يدخل الحراك الشعبي المناهض لزعيم "هيئة تحرير الشام" أبو محمد الجولاني، مرحلة جديدة، بعدما لجأت قيادة الهيئة لأسلوب تصعيدي ضد المتظاهرين، يتمثل بنشر الحواجز وتقطيع أوصال المدن والتضييق على المدنيين لمنعهم من الوصول إلى نقاط التظاهر الرئيسية، ولا سيما في مركز مدينة إدلب شمالي سوريا.
بدأت شرارة التصعيد في مدينة أريحا، ثم انتقلت إلى مركز مدينة إدلب، إلى أن انفجرت اليوم في منطقتي بنش وجسر الشغور في ريفي إدلب الشرقي والغربي، إذ نشرت الهيئة المئات من عناصرها، ومنعوا المتظاهرين من التوجه إلى مدينة إدلب، وأطلقوا الأعيرة النارية لترهيبهم، فضلاً عن ضرب بعضهم بالعصي، ودعس آخرين بالعربات المصفحة، وإصابة عدد من المحتجين بالغازات المسيلة للدموع.
لماذا انتقل الجولاني من مرحلة الاستماع للمطالب إلى مرحلة التصعيد والعنف؟ وما مآلات إقحام الجناح العسكري التابع لـ "هيئة تحرير الشام" في مواجهة مباشرة مع المتظاهرين، الذين أكدوا مراراً أنهم لا يستهدفون المقاتلين ضمن الهيئة، إنما قيادتها ممثلة بـ"الجولاني".
شرارة الاحتجاجات ضد "الجولاني"
انطلقت المظاهرات المناهضة للجولاني في 25 من شباط الماضي، نتيجة عدة تراكمات وضغوط بسبب ممارسات "هيئة تحرير الشام" أدت في نهاية المطاف إلى بدء الحراك الشعبي، إذ خرجت التظاهرات في مدينة سرمدا ثم توسعت إلى عشرات المدن والبلدات.
وبدأت شرارة الاحتجاجات بمقتل شاب تحت التعذيب في سجون الهيئة، إذ دعا المتظاهرون إلى محاسبة القائمين على الفعل، لكن المطالب توسعت لاحقاً، لتشمل إسقاط الجولاني، وتحييد جهاز الأمن العام عن الحياة العامة، وإطلاق سراح معتقلي الرأي من بقية الفصائل وغيرهم، وإنهاء المحاصصات في العمل التجاري، وإلغاء الرسوم والضرائب على البضائع.
واتخذت "هيئة تحرير الشام" و"حكومة الإنقاذ" التابعة لها إجراءات عقب الاحتجاجات، منها إصدار عفو عام عن بعض المساجين وفق شروط، إلا أن هذه الخطوات لم ترقَ إلى مطالب المتظاهرين، خاصة أن قرارات العفو هذه، تصدر كل عام تقريباً بشكل روتيني.
حاول الجولاني اختزال المطالب بعدة بنود من دون المساس به، حيث قرر إعادة تشكيل جهاز الأمن العام بمسمى إدارة الأمن العام ضمن وزارة الداخلية في "حكومة الإنقاذ"، مع إعادة هيكلة مجلس الشورى، وتشكيل ديوان للمظالم والمحاسبة، إلا أن الجولاني فشل في كبح المظاهرات، على اعتبار أن ما وصِفت بـ"الإصلاحات" لم يكن لها أثر مباشر على حياة السكان، وعدّها البعض مجرد إجراء لـ"الالتفاف على مطالب المتظاهرين".
توسع دائرة الحراك يرهق الجولاني
اعتمد الجولاني على عامل الوقت وزهق المتظاهرين من كثرة المظاهرات، لإخماد الاحتجاجات، وأفسح المجال لخروج مظاهرات بشكل شبه يومي في مراكز المدن والبلدات إضافة للمخيمات، من دون أن يتعرّض لها الأمنيون بأذى.
لكن الرياح جرت عكس رغبات الجولاني، فقد أخذت الاحتجاجات بالتوسع يوماً بعد يوم، لتشمل فئات مختلفة من المجتمع، ولم تعد المطالب تقتصر على إسقاط الجولاني، إنما توسعت للإضاءة على مواطن الخلل داخل "حكومة الإنقاذ" (الذراع المدني لهيئة تحرير الشام)، وتبعات سياساتها على المجتمع.
فتح الحراك الشعبي المتواصل ضد سياسات "هيئة تحرير الشام"، وحكومة الإنقاذ التابعة لها في محافظة إدلب الآفاق أمام مختلف فئات المجتمع من الموظفين وغيرهم، للمطالبة بحقوقهم وتحسين بيئة عملهم بما يتناسب مع الوضع المعيشي، ويضمن حياة كريمة لهم.
وشمل الحراك المعلمين والطلاب الجامعيين، والمتضررين من سياسات "الإنقاذ" الاقتصادية، إضافة للمزارعين المعترضين على أسلوب الهيئة بتحصيل "الزكاة" منهم عنوة، كلٌ حسب ناتج محصوله من الزيتون.
نقطة التحوّل
يبدو أن فشل الجولاني بإخماد الحراك عبر الالتفاف على مطالبه، قد دفعته إلى أساليب جديدة لقمع المتظاهرين، منها اللجوء إلى الحلول الأمنية والعسكرية، عبر اعتقال الناشطين والتضييق عليهم ونشر الحواجز بين المدن والبلدات.
وفي الخامس من الشهر الجاري، بدأت "تحرير الشام" بالتصعيد ضد الحراك، حيث هاجمت عدداً من الناشطين في مدينة أريحا، واعتقلت أحدهم (أيهم حلوم)، وحاولت اعتقال آخر (مفيد عبيدو)، لينتهي الأمر بتصعيد من المدنيين نجح بالإفراج عن الناشط المعتقل.
ويوم الثلاثاء الماضي، اعتدى عناصر من "إدارة الأمن العام" في وزارة الداخلية التابعة لـ"حكومة الإنقاذ"، على عدد من المعتصمين أمام المحكمة العسكرية وسط مدينة إدلب، للمطالبة بالإفراج عن معتقلين لدى "هيئة تحرير الشام".
وأفادت مصادر محلية لموقع "تلفزيون سوريا" بأن "الأمن العام" أطلق الرصاص الحي في الهواء لتفريق المعتصمين، واعتدوا عليهم بالعصي والهراوات، كما تعرض عدد من المعتصمين لإصابات وجروح طفيفة من جراء الاشتباك مع عناصر "الأمن العام"، نقلوا على إثرها إلى المستشفيات، وعقب ذلك، اقتحمت قوة كبيرة من عناصر "الأمن العام" خيمة الاعتصام، وحطمت محتوياتها ثم هدمتها بشكل كامل.
مرحلة جديدة وضرب بيد من حديد
بدوره، ذكر الجولاني أن "المحرر دخل في مرحلة جديدة، ويجب أن يعود المحرر لانتظامه، ولن نسمح أن تعود حالة الفوضى والتشرذم"، معتبراً أن بعضهم "ساقه حقده للتضحية بكل المحرر"، كما قال: "من هان عليه المحرر فقد هان علينا، ولن نتهاون مع أي شخص أو تجمع أو حزب أو فصيل يريد إيذاء المحرر، وعلى هذا نجتمع جميعاً".
ودعا الجولاني إلى الوقوف إلى جانب "تحرير الشام" ضد من قال إنهم "يريدون الإخلال بالموازنات التي بني عليها المحرر الذي بني على أعمدة، وأي إخلال بأحدها، ستختل جميع الأعمدة"، مضيفاً: "لصالح من يريد البعض إدخال المحرر في حالة من الفوضى، وما هي الصورة التي يراد تصديرها للعالم عن الثورة السورية المباركة".
من جهته، هدد وزير الداخلية في حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام محمد عبد الرحمن، المتظاهرين في إدلب بـ"الضرب بيد من حديد"، وذلك بعد اعتصام أقامه محتجون أمام المحكمة العسكرية بإدلب للمطالبة بإطلاق سراح معتقلين، وفُضّ لاحقاً بالقوة.
وقال إن عناصر الشرطة في وزارة الداخلية التزمت بـ"ضبط النفس" وتأمين المظاهرات، زاعما أن "تلك الفئة (من المتظاهرين) التي خرجت عن حدود التظاهر والتي تقوم بعرقلة السير والشغب والسب والشتم وإزعاج الأهالي، تظاهرها السلبي قد تجاوز الحد".
نشر حواجز وتقطيع لأوصال المدن
حاول "الجولاني" استغلال حادثة فض الاعتصام، ليفتتح بها مرحلته الجديدة بالتعامل مع الحراك المناهض له، حيث استعان بالجناح العسكري التابع له، لينشر مقاتليه إلى جانب "إدارة الأمن العام" بين المدن والبلدات للحد من التظاهرات.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، إذ طلب "الجولاني" من الفصائل المقربة منه نشر قوات داخل المدن، تحت مسمى غرفة عمليات "الفتح المبين"، وشمل ذلك، حركة أحرار الشام، وجيش النصر، وصقور الشام.
بعد انتشار العسكريين على الطرقات الرئيسية، بدأت الدعوات لمظاهرة مركزية في مدينة إدلب للمطالبة بإسقاط الجولاني، كرسالة من المتظاهرين أن التلويح بالخيار العسكري والأمني لن يثنيهم عن مطالبهم.
وصباح اليوم، أفادت مصادر محلية لـ موقع تلفزيون سوريا، بأن الجهاز الأمني في الهيئة، إضافة إلى جناحها العسكري، نصبوا عدداً من الحواجز في محيط مدينة إدلب، ومنعوا المدنيين من الدخول إليها إلا وفق استثناءات، تشمل بشكل رئيسي عائلات عناصر الهيئة.
وأشارت المصادر إلى أن الحواجز تُعلم المغادرين للمدينة، بأنهم لن يستطيعوا العودة إليها قبل صلاة الجمعة، وذلك بالتزامن مع دعوات لمظاهرة مركزية داخل المدينة للمطالبة بإسقاط "الجولاني".
وشمل الانتشار مختلف مداخل المدينة، لا سيما على الطرقات المؤدية من مدن أريحا وبنش ومعرة مصرين إلى مركز مدينة إدلب، كما نشرت "تحرير الشام" حواجز في محيط بلدة الفوعة مساء يوم أمس، ومنعت متظاهرين قادمين من مدينة بنش من الدخول إلى البلدة، كما نشرت حاجزاً في منطقة المخيمات بريف بلدة كللي شمالي إدلب، والتي تشهد مظاهرات بشكل دوري.
وكما كان متوقعاً، اعتدت "تحرير الشام" على المتظاهرين القادمين من مدينة بنش، ومنعتهم من الوصول إلى مركز مدينة إدلب، كما أطلق عناصرها الغاز المسيل للدموع عليهم، ودعسوا عدداً منهم بواسطة العربات المصفحة.
وفي مدينة جسر الشغور غربي إدلب، تداول ناشطون فيديوهات، تظهر لحظة إطلاق عناصر الهيئة الرصاص الحي في الهواء لتفريق المتظاهرين، والاعتداء على بعضهم بالضرب.
وبررت وزارة الداخلية في حكومة الإنقاذ ذلك، بالإشارة إلى أن المتظاهرين أقدموا على رمي الحجارة على الحواجز الأمنية على طريق إدلب - بنش، واستعمال الصعي والسكاكين، ونعت العناصر العسكريين والأمنيين بـ"الشبيحة".
أسباب نشر العسكريين والمآلات
قال الباحث في شؤون الجماعات الجهادية، عرابي عرابي، إن ما جرى اليوم في إدلب، ينبئ بأن المشهد يتجه للتصعيد، كون قيادة الهيئة لا تسمع للمتظاهرين وتقبل التفاوض معهم على كل شيء، كما أن بعض قادة الحراك يرفضون التفاوض مع فكرة وجود الجولاني.
وأضاف عرابي في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، أن الوضع الحالي يحتاج إلى "طريق ثالث"، ويبدو أن هذا الطريق "مغيّب أو يُدفع لإبعاده وعدم إظهاره، وهذا ما سيزيد من تعقيد المشهد".
وتوقع عرابي زيادة وتيرة المظاهرات والاعتصامات في إدلب، مع محاولة "تحرير الشام" فضّها، مشيراً إلى أن قلة عدد المشاركين بالمظاهرات مقارنة بعدد السكان في إدلب، قد يكون دافعاً للجولاني للتصعيد، بالتالي دخول الحراك في "دوامة".
من جهته، قال الباحث وائل علوان، إنّ "هيئة تحرير الشام تعرضت لمجموعة من الكوارث والأزمات خلال الأشهر الماضية، أولها مشكلة داخلية عصفت بصفوفها، ثم استغلال الشارع لهذا الخلل البنيوي في الهيئة، للتعبير عن سخطه وغضبه من القبضة الأمنية التي كانت تمارسها الهيئة، مع تبني نظام الضرائب واحتكار السلع".
وأضاف علوان في حديث مع موقع تلفزيون سوريا: "لا يمكن إنكار أن هناك تحريضا مارسته كثير من الأطراف المستاءة من الهيئة، ومنها الفصائل التي أقدمت الهيئة على حلّها أو القضاء على حواضنها، إضافة لأطراف أخرى من المجتمع المدني، وحزب التحرير".
وذكر أن الهيئة وجدت نفسها أمام ضغط داخلي وخارجي، وعملت بالتوازي على حلّ الإشكالين، لكنها لم تنجح بحل أزمتها الداخلية بشكل كامل، على اعتبار أن القيادي الذي انشق عنها وكان محرّضاً على الجولاني (أبو أحمد زكور) ما زال منشقاً ويمارس دوره في التحريض بالانشقاق عنها.
بالمقابل، استطاعت الهيئة حلّ الخلاف بين جناحيها العسكري والأمني، ووصل الأمر إلى أن يشارك أحد الألوية العسكرية الرئيسية (لواء علي ابن أبي طالب) مع الجهاز الأمني في قمع المظاهرات وفض الاعتصامات.
ولفت إلى أن الهيئة حاولت تحييد العامل الخارجي الضاغط عليها (المظاهرات)، وفي السياق، عقدت عدة اجتماعات مع نخب مجتمعية، ومؤثرين في القوى الشعبية، لتحييد جزء منهم، إما بمنحهم مكتسبات مثل شيوخ العشائر، أو بالوصول إلى تفاهمات جزئية مع بعض الأطراف لتحيّد نفسها عن الحراك".
ورأى علوان أن هيئة تحرير الشام تتجه للعنف بالتعامل مع المظاهرات، مضيفاً أن عدم قدرة الهيئة على تنفيذ الإصلاحات التي ودعت بها هو السبب الرئيسي للذهاب إلى خيار تعلم أنه ليس حلاً مثالياً لإنهاء الحراك.
ويبدو أن الهيئة لا تمتلك الكثير من الخيارات، إذ يعتقد علوان أنها "مفلسة وليست قادرة على تقديم إصلاحات حقيقية وتنفيذ الوعود التي قطعتها على نفسها أمام المجتمع، لذلك لجأت إلى العنف من أجل تقطيع أوصال المنطقة التي يتجمع بها المتظاهرون، وعزل المناطق عن بعضها للحد من الاعتصامات المؤثرة".
ويفتح التصعيد اليوم ضد المتظاهرين الباب أمام كثير من الاحتمالات والتبعات، إذ يعتقد القائمون على الحراك، أن الثورة السورية انطلقت قبل أكثر من 13 عاماً ضد النظام السوري بعدما أهان السوريين وبدأ بسياسة القتل ضدهم، فمن الطبيعي أن يطبقوا ذات السياسة على كل طرف يواجه أغصان الزيتون بالحديد والنار، ما لم تعد تحرير الشام حساباتها وترتب أوراقها، وتقتنع بأن الخيار العسكري ليس حلاً لإنهاء الحراك.