عندما تجف الكلمات وتتجمد الحروف أمام هول صور موت الفلسطيني في غزة، ودمه يستباح على أرصفة القهر في مخيمات الضفة، ويحترق أمام الكاميرات في خيام دير البلح وصرخاته ذيول نار محملة بأنفاسه الأخيرة، وآهاته بقايا لهيب امتشق روحه؛ فلا بد للتعبير عن ذلك من مراوغة اللغة وتهشيم المعتاد من معانيها وقلع حروفها من المألوف لإعادة صياغة الآه كي يسيل الورق دمعاً وتسيح ألوان اللوحة دماً يغطي مساحة الفضاء؛ ولأن الموت ليس شيئاً عارضاً ولا هو لحظة عابرة في الحياة بل مُحايث لها ومتلازم معها "فنحن لا نسأل هنا الموتَ عن لغته، بل نبحث معه عما فيه من طرائق لبناء الحياة".
في كتابه "صور موت الفلسطيني" يقتلعنا إسماعيل الناشف من روتين المحكي ورتابة المنطق ويعيد ترتيب القول لاوياً عنق اللغة كي تصرخ من الألم، وكاسراً المعنى المسترخي على دفة القاموس ليخلق مساحة للرؤيا تحاكي فضاءً تلبد باللامعقول، وتستفز زمناً لزجاً ملتصقاً بمرارة اللحظة؛ كي يعلن عن تاريخ موت الفلسطيني بوصفه "فقداناً مولداً" أنتجها الاحتلال الصهيوني الذي " يتسم بمنطق عمل شمولي حدّ المطلق. من هنا، فإن ممارسة موت الفلسطيني لم تُبقِ، حرفياً ومجازاً، في اللحظة التاريخية في عام 1948، فلسطينياً إلا قتلته مادياً بمستوى الجسد الإنتاجي، واجتماعياً بتفكيك لحمة زمانه بمكانه عن بكرة أبيها" وتنوعت أشكال الموت الفلسطيني على يد الاحتلال لكن " بقيت المجزرة الحد الفاصل الذي يعيد الإحداثيات الضابطة لعلاقاته مع الفلسطينيين إلى نكبويتها".
يكتب الناشف بلغة تُحسها بسهولة، وتغمرك ببساطة، وتستفز كامل مشاعرك كعاشقٍ في لحظة فقْد؛ لكنك تحاول مراراً وتجهد كي تفهمها فالموت عنده "نهايةً واحدة… الموت هو البدايات كلها"، و" يموت الفلسطيني ليحيا، ولن يحيا إلا بموته" ولأن الموت الفلسطيني أصبح عبئاً على اللغة العادية وخروجه عن المألوف كماً ونوعاً أصبح يستلزم شططاً يعيد ترتيب المعنى ليلامس الخيال ويخلق مفاهيم جديدة تقارب الجنون " فالموت بطريقة القتل ولادةٌ مقارنةً بالقتل الذي يؤدي إلى الموت"، ويفجر الكاتب المعنى ويجمع شطط الحدين بمفهوم "الضحية السيادية" ذلك المفهوم الذي لا يجد مسوغاته إلا في حالة موت الفلسطيني وانفلات اللغة من قواعدها حتى غموض البديهيات، ولأنه يكتب بهذه الطريقة يطلب من القارئ "الترجل عن أوليته في عملية القراءة لينشبك نداً لما هو موت، لا كحياة تقرأ" لأن صور موت الفلسطيني عنده ليست موتاً عادياً فروحه تسيل دمعةً دمعة في وداع حبيب ما زالت آخر انفاسه تلفح الوجوه وروحه تقطر نقطةً نقطه تحت هول الركام، وصوته يحترق وهو يستنجد ولا حياة لمن تنادي، ونظراته تتجمد في لحظة عجز أمام هول الكارثة، فصور موت الفلسطيني كمجموعة بشرية عَصِيتْ على النسيان هي انعكاس لصورة الوطن وهو يتشكل لحماً ودماً ليأخذ مكان القلب. ولكي يُعبر عن اللامنطق واللامعقول في أسطورة هذا الموت لشعب تقاسمته الأرض وشردته على حدود الكوكب كثف إسماعيل الناشف اللغة لينفذ إلى قلب المعنى بأقل الكلمات مستخدماً مصطلحات ومفاهيم التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع لكي يستنطق الكل التجريدي من فسيفساء صور موت الفلسطيني المشتتة؛ وذلك على مساحة كتاب لا يتجاوز مئة صفحة.
يربط الكاتب بين العودة والولادة والموت كحلم على قارعة الغياب في دورة هي أشبه بالمستحيل لأن " كل فعلِ قتلٍ منظم هو شكل لا يكتمل إلا من خلال تفعيل غير نظامي لعصارة الحياة، الولادة….. ذلك أن الولادة هي نصف الدائرة في شمولية الحياة التي تكتمل بالموت"؛ فحضور الموت الفلسطيني يعني تجدد إمكانية الولادة في أي لحظة وفي أي زمان لأنه يحرض الهوية لاستعادة مكوناتها ويجمع شمل الذات في كيانية متخيلة، وربما، ولأنها متخيلة، ستعاند فك الارتباط المسلط على الجماعة وتعيد الوحدة للجسد والفضاء والزمان.
تنقلب المعايير وربما الأولويات عند الناشف بين الحياة والموت ليتربع الموت منصة الرؤيا ويأخذ دور قصّاص الأثر لتَتَبّع شكل الحياة، والدليل على سيرورتها عبر زمن الإبادة الأكثر سوريالية وخاصة في ما شهده ويشهده الفلسطيني عبر محطات مقاومة الاحتلال حيث "يمكننا تتبع الممارسات المحددة للمقاومة كآليات عينية في إنتاج الفلسطيني لذاته الجماعية في مسارات تنبع من لحظة نكبة 1948 المستمرة في (الآن) والـ (هنا) الفلسطينيين" ويعتبر الكاتب أن " المقاومة شكل تاريخي محدد من أشكال العودة المتعددة، وما لا شك فيه أنها استطاعت أن تنحت، ولا تزال، تشكيلة من الولادات الفلسطينية ذات تجليات وملامح مميزة. فهي تسعى إلى خوض الصراع على تحرير إدارة شؤون الموت الفلسطينية من قبضة الاحتكار الصهيوني عليها، لتتمكن من تفكيك الفقدان الموَلِّد وإيجاد منظومة موت/ولادة أخرى" وهكذا يصبح الإمساك بإدارة الموت الفلسطيني هو المعادل العيني لحياة متحررة من سطوة الاحتلال في لحظة "العودة بوصفها قطباً
تدور حوله آليات شتى من إنتاج المعاني تُشكِّل مجتمِعةً ما هو فلسطيني".
في طريق سِفر العودة كان لا بد للفلسطيني أن يخوض معترك السياسة التي لم تكن أكثر من محطات في التيه الفلسطيني وهو يبحث عن ذاته لكي يستعيد إدارة الموت الفلسطيني التي سُلبت منذ لحظة النكبة وأن يعلن عن ولادته من جديد كلما استفحل الموت " فعلى امتداد الحقبة الوطنية الفلسطينية، كان الهاجس الأساس للعاملين فيها وعليها قبول إعلانهم بأنهم لم يموتوا"، فها هو "غسان كنفاني يحمل أدبه شتاتاً متفرقاً إلى شفا جماعية تنهض بفعلها في التاريخ"، وأميل حبيبي "يصوغ نوعاً من أكروباتيكا التواطؤ مع القائم، لكنها تعرّف الفلسطينيين بوصفهم جماعة حضور"، أما محمود درويش فـ"يؤسس لكرسيه وينشدنا مزامير حضور شقي مشاكس بفرحه السائل من الموت والغياب" وسليمان منصور الذي يرسمنا " كأننا في حبور تجربة أطنان من ألم سلاسل السجن المنغرسة في الأزناد والصدور العارية والظهور المسلوخة بلوعة لقاء الأرض من جديد" ولم ينس الكاتب تثبيت حضور روز ماري صايغ، وصبري جريس، وإيليا زريق، وهم يؤكدون على لحظات استعادة الذات المحملة بالهم الوطني. كما أنه لم ينس تضحيات الأسرى القابعين في سجون الاحتلال حيث اعتبر أن الاعتقال السياسي هو موت اجتماعي للفرد وجماعته وأن الإضراب عن الطعام داخل السجن "في جانب منه على الأقل، انتزاع مباشر لإدارة شؤون الموت الجماعي الفلسطيني" من يد السجان.
يعتبر الكاتب أنه بعد عام 1982 دخلت القضية الفلسطينية مخاضاً جديداً "تحمل عدداً من الخيوط الناسجة لطبوغرافيا خريطة الموت الجماعي الفلسطيني" من خلال انتقال المقاومة إلى الضفة وغزة وصولاً إلى اتفاق أوسلو الذي لم يغب عن رادار الموت الفلسطيني إذ لم يكن سوى " ملف في إدارة شؤون الموت الجماعي الفلسطيني بهدف إزالة هذه الجماعية من على مسرح الفعل التاريخي" وأصبح "تقنية في ممارسة الموت الجماعي على الفلسطينيين".
ويتجاوز الناشف تراتبية الزمن في لحظة الكتابة ويرمي بالمعنى إلى اللحظة الراهنة "تتسم المرحلة الأخيرة، أي الراهنة، من خريطة الموت الفلسطينية بأنها مشبعة ومملوءة بصنوف الموت وأطيافه، ومن فرط تخمتها موتاً، فهي إما أن تموت بكثافة الاستشهادي، وإما أن تصوم عن الموت بحياة أقل ما يمكن وصفها بأنها لعبة غير جادة في حظيرة العيد".
النكبة ممتدة وترسم خريطة الموت الفلسطيني عبر مراحله التاريخية التي يحددها الناشف "بثلاثة أطوار متعاقبة ومتزامنة في آن؛ طور الصدمة والبحث، والطور الوطني، وطور المبدأ الشمولي."
وكل طور من هذه الأطوار أفرز شخصية الموت الفلسطينية، "فمرحلة الصدمة أفرزت شخصية الضحية، بينما شكّل الطور الوطني شخصية الشهيد، في حين انبثقت من الطور الشمولي شخصية الاستشهادي".
وكل شكل من هذه الأشكال هو هيئة حضور اجتماعية تاريخية فاعلة، وأفرزت لغة بلهجات خاصة بها وهي لهجة الضحية ولهجة الشهيد ولهجة الاستشهادي… وأن هذه اللغة تقوم في الأساس على توليد العلاقة بين جسد المأساة الفلسطينية وطرائق توليد مسارات العودة فلغة النظام الاجتماعي الفلسطيني تتسم بكونها تجسر الهوة بين جسد المأساة الميت ومسارات العودة الممكنة لإحياء هذا الجسد، وهذا مركّب مفصلي في إعادة إنتاج الجماعة الفلسطينية لذاتها".
إن كتاب "صور موت الفلسطيني" هو بحث عن الذات الفلسطينية على أطراف حلم ما زال ينزف أملاً على طريق الخلاص، ولأن الفلسطينيين مصابون بلوثة الحرية لم يرحلوا على أطراف أصابعهم خوفاً من أن تستيقظ آلة الموت، بل صرخوا بوجهه بصوتٍ يشق الروح والريح كي يختاروا مولدهم وإدارة شؤون موتهم.