كذلك أنه «قائد مسيرة» البعث، من دون انتخابات متكررة، ولا حتى مبادئ.
وكما فعل في حزبه صنع الأسد في أحزاب على صورته. فبعد أن كانت «الجبهة الوطنية التقدمية»، التي أنشأها في أوائل عهده، مشروع مشاركة ضيقة في الحكم وإن بين «التقدميين» فقط؛ تحولت إلى ناد لسياسيين عجائز يحبون الكنزات الصوفية يورثون كراسيهم لزوجاتهم وأبنائهم، ويوزعون حصص أحزابهم من مقاعد «مجلس الشعب» والإدارات المحلية والنقابات على قاعدة لا تكاد تذكر من الأتباع مقابل الولاء لنسخة الأمين العام.
يروي أحد رفاق الأسد القدامى أنه اجتمع به بعد الحركة، وأنه لاحظ أن الرئيس الجديد لم يكن يرى الأمور بنظرة رجل دولة بل رجل أمن. كان الأسد منتشياً بالتأييد الشعبي الذي قوبل به نتيجة لتذمر الناس ممن حكموا قبله. وقال لصاحبه إن حكم هذه البلاد سهل جداً؛ فمعظم أهلها يكتفون بتلبية احتياجاتهم الاقتصادية وهو ما يظن أنه قادر عليه، وبعد ذلك يبقى مئة أو مئتين بالكثير، وفق تقديره وتعبيره، ممن يشتغلون بالسياسة جدياً، «وسجن المزة أصلاً مبني من أجل هؤلاء».
غير أن حسابات صندوق القصر لم تتطابق مع سوق الدكتاتورية. فاكتظ سجن المزة وفتح الأسد أبواب سجن تدمر ثم بنى سجن صيدنايا. أما ابنه فحشا فروع المخابرات بالمعتقلين ثم أحالهم إلى المقابر. وبدل المئة أو المئتين يراوح عدد المفقودين في عهد بشار بين المئة والمئتي ألف، فضلاً عن مئات ألوفٍ ممن قصفهم لأنهم أرادوا أكثر من احتياجاتهم المعيشية وقالوا «الجوع ولا الركوع»!