لم تكن لحظة عادية عندما دُعيت لأكون جزءاً من نواة بناء تلفزيون سوريا، لأكون جزءاً من كلمة تقول لا للدكتاتورية، لا للقمع ونعم للإنسان والوطن، نعم للحرية، نعم للعدل والعدالة.
لم تكن لحظة عادية، لأنني أمام مفارقة، حيث عملت لسنوات طويلة مضت في التلفزيون السوري الذي يمجد الدكتاتور ويبرر القمع ويدوس على الرأي الآخر، وكنت أحس كمهندس بحسرة أن الأجهزة التي نعمل عليها ونسهر على أدائها هي التي تبث ما يبرر تلك الممارسات على الهواء، وقبول هذا كان بالنسبة لي شكلا من أشكال الفصام والمساومة المفروضة على المبادئ التي أحملها حيث لا خيار فإما العمل في هذه المؤسسات أو الموت جوعاً على قارعة البطالة، وشعرت من خلال انضمامي لفريق تلفزيون سوريا بالسعادة والأمل بالتغيير لأنه جاء اليوم الذي سأساهم فيه في بث ما يتناسب مع قناعاتي وأفكاري على الهواء بعيداً عن الرقابة والقمع، بعيداً عن المساومة على الحياة ولقمة العيش، وسيكون شكلاً من أشكال ممارسة الثورة بمبادئها الأولى يوم رفعت شعارات الحرية والكرامة والعدالة ووطن لكل مواطنيه.
كنا نسابق الزمن كي تكون الانطلاقة مع تاريخ انطلاقة الثورة، ولكي نكون على الموعد كان لا من بد أن نقوم ببث تجريبي، وتم ذلك بالفعل بتفاني المهندسين والفنيين.
كانت رحلة متخمة بالأمل وخوف من البدايات بدءاً من البحث عن المكان المناسب من بين عدة خيارات قادتنا شوارع إسطنبول إليها، ومن على أرصفة حفظت وقع أقدامنا المتعبة وصلنا إلى منطقة (صفاكوي)، بهرنا المكان بألوانه ومكاتبه وإمكانياته، وساقتنا الدراسة الفنية والمادية والمقارنات مع سبعة مواقع أخرى لأن يكون هو موقع تلفزيون سوريا بالرغم من أصوات وهدير طيران مطار أتاتورك التي تغلبنا عليها بالعزل الجيد للاستوديوهات وبعض التقنيات الفنية للميكروفونات، إلى أن تجاوزنا هذه المشكلة بشكل نهائي عندما انتقل المطار إلى المكان الجديد حيث مطار إسطنبول الحالي.
لم يكن البحث عن المكان هو الأصعب بل كان البحث عن الكادر الفني في بلد اللجوء كالبحث عن إبرة في كومة قش، ليس لقلة السوريين والعرب الموجودين في إسطنبول بل لخصوصية المهن المطلوبة وندرتها بين اللاجئين، عشرات السير الذاتية التي لا يربط الكثير منها بالمطلوب سوى حبها أن تكون جزءاً من المشروع ومساهمةً منها في مشروع يعارض النظام، وتم تصنيفها واختصارها بصعوبة للمقابلات التي نتج عنها الكادر الأساسي للقيام بالمهمة الأولى.
كانت المهمة الأصعب، بالنسبة لي، ولفريق الهندسة، والأكثر دقة هي اختيار الشركة التي ستنفذ المشروع تقنياً من حيث المواصفات والأسعار، والبداية بالتنفيذ.
كنا نسابق الزمن كي تكون الانطلاقة مع تاريخ انطلاقة الثورة، ولكي نكون على الموعد كان لا بد أن نقوم ببث تجريبي، وتم ذلك بالفعل بتفاني المهندسين والفنيين، بالرغم من تشابك الأعمال وضيق الوقت عن طريق فك سيارة نقل خارجي وتركيب أجهزتها في الاستوديو ريثما يكتمل تركيب أجهزتنا الخاصة.
ما زال السوريون يخوضون المعركة من أجل تحقيق أهدافهم بالرغم من تعرج المسالك ووعورة الطريق.
ربما تكون اللحظة الأكثر تأثيراً في حياتي المهنية تلك اللحظة التي أصبح التصور صورة، والأمل صوتاً، وأصبح الحلم حقيقة، وأصبح تلفزيون سوريا واقعاً. ففي مبنى المكاتب وحول شاشة عرض كبيرة وبحضور العاملين وكثير من الشخصيات المهتمة بهذا المشروع ومنهم الصحفي جمال خاشقجي، رحمه الله، بدأ العد التنازلي لانطلاقة تلفزيون سوريا 10-9-8……1 ومع ظهور أولى الألوان تعالت الأصوات بهجةً ونزلت الدموع فرحاً وتعانق الرفاق والأصدقاء تزامناً مع شعار( تلفزيون سوريا …حرية للأبد).
هذه اللحظة بقدر ما كانت لحظة فرح بالمولود الجديد بقدر ما كانت محملة بالتحديات التي كان همها الشاغل أن تبقى أمينة لمبادئ الثورة الأولى، وترسخ قيم الحرية والديمقراطية والعدالة التي مازال السوريون يخوضون المعركة من أجل تحقيقها بالرغم من تعرج المسالك ووعورة الطريق.
لم تكن تغطية المساحة البرامجية الأولى مهمة سهلة لتلفزيون يخط طريقه في البدايات ويصنع جمهوره من الصفر، فبعد الأخبار السورية الساخنة على رأس الساعة كان الأمل السوري حاضراً من خلال برنامج (همة قوية)، ويوميات الهم السوري بطريقة متفردة مع برنامج (ما تبقى)، ودهاليز السياسة مع برنامج (الصالون السياسي)، والكوميديا السوداء مع برنامج (نور خانم)، وعلى أمل اللقاء بالأحبة كان برنامج (لم الشمل)، ومن بين قضبان السجن وآلام المعتقلين نزف برنامج (يا حرية) حكايات الناجين من السجون، وبرامج أخرى.
وامتد الزمن وأصبح تلفزيون سوريا علامةً مميزة، وطالت ساعات البث وتغيرت الخريطة البرامجية بحثاً عن الجديد والمتميز وما يحاكي اللحظة الراهنة. ومازال البحث مستمراً لكي يخطو تلفزيون سوريا خطوته المنشودة مع الانطلاقة الجديدة، وكلنا أمل أن يكون مواكباً للحدث ورائداً في بث صوت السوريين وأملهم في الحرية والكرامة ودولة العدل والعدالة.