الكتاب: التدميرية تشكيلياً قراءات فلسفية في الفن السوري المعاصر
المؤلفان: نبراس شحيد وجيوم دفو.
إصدارات المعهد الفرنسي للشرق الأدنى،
بيروت، 2021.
التدميرية في الفن التشكيلي السوري المعاصر
في إطار يجمع بين النقد الفني والتنظير الفلسفي حول حضور مفهوم "التدميرية" في الفن التشكيلي السوري المعاصر، خصوصاً بعد العام 2011، يبتكر الباحثان (نبراس شحيد وجيوم دفو) في كتابهما (التدميرية تشكيلياً قراءات فلسفية في الفن السوري المعاصر)، يبتكران نصاً يجمع بين التأمل الفلسفي، والتنظير الفكري، والنقد الأدبي، والدراسات المقارنة بين أنواع فنية متعددة منها الأدب والتشكيل والسينما والمسرح. ومن الواضح أن المغامرة النقدية والرحلة الفلسفية اللتين يحملهما الكتاب يعالجان مفهوماً نادراً ما تمت الكتابة عنه في إطار الدراسات الفنية والفلسفية العربية وحتى العالمية. فالمهمة التي يطلع بها الباحثان لا تقتصر على استكشاف احتمالات مفهوم "التدميرية" في الفن السوري وحسب، بل الانطلاق من السؤال الطليعي الأساس: كيف يمكن قراءة التدميرية فيما هو إنتاجي صرف، أي الفن؟ كيف يمكن للإنتاج الفني أن يبدع أو يبتكر مفهوم "التدميرية"؟
التدميرية الفنية الوجودية
لذلك، فإن النص يميز مراراً بأنه بحثه يتعلق بـ"التدميرية" وليست بـ"الدمار". التدميرية ليس بوصفها موضوعة للعمل الفني وحسب، بل بوصفها آلية أو ميكانيكية أو صيرورة يمكن للعمل الفني أن يعبر عنها أو يتبناها كجزء من العملية الإبداعية. ولا شك أن أهمية تناول مفهوم "التدميرية" في الفلسفة والفن تتأتى أيضاً من خصوصية التجربة السياسية والاجتماعية السورية خلال السنوات العشرة الأخيرة، وفي هذا الإطار يكتب الباحثان عن الأعمال 11 المختارة: "تُخرج ما تبذله هذه الأعمال من جهد لإيجاد تموضعات جديدة في عالم مدمر، تخرجُ الفنَ من مهمة تمثيل ما حدث. تأخذ الأعمال على محمل الجد أبعاد الكارثة، وتبتكر طرائق في حرتقة الممكنات تتناسب مع عصر التدميرية. وفي هذا نرى أنها ترتبط بالحضور الترسيمي لا بالحضور التمثيلي، فهي لا تعيد تصوير ما هو موجود الآن وهنا، بل تقترح استطيقيا استباقاً لحياة أخلاقية لم يفكر فيها، وتجريباً في الموضعة داخل العالم. فيكون فنها وجودياً عندئذ، بمعنى أنه يعالج مسألة الوجود في سياق تدميري ويطرح مواقف جديدة من هذا الوجود".
يصنف الباحثان الأعمال الفنية المختارة على فصلين. يحمل القسم الأول عنوان (التدمير مستبقاً) يطغى عليها تلك الأعمال التي ترسم صورة المدمر أو تعيد تشكليها بطرائق فنية وأسلوبية منطلقة من مفهوم التدمير، وتتضمن: (بورتريه للتدميرية، عمرانوفي)، (الانحطاط الطيفي، محمد عمران)، (فن الترسيمة المضادة، خالد ضوا)، (جامع خردة التدميرية، أكرم سويدان)، (بين التهتك والخفر، غيلان الصفدي). أما القسم الثاني فيحمل عنوان (التلاشي مختلفاً) ويتضمن: (توثيق منطق التعذيب، نجاح البقاعي)، (التراجيدي الأقصى، يوسف عبدلكي)، (الهبة المستحيلة، داني أبو لوح)، (عودة الموتى، خليل يونس)، (من المرذول إلى المقدس، نور علسية)، (العار أن تكون إنساناً، صفاء الست).
التماهي بين المدمر والدمار
العمل الأول بعنوان (الوجه الحديث لسوريا، الفنان عمرانوفي، 2013)، يعالجه الباحثان بوصفه "بوتريه للتدميرية"، حيث يتشكل بورتريه للرئيس السوري من حطام أبنية ومن منازل مهدمة. وإذا أمعنا النظر في الرسم، فإن عين البورتريه ترتسم عبر ظلال يسقطها سطح بيت مخرب، وتتماشى أذنه هندسياً مع حواف مساحة معدنية لوتها صلية إحدى القذائف، ويفرض أنفه الإسمنتي شكله بسبب عمود مكسور. يرى الباحثان أن الفنان قصد من هذا الإخراج الفوتوغرافي التعبير عما أطلقا عليه مصطلح إعادة التدوير: "فعنوان العمل الفني يعيد تدوير شعار معين يخص "بناء سورية الحديثة"، والقامة تعيد تدوير صورة للرئيس، وعناصر العمل تعيد تدوير صور المدن السورية التي قصفها النظام، والتشكيل نفسه يعيد تدوير نهد تصويري محدد، وهو الشخصية التركيبية". وهنا يقارن الباحثان بين البورتريه التدميري وبين البورتريهات التي رسمها (جوزيبي أرشيمبولدو) لمجموعة من أعمال آل هابسبورغ في صور تركيبية مشهورة تتجمع فيها الفواكه والأزهار والسنابل والخضر لتشكل تمثالاً نصفياً، ففي حين أن الرخاء والثراء والغنى هو المنطلق في تشكيل البورتريه عند أرشيمبولدو، فإن الخراب والدمار هو المنطلق في تشكيل البورتريه عند عمرانوفي.
تحت عنوان (الانحطاط الطيفي) يدرس الباحثان عملاً بعنوان (أعمار بشار الثلاثة، محمد عمران، 2010)، الذي يقدم فيه الفنان برسم من الحبر على ورق، بورتريهات متخيلة فنياً لرئيس النظام السوري عبر مراحل عمرية مختلفة: الطفولة، البلوغ، الشيخوخة. وتوقف الباحثان عند الأسلوب الغروتسكي الذي يشكل باستلهامه الفنان كائناته، حيث تتداخل الأعضاء الجسدية البشرية بين البورتريهات، وتتحول في بعض الأحيان إلى آلات حربية ودبابات عسكرية، مما يحقق كتابات (إليشيفا روسن) عن الغروتسك باعتباره: "محاولة لطرح الجوانب الشيطانية في العالم وإخضاعها"، أو ما كتبه (فريدريش دورينمات): "انقاد عالمنا إلى صنوف الغروتسك كما انقاد أيضاً إلى القنبلة الذرية، شأنه شأن اللوحات الغروتسكية التي رسمها جيروم بوش عن نهاية العالم. ولكن الغروتسكية ليست إلا تعبيراً شعورياً عن مفارقة محسوسة، إنها شكل لما شكل له، ووجه لعالم من دون وجه". ويجد الباحثان أن الآلية الجمالية عند محمد عمران تمسخ بورتريه المدمر من خلال عمليات ثلاثة: "في المبالغة الفظيعة التي تشوهه، وفي التجريد الطيفي الذي يفرغه، وفي دوامة العود التي تحطه أكثر فأكثر".
ينوع أيضاً العمل النحتي بعنوان (زعيم الكلاب، خالد ضوا، 2018) على صورة المدمر، فتشكل صورة السلطة أهم الموضوعات التي اشتغل عليها خالد ضوا. فمراراً ما نرى المستبد نفسه المتربع بثقة على عرشه، غارقاً في قعر كرسيه الوثير، محتفظاً بسلطة قديمة العهد، ورادعاً كل المحاولات لاقتلاعه منها. ولكن مهما تغيرت الصفات الخارجية للمسبتد، فإنه يبقى في جوهره كما هو، وحيداً في عزلة السلطة: "نحن أمام مستبد جالس، ليس كما يجلس المفكرون ليتأمل العالم أو ليخوض في قرارة نفسه، بل هو كتلة جاثمة والعالم بكامله تحت قدميه، لكن تتهاوى هذه الكتلة فالقوة المرئية الوحيدة الفاعلة في جسد هذا المستبد هي الجاذبية". يهدم النحات عن عمد مادة أعماله، فيثقب الصلصال بالسكين ليسارع ذهنياً في تفتيت شخصياته. وأحياناً نرى إحدى الساقين تسقط، وتنكسر رجل أحد الكراسي. وهنا يعمل عنصر التدميرية في أعمال النحات على أربعة مستويات:
التدهور الهوياتي: تفكك الفردانية: فالمسبتد هو شخصية مشهورة، ولكنها غفلية مع ذلك، فينحت الفنان عالماً يستحيل أن تتمايز فيه الذوات، أو حتى أن يتمايز فيه الجلاد والضحية، لأن هناك مبدأ يتحكم بجميع الأجساد، وهو مبدأ التدهور الذي يتجلى عبر تحلل الفردانية.
التدهور اللغوي: تجريد الكلمات من دلالاتها: كان عنوان معرض الفنان الأول في فرنسا "انهضوا" وهو عنوان يدعو إلى التمرد، في حين تبقى الأجساد المنحوتة لهذا المعرض هامدة.
التدهور الحدثي: عودة إلى الجماد: فالأجساد المنحوتة أجساد مهدمة، ولكن هذا الهدم لا يتعلق بوجود الجلاد أو المرتزق، بل يرتبط قبل كل شيء بغياب الحدث.
التدهور الأسلوبي: الترسيمة المضادة: وذلك عندما يركز النحات على مدى تدمير القوى الخارجية لهذه الأجساد المتهالكة، وعلى شدة تخريب الهواء للمادة، وعلى حجم الانخساف الذي يحدثه الثقل في الكتلة.
التدميرية كإلهام فني
تحت عنوان (جامع خردة التدميرية)، يدرس الباحثان العمل الفني الرابع (ثلاثة جعاب، أكرم سويدان، 2019) والذي يتشكل من ثلاث جعاب هي في الأساس قذائف زينها الفنان على الطريقة التقليدية في الفن الإسلامي، وبأساليب عدة كالتخطيط والرقش والرسوم الهندسية. يتألف العمل من الجعبة الخضراء والتي هي تقديس للمدن السورية المدمرة، يسجل الفنان أسماءها في الميداليات الزخرفية كما جرت العادة للكلمات المقدسة. وعلى الجعبة الزرقاء، يخط شعاراً ثورياً "ثورة حتى النصر"، وفي الجعبة الحمراء نقرأ عبراً أخلاقية ومطالب إنسانية: "لا للقتل"، "نعم للحياة"، "لا للإرهاب"، "لا للتهجير القسري". وهكذا صارت لغة التزيين الإسلامي الكلاسيكي تعبر عن الحرب في سوريا. يكتب الباحثان: "إن جعاب القنابل التي يزينها لا تضاف إلى الطاسات والكؤوس والطسوت والأباريق، فخردته تقدم أنواعاً غير مسبوقة من الأواني المصنوعة من خراطيش القنابل ومخلفاتها ومن بقايا الألغام والخوذ العسكرية والرمانات". يكتب عن ذلك (غونتر أندرس): "إن تحديث الإنتاج والحرب هما هرتان توأمان تكثف أحدهما الأخرى. وهما كلتاهما يدخلان، كل واحدة بطريقتها، في خدمة تدمير المنتجات الذي بدوره يضمن استمرار الإنتاج ونموه".
وفي هذا المجال يمكن التذكير بما كتبه (غاي هوكينز): "يعد رفض الاهتمام بالنفايات رفضاً للاهتمام بغائية الحياة. في هذا المعنى، تحدد النفايات حقل السلوك الأخلاقي". ولذلك، فإن الباحثين يريان أن جعاب أكرم سويدان باستخدام الصواريخ والألغام والقنابل في الأثاث المنزلي، لا تضع الفنان تحت بصر الإنسان شيئاً يذكره بمحدوديته وبحاله ككائن فان، بل يضع أمام عينيه شيئاً يذكره بوضعه المهدد، وبإمكان إفنائه وقتله كمحدد أساسي لوجوده في العالم.
في العمل الأول من القسم الثاني نتابع العملية التدميرية للكائن والجسد التي يرصدها الباحثان في أعمال الفنان (نجاح البقاعي) التي تخصص في توثيق "تدمير الإمكانية" التي يفرضها التعذيب على المعتقل، والتي تفرضها لوحات البقاعي على المتلقي للتعبير عن التدميرية، ويستشهد الكاتبان بالفيلسوف كيركيغارد لقراءة أعمال الفنان: "عندما يسقط أحدهم مغشياً عليه، يصرخ الناس: اجلبوا الماء، اجلبوا الكولونيا. ولكن أمام شخص يائس نصرخ: اجلبوا إمكانية، إمكانية. فالإمكانية هي الخلاص الوحيد، وإذا حضرت يستعيد اليائس أنفاسه، فقد استعاد روحه، لأنه من دون الإمكانية يبدو أن التنفس مستحيلاً"، ومن هنا فإن لوحات البقاعي في توثيق تجربة الاعتقال تسعى إلى تجسيد تلك اللاإمكانية التي يتحدث عنها كيركغارد في السجون السورية.
العمل الفني في وجه التدميرية
تنتقل بنا الدراسة تالياً إلى دراسة العمل السابع (السمكة المقيدة، يوسف عبدلكي، 2015). يعيدنا البحث في تحليل أعمال الفنان عبدلكي ليس إلى اعتبارها من نوع الطبيعة الصامتة فحسب، حيث حضور السمكة أو العصفور، وإنما يركز على الفعل التراجيدي التي تقوم به هذه الكائنات داخل إطار اللوحة، فالسمكة المقيدة تؤدي حركة من الحيوية، التمرد، الفاعلية حتى بعد موتها أو دخولها في عالم اللوحة الصامتة الجامد: "على غرار البطل المأساوي النيتشوي، يتخلص فنان التراجيديا القصوى من العلاقة القائمة بين العلة والمعلول، بين الفعل ومنفعته، فيؤكد على الفعل بطريقة غير مشروطة، أي بصرف النظر عن نتائجه. ثمة بطولة مأساوية عند كائنات يوسف عبدلكي، بطولة السمكة التي تشب، بطولة الذراع المقطوعة بقبضتها المغلقة، بطولة الحذاء الممزق المستعد للعدو. لكن هذه البطولة تتجلى في لحظة خاصة جداً، كان من الممكن لها أن تظهر ربما بطريقة مطمئنة أكثر لو أنها التقطت قبل ذلك، أي قبل أن ترمى السمكة على الأرض، وقبل أن تقطع الذراع، وقبل أن يتمزق الحذاء".
عمل فن الفيديو الوحيد المندرج بين الأعمال الفنية للكتاب هو (كان اسمه حمزة بكور، داني أبو لوح، 5 دقائق، 2012)، والذي يقدم فيه الفنان وجه الطفل حمزة بكور في الثلث العلوي من المشهد، يظهر فيه الجزء السليم من وجه الطفل، أما الجزء السفلي فحجب عن البصر، واستبدل بأجزاء متقطعة من وجوه أخرى: "عندما أضاف داني أبو لوح إلى القسم المتبقي من الوجه فكاً سفلياً، كان يريد تعويض حمزة ليس بوجه واحد وإنما بعشرات الوجوه. لأنه حيث يكون التدمير بهذه الشدة، فيبدو بأن الطب الوحيد الممكن هو الطب الرمزي".
ومن هنا، فإن الباحثين يريان أن عمل داني أبو لوح يتجاوز المنطق الاقتصادي للهبة بإنتاج هبة مستحيلة للطفل المصاب حمزة بكور، فيمنح فكاً ليس بفك، يعطيه لضحية لم تعد هنا. ومع العدد الهائل من الفكوك المقدمة، يضع الفنان نفسه في إطار الهبة المستحيلة، فهو يعطي ما لا يملك، يهبه لشخص لا يريده ولا يستطيع أخذه.
العمل الفني ما بعد التدميرية، تالياً للموت
وهذا ما يقودنا إلى عنوان العمل التاسع (عودة الموتى، خليل يونس، 2013) والذي يميز فيه الباحثان بين الفن المأتمي والفن الجنائزي، ويصنفان عمل الفنان باعتباره يرفض كل تخط للجنائزية، ويرسخ المستحيل كمبدأ أخلاقي، محاولاً تشييد الحداد كفعل لا ينتهي، وكأن عمل الفنان ينتمي إلى زمن ما بعد الموت: "لقد اختفى عالم الآخر مع موته، لذا يجب علي أن أقدم له استضافة غير مشروطة، فأحمله في داخلي، أحمله دائماً كآخر كي لا يختفي، أن أحمل الآخر يعني أن أحمل الحداد إلى الأبد". فتتوجه أنظار الفنان خليل عمران نحو الذين عانوا من صنوف هذا التدمير ثم قضوا منسيين. فيسعى الفنان الجنائزي عندئذ إلى أن يسلط أضواء كاشفة على بقايا الموتى التي يجمعها، لا بل يمكنها أن تحتل مركز حياتنا. لذا يهتم بالهياكل العظمية في المقابر الموحشة حيث هجر الأحياء موتاهم تاركينهم لعزلتهم. ويقف الباحثان عند حضور الصرخة الجنائزية في لوحة (عودة الموتى) والتي هي التعبير عن الألم المستمر واللانهائي، وهنا يستعين الباحثان بما كتبه (هنري مالديني) حول الصرخة واللغة والشعور: "يكون الشعور بالنسبة للإدراك ما تكونه الصرخة بالنسبة إلى الكلمة. الصرخة، لا توجد إلا صرخة واحدة. ليست هي صرخة الألم. الصرخة الحقيقية والوحيدة هي صرخة النداء". وفعلاً، ليست صرخة الجنائزي في عمل خليل يونس جوهرياً صرخة ألم، لأنه لا يبكي فوق القبور، هي صرخة نداء، نداء يسعى إلى أن يدفع بالإنسانية كلها إلى مواجهة الحدث الرهيب.
وأيضاً، في التعامل مع الموت، مع الجسد ومع الأعضاء الإنسانية يأتي عمل الفنانة (نور عسلية) بعنوان (رسالة إلى فرجينيا وولف)، والتي تتعامل في هذا العمل مع الأعضاء البشرية بتقنيات فن التصبير الذي يسعى في جوهره إلى إنكار التدمير، على العكس من فن التحنيط الذي يظهر الموتى في موتهم. يكتب الباحثان في تعامل الفنانة مع الجسد والموت: "عملت الفنانة على تحويل المرذول إلى مقدس، ولأنها التقطت تعابير من صار بلا تعبير، فقد منحتنا على ما يبدو إمكانية الحداد. واليأس أمام الرذل وما يصاحبه من أفق التلاشي، اليأس هو الشعور الأول في عالم التدميرية. صار مع المحنَطة قلقاً، أي انقلب إلى اللاشعور الذي يرافق انفتاح الممكنات. تخلق الفنانة إمكانية تقلب العلاقة بما دُمر، فتوجد المقدس من صميم المرذول، والقلق من باطن اليأس فيختلط مع رهبة المقدس، وتفرض أيضاً ذاكرة الأشلاء التي تعالجها الرعب في ذهن القاتل.
وكما في العملين السابقين الذي يجمع بينهما معالجة ما هو كائن بعد الفقد والموت، فإن العمل الأخير في الكتاب يندرج أيضاً ضمن هذه التأويلية، وهو عمل نحتي بعنوان (جثمان والببغاء الآلية، صفاء الست، 2017) والذي يقدم طائر الببغاء مستلقياً على ظهره رافعاً قائمتيه، حيث لم تعطه النحاتة وضعية جنائزية، بل سبكته في وضعية الطائر الذي سقط من شجرته وقد صعقه الموت، وهنا لا يتأكد مشهد الموت هذا في لعبة مخايلة: ماتت الببغاء حقيقة وإن كانت ببغاء آلية. قائمتاها برغيان كبيران، جناحاها صفيحتان معدنيتان مثقوبتان، أعضاء كثيرة تحافظ على آثار الاستخدام الصناعي للخردة التي صنعت بها، ذلك أن المخلفات الحيوانية في المنحوتة مؤلفة من نفايات صناعية، يكتب الباحثان: "نستطيع القول إن صفاء الست تعيد الحياة والكرامة للمفقودين. ولكنها حياة مصعوقة أساساً في عصر التدميرية بالموت وراهنيته. ثم تطرح الفنانة الإذلال الأقصى الذي خضعوا له، وذلك عبر الحيوان الكائن المتواضع على الإطلاق الذي تشهره في وجوهنا".