تحت وطأة زيادة أعداد اللاجئين في السنوات الأخيرة، تجد ألمانيا نفسها في قلب نقاش حاد حول كيفية التعامل مع تحديات الهجرة واللجوء. تتصاعد الدعوات السياسية لتشديد القوانين المتعلقة باللجوء في محاولة للسيطرة على تدفق المهاجرين، مع تصاعد الضغوط على الحكومة الاتحادية لموازنة الاحتياجات الإنسانية مع الضغوط الداخلية في البلاد.
في عامي 2022 و2023، قدمت ألمانيا الحماية لأعداد من اللاجئين فاقت أي فترة أخرى في تاريخها منذ تأسيس الجمهورية الألمانية عام 1949. يأتي هذا في ظل الحروب المستمرة في أوكرانيا وسوريا، والتي دفعت مئات الآلاف من الأشخاص إلى البحث عن ملاذ آمن في دول الاتحاد الأوروبي.
على رأس هذه الأزمات تأتي الحرب في أوكرانيا، التي أدت إلى نزوح أعداد كبيرة من الأوكرانيين إلى ألمانيا. هؤلاء الأفراد يحصلون على حماية مباشرة من دون الحاجة إلى تقديم طلبات لجوء رسمية، بموجب قوانين الاتحاد الأوروبي الخاصة باللاجئين الأوكرانيين. كما استمر تدفق طالبي اللجوء من سوريا وأفغانستان، الذين يعبرون الحدود الأوروبية عبر تركيا، حيث يواجهون أوضاعاً خطرة في بلدانهم الأصلية تستدعي منحهم الحماية في ألمانيا.
وأكد كريتشمر في مقابلة مع قناة ARD أن ألمانيا يجب أن تستهدف استيعاب "عدد منخفض يصل إلى عشرات الآلاف سنوياً"، مشيراً إلى أن بلاده استقبلت قرابة 1.2 مليون شخص من أوكرانيا، بالإضافة إلى 200 ألف طالب لجوء هذا العام.
وأوضح كريتشمر أن الحد الأقصى المقترح ليس "رقماً ثابتاً"، فقد اقترح في السابق رقماً تقريبياً قدره 30 ألف شخص سنوياً. وأكد على ضرورة أن تكون ألمانيا هي التي تحدد من يحق له الدخول إلى أراضيها بناءً على قدرتها على تقديم الدعم الكافي.
ورغم دعم زملائه في التحالف اليميني لمقترحه، فإن سياسيين من الحزب الديمقراطي الاجتماعي (SPD) يعارضون بشدة فكرة الحد الأقصى. حيث وصف رئيس وزراء ولاية نيدرزكسن، شتيفان فايل، هذه المطالب بأنها "وهمية"، مشيراً إلى أن حق اللجوء للاجئين السياسيين هو جزء أساسي من الدستور الألماني، وأن تنفيذ اقتراح كريتشمر سيتطلب انسحاب ألمانيا من الاتفاقيات الدولية مثل اتفاقية اللاجئين الأوروبية، وهو ما يعتبره "الطريق الخطأ".
في سياق متصل، دعا ماركوس زودر، رئيس وزراء ولاية بافاريا، إلى "تحول حقيقي في سياسة الهجرة"، محذراً من أن تجاهل مطالب الشعب يقوي الأطراف المتطرفة ويضعف الديمقراطية.
انتقادات لمقترحات الاتحاد
تعرضت مطالب الاتحاد بتركيز الحوار حول الحد الأقصى للهجرة لانتقادات من بعض السياسيين في الحزب الديمقراطي الاجتماعي. حيث اعتبرت رئيسة وزراء ولاية زارلاند، أنكه ريهلينغر، أن "الحد الأقصى للهجرة لا يقدم حلاً شاملاً لمشكلات ألمانيا"، مشيرة إلى أن الاتحاد يستخدم هذه القضية كحل شامل لكل شيء، من الاقتصاد إلى الأمن.
وفي سياق متصل، رفض عمدة بريمن، أندرياس بوفنشولت، اقتراح الاتحاد بإعادة المهاجرين عند الحدود الألمانية، معتبراً أن ذلك سيؤدي إلى انهيار التعاون الأوروبي، حيث إن حل المشكلات على حساب دول أخرى ليس حلاً مستداماً.
من جهة أخرى، دعا رئيس وزراء ولاية هيسن، بوريس راين، إلى ترحيل الأشخاص الذين ارتكبوا جرائم إلى سوريا وأفغانستان، بالإضافة إلى اعتقال من يجب عليهم مغادرة البلاد ولم يتمكنوا من ذلك.
ضغط مالي على البلديات
تظل مسألة الهجرة من أهم المواضيع المطروحة في الاجتماعات السنوية، خاصة بعد أن اتفقت الحكومة الاتحادية والولايات في العام الماضي على نظام جديد لتمويل تكاليف اللاجئين. بدلاً من تقديم مبلغ ثابت يبلغ نحو 3.7 مليارات يورو سنوياً، تدفع الحكومة الآن مبلغاً سنوياً قدره 7500 يورو لكل طالب لجوء. ومع ذلك، لا يزال الخلاف حول هذا النظام قائماً.
من جهة أخرى، طالب رئيس وزراء ولاية راينلاند بفالز، ألكسندر شويتزر، بتقديم مزيد من الأموال للبلديات لمساعدتها على تحمل تكاليف استضافة اللاجئين، مشيراً إلى أن الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي يتطلب دعماً مالياً كافياً.
إلى جانب قضية الهجرة، تواجه البلديات الألمانية تحديات مالية كبيرة. كثير من المدن والبلديات تشتكي من عدم كفاية التمويل الذي تقدمه الحكومة الاتحادية لتغطية تكاليف استضافة اللاجئين والخدمات العامة الأخرى. وفي مسح أجراه اتحاد المدن والبلديات الألماني، اعتبرت 348 بلدية أن وضعها المالي الحالي سيئ. يُطالب اتحاد البلديات بتوسيع نطاق المساعدات الحكومية لتشمل حتى اللاجئين الذين رُفضت طلباتهم ولكن لا يزالون يعيشون في ألمانيا.
كما يواجه النظام المالي البلدي ضغوطاً أخرى، مثل التكاليف المتزايدة لخدمات الرعاية النهارية للأطفال. وأشار رئيس اتحاد البلديات في شمال الراين-وستفاليا إلى أن البلديات سجلت عجزاً مالياً لأول مرة منذ عام 2011.
اقتراحات لتعديل الدستور
مع تزايد الضغط على النظام الإداري والخدمات العامة، تصاعدت دعوات من قبل بعض السياسيين الألمان، مثل رئيس وزراء ولاية ساكسونيا مايكل كريتشمر، لتعديل الدستور الألماني بهدف تقليص حقوق اللاجئين. يقترح كريتشمر ما يسميه "سلام اللجوء"، وهو تعديل للحق الدستوري في اللجوء بهدف الحد من تدفق المهاجرين.
ومع ذلك، يعارض هذا النهج العديد من الخبراء، من بينهم جيرالد كناوس، عالم الاجتماع وخبير الهجرة، الذي يعتبر أن تعديل الدستور لن يحل المشكلة.
ويشير كناوس إلى أن قوانين اللجوء محمية بموجب القوانين الأوروبية، وأن تعديل الدستور الألماني وحده لن يغير شيئاً في الواقع من دون تغييرات جوهرية في القوانين الأوروبية والدولية المتعلقة باللاجئين.
علاوة على ذلك، يشير إلى أن مبدأ الكرامة الإنسانية يمنع إعادة الأشخاص إلى بلدان مثل سوريا، حيث قد يتعرضون للتعذيب أو الانتهاكات.
حلول الدول الثالثة الآمنة
في المقابل، يقترح كناوس حلاً بديلاً يتمثل في "الحلول مع الدول الثالثة الآمنة"، وهي سياسة سبق أن تم تطبيقها بنجاح بعد اتفاقية 2016 بين الاتحاد الأوروبي وتركيا. هذا الاتفاق أسفر عن تقليص كبير في أعداد اللاجئين الذين يصلون إلى أوروبا عبر البحر المتوسط. الفكرة تقوم على إرسال طالبي اللجوء إلى دول خارج الاتحاد الأوروبي لتتم معالجة طلباتهم هناك. يرى كناوس أن هذا النموذج يمكن تطبيقه مجدداً للتخفيف من أزمة الهجرة، لكنه يحتاج إلى تعديل بعض القوانين الأوروبية لجعله قانونياً بالكامل.
الترحيل والرفض
جانب آخر من النقاش يتعلق بكيفية التعامل مع طالبي اللجوء الذين تم رفض طلباتهم. تعاني ألمانيا، مثل معظم دول أوروبا، من صعوبات كبيرة في ترحيل اللاجئين المرفوضين بسبب عدم تعاون بعض الدول المصدرة للمهاجرين، بالإضافة إلى العقبات القانونية واللوجستية المتعلقة بترحيل هؤلاء الأشخاص.
مع ذلك، هناك جهود لتركيز الترحيل على الأشخاص الذين يمثلون تهديدات أمنية أو ارتكبوا جرائم خطيرة. ومع أن هذه الجهود تُعتبر منطقية من الناحية الأمنية، فإن أعداد الأشخاص الذين يتم ترحيلهم تبقى منخفضة مقارنة بالأعداد الإجمالية للاجئين.
تأثيرات محتملة على اللاجئين السوريين
اللاجئون السوريون المقيمون في ألمانيا أو الذين يفكرون في طلب اللجوء قد يجدون أنفسهم متأثرين بشدة بهذه التغييرات المقترحة. إذا تم تنفيذ سياسة الدول الثالثة الآمنة، فقد يعني ذلك معالجة طلباتهم خارج الاتحاد الأوروبي، وربما في دول ليست لديها معايير الحماية والحقوق نفسها كما في ألمانيا.
كما أن أي تعديلات في الدستور أو سياسات اللجوء قد تزيد من تعقيد الحصول على اللجوء أو قد تؤدي إلى تسريع عمليات الترحيل للأشخاص الذين لا يُعتبرون مستحقين للحماية وفقاً للقوانين الجديدة.
تحديات مستقبلية للحكومة الألمانية
مع استمرار النقاش حول سياسات الهجرة، تواجه الحكومة الألمانية تحديات معقدة تتمثل في إيجاد حلول تحترم القوانين الدولية لحقوق الإنسان، وتلبية مطالب الأحزاب السياسية الداعية لتشديد سياسات الهجرة. يتفق العديد من الخبراء على أن الحل يتطلب تعاوناً أوروبياً ودولياً، جنباً إلى جنب مع تحسين السياسات الداخلية في ألمانيا لتجنب تفاقم أزمة اللجوء.