سوريا في زمن العاصفة الإقليمية

2024.11.04 | 06:51 دمشق

بشار
+A
حجم الخط
-A

بات واضحاً أن نظام بشار الأسد اختار وضعية السُبات في حين تشتعل الحرائق من حوله؛ في غزة ولبنان واليمن والعراق، ويتصاعد التراشق العسكري حتى وصل إلى قلب إيران، رأس «محور المقاومة» الذي يضم سوريا الأسد.

قيل كثير في تفسير هذا الموقف واستشراف مآلاته. غير أن قسطاً كبيراً من التحليل لم يستند إلى معرفة بآليات اشتغال هذا المحور، وجللته غمامة سوء الفهم الناجم عن العداوة، وهي مدخل مضلل لقراءة الواقع.

وربما يصح أن نبدأ الحديث بالتذكير بموقع سوريا الأسد مما عرف بمعسكر الممانعة. فمهما قيل عن ضبط حافظ الأسد للنفوذ الإيراني في بلاده ونطاق قواته، يبقى أنه رئيس الدولة العربية التي سارعت إلى الاعتراف بالنظام الإسلامي الإيراني الناشئ بعد ثورة الخميني في عام 1979، وبناء تحالف استراتيجي معه مرّ بزاوية مفصلية هي الحرب العراقية الإيرانية، عندما كانت سوريا هي البلد العربي الوحيد الذي يساند طهران في معركتها مع الشقيق القومي الذي كان يسوّق حربه بوصفها دفاعاً عن بوابة الأمة ضد الأطماع الفارسية.

ومن المعروف أن بشار الأسد لم يحافظ على هذه العلاقة كما ورثها عن والده فقط بل تساهل معها نسبياً، سواء في الداخل لجهة تصاعد النشاطات الإيرانية أو في لبنان حيث أصبح «حزب الله» اللاعب الرئيسي، خاصة بعد انسحاب القوات العسكرية السورية من هناك في عام 2005 وتوليه المهمات الأمنية والسياسية التي كانت تديرها المخابرات السورية.

علاقة سوريا الأسدين بالمحور علاقة عضوية، لمن نسي هذا الأمر. لم تبدأ بتدخل الإيرانيين وميليشياتهم الطائفية متعددة الجنسيات لقمع الثورة السورية. بل كان هذا التدخل الحاسم نتيجة لتلك العلاقة، وحفاظاً من طهران على واحد من أبرز حلفائها في المعسكر.

قبل محور المقاومة كانت سوريا عضواً في «جبهة الصمود والتصدي» التي نشأت رداً على بدء مسار معاهدات السلام مع إسرائيل على يد الرئيس المصري، وقتئذ، أنور السادات، ثم تبعته دول عربية عدة. وبقي الأسد الأب هو «الرجل الذي لم يوقّع» على حد تعبير عنوان برنامج وثائقي شهير بثته قناة «الميادين» المدعومة إيرانياً. أي إن النظام السوري، متناقص الحلفاء باطراد في موقفه من القضية الفلسطينية، وجد في إيران الخمينية ظهيراً قوياً بديلاً. فضلاً عن الدور الرمزي الذي لعبه تحدر الأسد، ونسبة وازنة من أركان حكمه، من الطائفة العلوية التي تمتّ بصلة قربى -ليست حسنة بالمناسبة- مع الشيعة الجعفرية المعتمدة في الدستور الإيراني.

في دفتر الدكان تحتفظ طهران بتقييم واقعي لحلفائها. وهي لم تنس أن حافظ الأسد كان يتربع على رأس حكم بعثي ينطلق، في أول المطاف وتقريباً آخره، من ذات الأفكار التي يؤمن بها عدوها العراقي اللدود صدام حسين. كما لم تغفل عن النزوع الاستقلالي العنيد لدى الأسد.

وفي حالة التعامل مع ابنه بشار، التي هندسها أساساً حسن نصر الله الأمين العام السابق لحزب الله، انتبه المحور إلى بقايا الاستقلالية الجكرة التي وسمت الوريث وحكمه فتمت مراعاتها ولو شكلياً. كما لاحظ الإيرانيون وحلفاؤهم، لا سيما بعد تدخلهم في سوريا واحتكاكهم الدائم مع النظام بمستوياته المختلفة، قدراً كبيراً من الانتهازية ونقص الكفاءة التي وسمت مقاتلي الجيش ووصلت إلى درجات عليا من الضباط وحتى إلى الأسد الذي فضّل أن يدفع فاتورة التدخل الإيراني من ثروة البلاد الطبيعية على أن يدفع جزءاً من سلطته الفردية، كلما أمكنه ذلك.

أمام إيران حليف رديء إذاً، ولكن لا بديل عنه فعلياً. فسوريا هي الدولة الوحيدة في المحور، بالإضافة إلى إيران بالطبع. وبذلك فهي تملك صوتاً سياسياً في المحافل العربية والإسلامية والدولية، وأرضاً شرعية تمد عليها سيادتها وتتيح نقل الأسلحة إلى لبنان، بل صناعتها وتطويرها في مؤسسات مختصة كمركز البحوث العلمية ومعامل الدفاع.

تتقن إيران التعامل مع الميليشيات أكثر. ولذلك عملت على تأسيسها وتقويتها في البلاد التي تدخلت فيها، وحتى في أرضها بالذات إذ تفضّل الحرس الثوري على الجيش. وفي سوريا مالت إلى دعم «قوات الدفاع الوطني» الرديفة، وإلى تحريك الفصائل التي جلبتها، كالحشد الشعبي وزينبيون وفاطميون، بصفة ميليشيات تؤازر «الجيش العربي السوري» من دون أن تدخل معه في علاقة عضوية كما فعل، بالمقابل، الروس الذين جاءوا بصيغة نظامية.

لكن طهران تعلم أنها، عند التعامل مع سوريا الأسد الكاملة، عليها أن تراعي أنها «دولة» تواجه استحقاقات ولا يمكنها أن تتصرف بالحرية التي تملكها الميليشيات، كما أنها «نظام» فعل كل ما في وسعه من جرائم للبقاء، وليس مستعداً للمخاطرة بوجوده بالطريقة التي تحرّك المقاتلين الفدائيين الذين يرتبطون بالمرشد، الولي الفقيه، ببيعة تتضمن الطاعة الدينية قبل السياسية.

ولذلك بادرت الميليشيات إلى سد الفراغ الذي خلّفه نأي النظام السوري بنفسه عن «وحدة الساحات»؛ مرة بقيام فصائل عراقية، توجد على الأرض السورية، بقصف إسرائيل باسم «المقاومة الإسلامية في العراق»، ومرة بتوجيه حزب الله، اللبناني، قذائفه على الجولان السوري المحتل، بعدما تفهمت إيران مخاوف الأسد الذي تلقى تحذيرات إسرائيلية حازمة.

بدورها تعي تل أبيب حرج موقف ساكن القصر الجمهوري في دمشق، وتعرف أن الطلب منه إخراج القوات الإيرانية والحليفة لها من سوريا أمر غير واقعي ويهدد نظامه. ولذلك تكتفي باستباحة أجواء البلاد لتقصف مخازن الأسلحة المعادية، وطرق نقلها، والقيادات الأجنبية المقيمة في عاصمته وجوارها.

ستبقى هذه المعادلة الحذرة صالحة لحماية نظام الأسد طالما ظل الصراع في المنطقة عند العتبة التي وصل إليها، لكن هذا غير مرجح مع تنامي الشهية الإسرائيلية لزلزلة النظام الإيراني وإفقاده عناصر قوته وهيبته أمام مواطنيه وأتباعه. فعندما سيشعر حكم الملالي بخطر وجودي لن تبقى عنده مساحة لمراعاة الحلفاء المتلاعبين، وسيزجهم في معركة بقائه شاءوا أم أبوا، ومهما كانت النتائج.

كلمات مفتاحية