أمام حجم القتل والدمار الذي مارسته إسرائيل في غزة وسعار الانتقام الملوث بوحشية غير مسبوقة والإيغال بالقتل لمجرد القتل، والتباهي أمام الكاميرات بموت الأطفال والشيوخ والنساء، يتساءل المرء عن طبيعة هؤلاء البشر والبيئة والتربية والأفكار التي صاغت معتقداتهم و"أخلاقهم" التي بررت لهم ممارسة هذا النوع من الجريمة، وجعلتهم يستسيغون الإبادة الجماعية لشعب أعزل. وأمام هول المناظر القادمة من غزة تتصاعد الأسئلة حتى تصل لنهايات ربما لا يجيزها المنطق وتخرج سائليها عن طورهم وتجعلهم أمام مراجعة حقيقية لآرائهم السياسية التي تغنوا بتوازنها وعقلانيتها، مثل: هل يمكن العيش مع هؤلاء القتلة فوق أرض واحدة؟ أو هل يمكن التعايش معهم حتى كجيران؟
أسئلة كثيرة تقود إلى السؤال الرئيسي هل إسرائيل دولة أصلاً أم عصابة ومافيا وقبيلة متوحشة؟ وجدت كل آلات الدمار الفتاكة بين يديها فأخذت تحرث بها أعمار البشر شمالاً ويميناً، متفلتةً من كل القوانين الإنسانية والأخلاقية ولم تعر بالاً لكل المواثيق والمعاهدات الدولية. سبقتني إلى هذا السؤال الكاتبة الإسرائيلية يولي تمير في صحيفة هآرتس بتاريخ 6/10/2020 عندما قالت: “يتساءل الكثيرون إذا كانت إسرائيل هي دولة ديمقراطية أو يهودية وديمقراطية، أو ربما أن الديمقراطية تآكلت وإسرائيل تحولت إلى دولة استبدادية؟ أنا أريد طرح سؤال أبسط بكثير: هل إسرائيل هي دولة؟“ وتوصلت الكاتبة بعدما قارنت إسرائيل مع تعريف الدولة الرائج الذي يقول إن "الدولة هي تنظيم سياسي مع سيادة يسيطر على منطقة جغرافية محددة، وسكانها خاضعون لمصدر سلطات مشترك وهم محكومون من قبل حكومة مستقلة ولديها حق في إقامة علاقات دبلوماسية أو إعلان الحرب على دول سيادية أخرى". وتوصلت الكاتبة بعد مناقشة هذا التعريف إلى أن إسرائيل دولة "مشروطة" يجب أن تستكمل كثيرا من مميزات الدولة حتى يمكن أن نطلق عليها هذه التسمية.
وللإجابة عن هذا السؤال بطريقة منهجية بعيدة عن العواطف وتداعيات اللحظة الراهنة عدت إلى كتاب عزمي بشارة: (مسألة الدولة: أطروحة في الفلسفة والنظرية والسياقات) والذي يعتبر أن أي كيان فيه حاكمون ومحكومون هو دولة، ربما تكون فاشلة، استبدادية، ناقصة. ولكنها ليست الدولة "بالـ التعريف" كمفهوم وهذا ما فرض السؤال التالي: هل إسرائيل دولة حديثة بناءً على مفهوم الدولة؟ ولأن الكتاب يرى "أن فهم الظواهر الاجتماعية المركبة جداً، مثل الدولة، انطلاقاً من مبدأ واحد، مهما كان عقلانيا أو أخلاقياً، يمكن أن يتحول إلى أيديولوجيا. ومن هنا تأتي أهمية الرؤية الشاملة وعدم الاكتفاء بالتعريفات المختصرة لمثل هذه الظواهر المركبة". لذلك سأعتمد من هذا الكتاب النقاط التي أعتقد أنها تمس جوهر الموضوع الذي أناقشه وليس التعريفات المختصرة أو الرائجة لأبيّن ماهية هذا الكيان وهل يرتقي إلى مستوى دولة حديثة؟
لا تعترف إسرائيل بحدود محددة لفضائها الإقليمي وتعتبر أن كل يهودي فوق الكرة الأرضية هو عضو في هذا الكيان إذا رغب
يقول بشارة "تسري سيادة الدولة على أرض محددة بحدود سياسية (إقليم ترابي) وقاطني الأرض؛ فالسيادة الإقليمية الترابية من مميزاتها الرئيسية. [……] الدولة كيان ثابت مكانياً، والمجتمعات قد تختلط أو تغيب معالم الحدود فيما بينها، لكن الدولة الترابية تبقى قائمة،… البعد الإقليمي الترابي هو أحد مركبي الدولة: الأرض والسكان" وهذا التحديد البسيط والأولي ينزع عن هذا الكيان إحدى ميزات الدولة حيث لا تعترف إسرائيل بحدود محددة لفضائها الإقليمي وتعتبر أن كل يهودي فوق الكرة الأرضية هو عضو في هذا الكيان إذا رغب. وهنا يؤكد بشارة على أنه "تختلط الإثنيات والملل والقوميات، وتتجاوز حدود الدولة، هذا صحيح، لكن إذا عرّفنا الشعب بمجموع المواطنين، يكون محدَّداً بالدولة ومحدِّداً لها". ويؤكد بشارة على أن "سيادة الدولة عموماً تعني استقلالية منظومتها القانونية وحصرية ممارسة سلطاتها في إقليم ترابي محدد على سكانه". إذاً إقليم ترابي محدد ومرسوم وسكانه سكان هذا الإقليم وليس سكان الكرة الأرضية. وهذا ما يسقط عنصراً مهماً من مميزات الدولة في إسرائيل يتبعه سقوط ميزة أخرى من ميزات الدولة وهو الممارسة الشرعية للعنف، "فثمة أمور ثابتة، في رأيي، تنطبق على جميع حالات الدولة الحديثة، وهي وجود سيادة على الأرض والسكان داخل حدود ترابية. وتتجلى هذه السيادة في حقها الحصري في التشريع واحتكار الممارسة الشرعية للعنف"، وإذا تجاوزنا مسألة الأرض المحددة والسكان وهما العنصران غير الواضحين أو غير المحددين في إسرائيل فإن مسألة احتكار العنف المشار إليها كأحد أركان الدولة أصبح مشكوكاً بها في إسرائيل وخاصة في الفترة الأخيرة، عندما شاع وبكثرة توزيع السلاح على المستوطنين بلا ضوابط، وتركهم يتغولون في الدم الفلسطيني ويطلقون النار بلا رادع قانوني وبلا تشريع واضح يقونن صلاحياتهم ويشرع ممارسة العنف ويجعله محتكراً بيد السلطات. وهو ما يخالف، ويضع إشارة استفهام كبيرة على أحد أهم شروط الدولة من حيث إنها "سلطة تحتكر وسائل العنف، منصوص على صلاحياتها وحدود هذه الصلاحيات بالقانون، ولديها القدرة على ممارسة هذا الاحتكار على إقليم وسكانه".
وإذا ما عدنا إلى بدايات نظرية الدولة التي يحفر خلفها بشارة كي يصل إلى مفهوم الدولة، كان تحرير السلطة الدنيوية من السلطة الدينية هو خطوة مهمة في الطريق إلى الدولة و"إن قصتها هي قصة العلمنة وتمايز المجال السياسي من مجالات أخرى، مثل الدين والأخلاق" وهو ما نجد عكسه في إسرائيل وهي تعاند حركة تاريخ مفهوم الدولة وتطوره بمحاولتها الشرسة الآن، وفي القرن الواحد والعشرين، لربط الدين بالدولة وجعلها دولة اليهود من خلال تطبيق قانون الدولة القومية لليهود في إسرائيل، عسى أن يضفي البعد القومي سنداً لمفهوم الدولة وهنا يمكن القول إن القومية التي استند إليها هذا التعبير وربطها بالدولة ليست مكوناً ضرورياً من مكونات الدولة حيث يؤكد بشارة "أن مفهوم المواطنة مكون ضروري من مكونات مفهوم الدولة المعاصرة، أما القومية، فلا".
وإذا كانت "الدولة […] كيانا حديثا، وأجلى تجلياته هي المواطنة" فهل المواطنة وتعريفها تتطابق مع شكلها وبنيتها في إسرائيل في ظل التمييز الذي يمارس على الفلسطينيين وخاصة إذا عرفنا أنه "إذا كانت المواطنة بحقوقها وواجباتها مترتبة على عضوية في جماعة من ضمن جماعات قائمة فيها، فسنكون أمام دولة غير مكتملة التطور" وهذا بالضبط ما يسمى المواطنة بإسرائيل من كونها مرتبطة بجماعة محددة، وهي اليهود، ويؤكد بشارة على عدم إمكانية تأسيس الدولة على فكرة المواطنة، (القائمة بهذه الطريقة) كونها قامت على التطابق بين الهوية الدينية والقومية، وبالتالي كانت المواطنة مشتقّة من الانتماء للجماعة الدينية، وهذا ما يحصل في إسرائيل الذي أدى فيه نظام المواطنة المزدوج والتفريق بين الجنسية والمواطنة إلى وضع الفلسطينيين كمواطنين من الدرجة الثانية لأنهم ليسوا يهوداً ولا ينتمون إلى هذه الجماعة التي تسمى الدولة باسمهم، والفلسطينيون في هذه الحالة آخر منبوذ يجب السيطرة عليه وليس حكمه ولذلك لا يدخل ضمن العلاقة الضامنة للشراكة في الدولة بين الحاكم والمحكوم التي تشكل الفضاء للمواطنة العضوية في الدولة والمساواة القانونية في المكانة.
وهذا يقودنا للحديث عن الجماعات الدينية وعلى رأسها الحريديم والتي تشكل 13.3% من عدد السكان والتي تعتبر بيضة القبان في كل الانتخابات والتحالفات داخل إسرائيل والتي هددت في الفترة الأخيرة أنه إذا تم استدعاء أعضائها إلى الخدمة الإلزامية فسوف تغادر إسرائيل، وهذا التهديد بحد ذاته يحمل في طياته عدم الانتماء للأرض ولا للجغرافيا ولا للدولة، بل الانتماء للدين وما يترتب على هذا الانتماء من مصالح لهذه الجماعة بغض النظر عن الفضاء المشترك والعلاقة التي تحكم الحاكمين بالمحكومين في الدولة.
إن تحويل الجماعات إلى كيانات شبيهة بالمواطنين يحولها من جماعات تمارس وظائف اجتماعية حيوية ودوراً وسيطاً وقائياً محتملاً بين الدولة والفرد، إلى عائق يحول بين الفرد وممارسة مواطنته
وفي هذا السياق يؤكد بشارة على وضع الجماعات داخل الدولة فيقول:
"صحيح أن الجماعات سابقة تاريخياً على الدولة، لكنها في الدول فحسب تصبح كيانات قانونية. والمهم أنها لم تعد في الدولة مؤلفة من أتباع أو مجرد أعضاء، بل من مواطنين لديهم حقوق وواجبات تجاه الدولة. المواطن هو الإنسان الفرد وليس الجماعة التي قد تعد شخصية معنوية لها "حقوقها"، لكن هذه الحقوق ليست أولية مثل حقوق المواطن، بل هي مشتقة من حق المواطنين الأفراد في الانتماء إلى جماعة، والاتحاد، وإقامة رابط، إن تحويل الجماعات إلى كيانات شبيهة بالمواطنين يحولها من جماعات تمارس وظائف اجتماعية حيوية ودوراً وسيطاً وقائياً محتملاً بين الدولة والفرد، إلى عائق يحول بين الفرد وممارسة مواطنته". وهذا بالضبط ما تقوم به الجماعات الدينية داخل إسرائيل وهو ما يجعلها في قصور عن حالة الدولة الحديثة لأنها تجعل من تلك الجماعات "مواطنين" لهم حقوق وليس عليهم واجبات مما يقزم مفهوم المواطنة ويشوه ذلك الفضاء المشترك الذي يحدد العلاقة بين الحاكمين والمحكومين وانتمائهم إلى دولة. فلا دولة بلا مواطنين. وأن تكون مواطناً يعني أن تكون تحت سقف هذا التعريف "المواطنة بوصفها تجسيداً للسيادة في مركب من الحقوق والواجبات". و"الحقوق والواجبات عامة من حيث السريان على المواطنين، ونسبية في التطبيق على الأفراد"، "وحين يحرم المواطن من هذه الحقوق جميعها (الحقوق السياسية والمدنية) تصبح المواطنة مجرد جنسية ولقب. وتؤكد التجربة أن الحقوق الاجتماعية تبقى مهددة في غياب الحقوق السياسية والحريات، وأن الأخيرة طريق أوثق إلى الأولى" وهذا ما يعانيه الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1948 وهو ما بيّنه بصورة جلية العدوان الأخير على غزة حيث كممت الأفواه وحظرت الآراء في وسائل التواصل الاجتماعي وكل وسائل التعبير المتاحة أمام الفلسطينيين في الداخل، أما الآخرون فإنهم يجولون في الشوارع والساحات، وهذا ما يجعل إسرائيل تخسر ميزة أخرى من ميزات الدولة الحديثة كونها لا تساوي بين "مواطنيها" تحت قانون واحد، مما يشوه مفهوم المواطنة وينتقص منه، وهو ما ينعكس خسارة جديدة لتلك الدعاية بأنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط لأنه "ليست الديمقراطية شرطاً للمواطنة؛ فالمواطنة هي وضعية الفرد القانونية في الدولة الحديثة، لكن المواطنة شرط الديمقراطية". وهذا يعني بالمحصلة مواطنة منقوصة تساوي ديمقراطية مشوهه.
ومن شروط أو ميزات الدولة الحديثة هي السيادة والتي خسرتها إسرائيل بالمعنيين الداخلي من حيث إنها لم تلبِّ شروط المواطنة لأن "المواطنة هي البعد الآخر للسيادة" والنقص الثاني أبرزه للعيان العدوان الأخير على غزة وهو عدم قدرتها على خوض معركتها منفردة مما جعلها تعتمد بشكل كامل على أميركا من الناحية العسكرية والاقتصادية ومن الناحية الدولية بحماية الفيتو الأميركي لها في مجلس الأمن مما جعل لأميركا دوراً في التأثير على القرارات السيادية الإسرائيلية واقتطاع جزء من الحق الحصري لسيادة إسرائيل داخل "حدودها" قبلت ذلك إسرائيل أم لم تقبل.
ويمكن في النهاية القول إن إسرائيل وضمن كل المعطيات دولة ناقصة بالمعنى الرائج أو القديم للدولة ولكنها "حُكماً" ليست دولة حديثة لأنه "يكفي في بعض الحالات أن يتوافر الكيان السياسي على جزء من عناصر تعريف الدولة الحديثة المتكامل كي تسمى دولة. لكن غياب أحد العناصر الضرورية يعطل عمل الدولة ويفسده، ويشوه بنيتها". إن غياب الجزء الأكبر من مميزات الدولة الحديثة عن إسرائيل بالإضافة لما شاهدناه ونشاهده اليوم من جرائمها التي ترتكب في حق الإنسانية في غزة يجعلها تكاد تكون متطابقة مع مفهوم شميت، الذي انخرط في الحزب النازي، والذي عرج عليه بشارة خلال تتبعه مسار مفهوم الدولة، حيث يعتبر شميت "المجال السياسي … هو أساس الدولة، وهو يقوم على تحديد العدو والصديق، وهذا التحديد متعلق بما يسميه التهديد الوجودي لنمط الحياة، ومن ثم الاستعداد لخوض الحرب، وكراهية العدو لدرجة الاستعداد للقتل”. وحتى من دون وجود حق مبرر ومن "دون الحاجة إلى تعليلات مادية أو جوهرية متعلقة بالعدالة" في شن مثل هذه الحرب. وربما يمكن تفسير دولة إسرائيل كما فسرها تشالرز تيلي الذي يأخذه بشارة كأحد الأمثلة لتفسير نشوء الدولة القديمة حيث يرى تيلي "أن الحرب والعنف أساس الدولة، وذلك ليس بنيوياً فحسب، بل تاريخياً أيضاً، ويميل حتى إلى قبول فكرة مقارنتها بالجريمة المنظمة،… وشبه ذلك بالحماية، أو "الخوّة" أي تحصيل المال في مقابل حماية من تفرض عليه "الحماية" من منافسين أو معتدين أو سارقين". وربما من الأجدر القول إن إسرائيل لم ترتق إلى الدولة التي تحصل الخوّة بل الأداة التي تستخدمها أميركا لتحصيل الخوّة في منطقة الشرق الأوسط.