إذا كان "تاريخ العالم ليس إلا تقدم الوعي بالحرية" على رأي هيغل في مقدمة كتابه "فلسفة التاريخ" فإن كتابة التاريخ الأصلي، من وصف الأعمال والأحوال والأحداث التي جرت والتدقيق في تفاصيلها والتفكر في مساراتها، ما هي إلا مساهمة حقيقية في وعي الحرية ووعي الروح بذاتها وصيرورة كفاحها من أجل امتلاك الحرية بما هي ماهية ذلك الوعي وغاية ذلك التاريخ، فكيف إذا كان هذا التاريخ يرصد لحظة فارقة من لحظات التوق نحو الحرية.
تعتبر منصة "الذاكرة السورية" حصيلة مشروع بحثي أسسه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات منذ عام 2019؛ وأمن له الموارد اللازمة وأشرف عليه من منظور علمي لإدراكه الأهمية أن لا تفوت هذه الفرصة الثمينة لتسجيل تاريخ ثورة هي جزء أصيل من سيرورة وتاريخ وطن، تاريخ سوريا. وتضم هذه المنصة أضخم أرشيف موثوق ومدقق حول الأحداث في سوريا؛ وهي منصة رقمية مرجعية، بمحركات بحث وتصفّح متطورة، وتشمل يوميات الثورة التي جرى تحقيقها وتدقيقها من مصادر موثوقة، وتغطي الأحداث المدنية والعسكرية والسياسية المحلية والدولية منذ بداية الثورة حتى عام 2015. وقام على تنفيذ هذا المشروع فريق بحثي سوري.
إنها الذاكرة السورية إذاً، والتي تغطي مرحلة مهمة من تاريخ سوريا بل من تاريخ أمة تجرأت في لحظة ما أن تقول "لا" للظلم والقمع ونعم للحرية والكرامة ودولة العدل والقانون. إنها مقدمة لمشروع وطني يحفظ السردية الحقيقية في منعطف حاسم من تاريخ الوطن.
لكن بعيداً عن لغة التوصيف والتوظيف، بعيداً عن جفاف السياسة وتأويلاتها، والتاريخ وصرامته، والجغرافيا وتعرج مسالكها، فإن هذا المشروع بتفاصيله من وثائق وصور وفيديوهات وبوح يسعى إلى لملمة نزيف الألم من على حواف قضبان السجون المعتمة كي ينشره بالهواء صوتاً وصورة ونصاً، ويتتبع شقوق الضوء الذي نثرته ثورة السوريين على سواد المشهد ويجمعه ليجعل منه بقعة ضوء تركز على معاني الحرية والكرامة التي انطلقت مع الصرخات الأولى لشباب آمنوا بالتغير لكن الرصاص والاعتقال والموت كان لهم بالمرصاد فكان على الذاكرة السورية أن تلاحق حكاياتهم وصورهم وآراءهم وتجمعها كي لا تموت الرواية ولا تطمس الحقائق ولاتُحرف السردية؛ وهو ما سعت لتحقيقه من خلال العمل على توثيق الأحداث ومراجعة أكثر من مليونَي فيديو للتحقق منها وتصنيفها وتدقيقها، حتى باتت المنصة تضم أرشيفًا ضخمًا يشتمل على 900 ألف مقطع فيديو، إضافةً إلى مجموعة واسعة من الوثائق التي تعود إلى مؤسسات مدنية وفصائل عسكرية وهيئات سياسية متنوعة، مع عرض نحو 50 ألف وثيقة.
جمعت الذاكرة السورية شظايا اللوحة من فوق الدمار والخراب الذي مارسه النظام في بيوت دمشق وغوطتها وفي حمص وأحيائها وحماة وحواريها وحلب وعبق التاريخ في شوارعها ودرعا وجامعها العمري وحتى دير الزور وجسرها الذي كان معلقاً لتكتمل اللوحة، وجمعت شظايا الخراب على امتداد الوطن وانتشلت الحكايا من بين الركام وأعادت ترتيبها لتخبرنا الرواية كلها من بادية الوطن حتى ساحله لتكتمل الصورة ونضع الإصبع على الجرح ونعرف كيف بدأت المسارات وأين ومتى جرت التحولات وما هي المآلات.
تبوح الذاكرة السورية بهمسات الحالمين وهم يرسمون الطريق نحو السماء ولملمة حكاياهم من فوق أرصفة تعفرت بلهاث الراكضين نحو الموت، وتنشر صرخات الثائرين وهم يعلنون بداية الطريق نحو الحرية ويحفرون رايات الكرامة على جدارية التاريخ السوري، وانتشلت الذاكرة السورية الآه المحبوسة من قلب الحزن كي تصبح صرخة في العلن، ولملمت الماضي على صفحات الحاضر كي تخبر المستقبل بآمالنا ويأسنا، بفرحنا وبكائنا، بشجاعتنا وخوفنا، حيث أجرى العاملون على المشروع مقابلات وجاهية مصوّرة مع عدد من الفاعلين الذين كان لهم دور مهم في أحداث هذه المرحلة؛ إذ تحتوي المنصة على أكبر مكتبة للتاريخ الشفوي السوري، تضم أكثر من 2500 ساعة من الشهادات والروايات الشفهية المسجلة.
تختزن الذاكرة السورية تراكم الأنفاس المتعبة ودفء الحب وصهيل الحياة وزفرات الموت وتسارع دقات القلب في لحظة هتافات الكرامة والحرية، حيث كانت مهمة الذاكرة استعادة لحظات الفرح الصغيرة ولملمة صدى الثائرين لنكتشف صوتهم، أغانيهم، أهازيجهم، فوق طرقات ألفت أنفاسهم وبكت على فراقهم، وأرصفة تعبت من رقصهم على إيقاع الحرية حيث اهتمت الذاكرة السورية بتوثيق الهتافات والفنون الغنائية التي عبّر عنها المتظاهرون في أثناء احتجاجاتهم الشعبية خلال تلك الفترة، بما في ذلك نسخة كاملة من لوحات كفرنبل الشهيرة حيث كانت كتابة التاريخ بأقلام ورؤى صانعي تلك اللحظات.
مشروع الذاكرة السورية يضيء البدايات وكيف تجرأ الشباب والشابات على الحلم بسوريا الحرة الكريمة، سوريا لكل السوريين؛ لقد اشتغل العاملون على لملمة الوثائق وقصاصات الروح كي يركبوا الصورة الحقيقية لما حدث وكيف حدث وكيف أصبح، ومن قلب الحدث صنعت اللبنات الأولى لتاريخ الثورة، ومن الآن وهنا رسَمت الذاكرة السورية ما ستراه الأجيال القادمة بكل وضوح فقدمت بيانات ومعلومات عن أكثر من 10 آلاف كيان عسكري ومدني وحوكمي تكررت أسماؤها في توثيق الأحداث، وتعريفات بأكثر من 6 آلاف شخصية ظهرت بوصفها فاعلة في الأحداث، وتوثيقًا مهمًّا للمعارك العسكرية التي دارت في مناطق مختلفة من سوريا.
الذاكرة السورية لا تراوغ الماضي بل تدخل في تفاصيل تفاصيل الحدث وتتحقق منه زمانياً ومكانياً وتركبه في فسيفساء الصورة الكاملة حيث طارد فريق العمل الزمن وسرعة التحولات في شبكات الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي لكي يجمعوا لحظات الثورة قبل أن تحذف ليصنفوها وتصبح مادة قابلة للوصول والاسترجاع لحفظ الحقيقة، وإبقاء الذاكرة السورية حية، وتوفير مادة مرجعية شاملة موثوقة تمثل سجلاً للأحداث، يمكن لكل من أراد أن يسبر غور تلك المرحلة أن يجد ضالته في هذه الذاكرة التي جرى تصميمها تقنيًّا بحيث تتيح للمستخدمين أفضل وسائل البحث والوصول إلى المعلومات.