في مثل هذه الأيام من كل سنة يتساءل عدد من المثقفين العرب، بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، لماذا لم تظهر فلسفة عربية حديثة مثلما ظهرت لدى الشعوب الأخرى، وعن وجود فلاسفة عرب نفخر بهم، يعبرون عن رؤيتهم حول هذه الحياة والوجود، وتنتهي غالبية تلك التساؤلات إما إلى وجود عقم عربي يمنع ظهور الفلسفة، أو إلى وضع الحق على الفلسفة التي لم تقم بواجبها وتثبت وجودها. ويبدأ يعمل عداد الشروط الواجب توفرها لكي يمكن للفلسفة أن تقوم بدورها، والظروف المناسبة للفيلسوف لكي يتفلسف.
هذا المقال هو مجرد تأمل في أوضاع الفلسفة والفلاسفة في العالم العربي اليوم، وهل المشكلة في الفلسفة أم في التصورات التي يُفكر بالفلسفة من خلالها. ولماذا كل هذه الشكوى على الرغم من أن الأصل في الفلسفة أنها فكر يظهر في زمن الأزمات وليست تفكيرا مثاليا كما يظن بعض دارسيها.
في البداية لا بد من التذكير أن الأصل في الفلسفة أنها تفكير في المشكلة الكبرى التي تشغل بال العصر الذي تعيش فيه. ولمّا كان صراع الإنسان الدائم من أجل الحصول على حريته والعيش بكرامة أساس كل الصراعات، منذ فجر التاريخ، فإن أي فلسفة هي في حقيقتها جزء لا يتجزأ من ذلك الصراع. وعلى ذلك يعد كل شخص يدخل حلبة هذا الصراع ويركز تفكيره وتأملاته في هذه أحباله هو فيلسوف. فما الفلسفة كما تقول حنا أرندت سوى تفكير في مشاكل الناس السياسية، وما السياسة سوى السعي للحرية.
وبهذا المعنى فإن لدى العرب عدد كبير من الفلاسفة، بل إن كل عربي خرج في انتفاضات الحرية العربية يريد الحرية لنفسه ومجتمعه هو في الأساس يؤمن بالحرية، وبأن عليه أن يسعى إليها، مثله مثل سقراط الذي تجرع السم من أجلها، وابن رشد الذي عاش مشردا من أجلها، فهو يقف في الصف نفسه، ويواجه الظروف والمصاعب ذاتها، وإن اختلف العصر.
الفلسفة هي صراع مع الظلم والتسلط في مجتمع بعينه. وهذا يعني أنه من العبث البحث عن الفلسفة الحقيقية خارج المحلي وأزماته
يضاف إلى ذلك أن الفلسفة منذ أيام اليونان إلى اليوم ما هي إلا تأمل كلي بقضايا محلية. فابن رشد عاش مدافعا عن حرية التفسير في وجه فقهاء السلاطين في الأندلس، وعاش مشردا بسبب ذلك، وجون لوك فكر في الحكم الذي يناسب بريطانيا في عصره وعاش في المنفى بسبب ذلك، ولا نكاد نعثر على فيلسوف عربي حقيقي إلا وكانت له تجربة من هذا القبيل. وما ذلك إلا لأن الفلسفة هي صراع مع الظلم والتسلط في مجتمع بعينه. وهذا يعني أنه من العبث البحث عن الفلسفة الحقيقية خارج المحلي وأزماته. ولا يعتقد أحد أن فلسفات أرسطو وهيجل وهوبز واسبينوزا وغيرهم يمكن فهمها خارج سياقها المحلي/ القومي. ولذلك فإن الفلسفة في العالم العربي لا يمكن إلا أن تكون عربية سواء في الأزمة التي تتناولها أو الهموم التي تتفاعل معها، ولا معنى للتساؤل عن وجود فلسفة عربية لأن الفلسفة في العالم العربي لا يمكن إلا أن تكون عربية، وما عدا ذلك ليس فلسفة.
ولذلك يجد المتابع للفلسفة العربية اليوم أنها تركز جهودها على الكشف عن الطرق المزيفة التي تسعى الأنظمة المتسلطة من خلالها إلى إخفاء حاجة العربي للحرية والاعتراف والكرامة، والتمويه على أسباب غياب راحة باله وتراجع حقوقه العامة. ولعل من أشهر الدوامات التي تسعى تلك الأنظمة لتتويه العربي بداخلها هناك دوامة أن الإسلام لا يناسب الديمقراطية، أو أن المجتمع العربي غير مستعد للحرية بعد، أو أن شعوب الشرق لا تحكم إلا بالقوة، أو أننا علينا أن نستكمل تحرير الأراضي العربية ثم نلتفت بعد ذلك إلى الحريات السياسية، أو أن ذوي التعليم العالي يفهمون بالسياسة أكثر من ذوي التعليم الأقل، أو أن العلمانية ضد الدين، أو أن مشكلتنا (وبالتالي الحلول) تقبع في تراثنا. وهي كلها قضايا تمكن عدد من الفلاسفة العرب ومراكز البحوث العربية الجادة أن تثبت بالأرقام أنها مجرد أساطير سياسية.
ما يحزن في أحاديث المثقفين العرب بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة تقديم تصورات عن العربي من حيث هو من عليه القيام بالكثير من الأمور، وأنه هو الذي يتحمل، بالدرجة الأولى، مسؤولية "التأخر الحضاري" والعقم السياسي الذي يعاني منه العرب. على الرغم من أن نحو ثلثي العرب، كما تشير استطلاعات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات، يؤمنون بالديمقراطية، وأن نسبة عالية ترى أيضا بأن السياسة مجال مستقل عن الإيديولوجيات المعششة في العالم العربي من إسلامية ويسارية وغيرها، مثلما وجدت تلك الاستطلاعات أن نحو نصف العرب يعتقد أن الربيع العربي سيستمر حتى يحقق، ولو جزئيا، أهدافه.
وبمناسبة الحديث عن الأرقام لا بد من التنويه بأن الفلسفة اليوم ليس جهدا تأمليا مجردا لفيلسوف يعيش في برج عاجي، أو تأملات غارقة في الذاتية، بقدر ما هي جهد احترافي وعمل أكاديمي، وقناعة بأنك تتعامل مع أعتى الطغاة في التاريخ، وعليك أن تفكك جهازهم المفاهيمي القمعي الذي يعود تاريخه إلى مئات السنين. ولذلك فإن الحديث عن الفلسفة يجب ألا ينسينا الحديث عن فساد قسم كبير من الفلاسفة العرب وتتويههم للعربي عبر خلق أسباب مصطنعة للتأخر الحضاري العربي تروق للأنظمة المتسلطة وتبرئها. وهنا لا بد من القول إن المراكز البحثية المستقلة تشكل علامة فارقة في الصراعات الفكرية التي تعج بها المنطقة، ودفعة كبيرة للعمل الفلسفي العربي الحقيقي.
الاحتفال بالفلسفة لا يكون بالتشكيك بوجود فلسفة عربية، ولا بالنحيب على العربي المعاصر، بل يكون بمواكبة أحداث وتطورات الربيع العربي، بحلوها ومرها، وإماطة اللثام عن الألاعيب الفكرية التي تموه على أبسط الحقائق السياسة. الاحتفال بالفلسفة يكون بالاحتفال بالعربي الذي ما يزال، منذ أكثر من عشر سنوات، يتفنن في إحياء موجات جديدة للربيع العربي.
لفلسفة في العالم العربي مرشحة لمزيد من التفاعل لأن الناس تريد أن تخرج من الأزمات التي تعيشها، ولم تعد تقبل بأن تترك الأمور للصدف وتدفق الأحداث
الفلسفات تولد زمن الأزمات، وهذه إحدى دروس الفلسفة. الوجودية ظهرت في وسط خيبات الأمل التي سببتها الحرب العالمية الثانية، وفلسفات الحداثة ولدت في خضم الأزمات التي عاشتها القرون الوسطى، حتى فلسفات ما بعد الحداثة ظهرت بسبب عدم تحقق العدالة والمساواة التي بشرت بها الحداثة، وهذا هو ما يشغل بال كبار فلاسفة اليوم من قبيل هابرماس وإدغار موران وجون رولز. وهذا يعني أن الفلسفة في العالم العربي مرشحة لمزيد من التفاعل لأن الناس تريد أن تخرج من الأزمات التي تعيشها، ولم تعد تقبل بأن تترك الأمور للصدف وتدفق الأحداث، بقدر ما تريد أن تكون طرفا فاعلا في مستقبلها الذي دفعت الكثير من أجله.
الفلسفة جزء أساسي من تفكير الناس بأوضاعهم وظروفهم العامة، وسعى لكسر إرادة من يتسلط عليهم. حتى أن أسباب تراجع الفلسفة في العالم العربي هي أسباب سياسية وليست أسبابا دينية كما يشيع فقهاء السلاطين، والدليل على ذلك أن صيحات الحرية في الربيع العربي خرجت أولا من الجوامع، مثلما ليس صحيحا أن من يسمو "بالعوام" لا تروق لهم الفلسفة لأن الربيع العربي يبين أن هؤلاء العوام ومتوسطي الثقافة والشباب هم الجزء الأساسي الذي حمل هموم وتضحيات ذلك الربيع، وأنهم مدركون تماما لغياب الحرية، وأن العبارات التي رفعوها على لافتاتهم هي فلسفة بحد ذاتها.