على الرغم من تعود السوريين على كذب بشار الأسد في اللقاءات الصحفية التي يجريها من حين لآخر إلا أن ما يثير سخطهم في لقائه الأخير مع قناة سكاي نيوز العربية هو كمية الأكاذيب الواضحة وضوح الشمس، وحجم التناقضات التي يعرفها أولاد سوريا قبل كبارها. ولكن لماذا يكذب السيد الرئيس أكاذيب يعرف هو أنها أكاذيب وأن الغالبية العظمى من السوريين لن يصدقوا ما يقوله، وبالتالي لماذا يخاطر بهيبته ويحوّل نفسه إلى أضحوكة ومادة للتندر، وما هي غايته التي تجبره على الكذب المفضوح؟
قال بشار الأسد إنه يعترف "بالمعارضة المصنعة داخليا"، والكل يعرف أنه غيب أبرز وجوهها منذ نحو عشر سنوات، ونقصد عبد العزيز الخير، وأن الحرب في سوريا هي "صورة حرب" وليست حربا حقيقية، مع أن سوريا هي ساحة حرب طالت أوجاعها الجميع، وأنه لا يتدخل في الشؤون اللبنانية، ولا في أزمة الرئاسة هناك، والكل يعرف أن عكس ذلك هو الصحيح، وأنه "تمكن من تجاوز قانون قيصر" على الرغم من الانحدار المدوي الذي وصل إليه سعر صرف الليرة السورية هذا العام، وأن حافظ الأسد لم يكن له دور في وصوله للسلطة، وأنه أتى إلى السلطة عن طريق الحزب. والذي يتابع اللقاء سيلاحظ أن عداد الكذب يمكن أن يمتد من أول اللقاء إلى آخره.
بشار يكذب على السوريين بطريقة مكشوفة لأنه أقوى منهم، ولأنه يعرف جيدا أنه ليس هناك سوري واحد يستطيع أن يواجه كذبه ويقول له إن أباك هو من رتب لك منصب الرئيس وليس حزب البعث
يذكر أن بشار الأسد يلجأ إلى الكذب السياسي المفضوح على الرغم من أن تطور الحياة السياسية الحديثة يسير باتجاه التقليل من هذا الكذب بسبب ارتفاع وعي الناس السياسي، وثورة المعلومات والاتصالات، بالإضافة إلى حرية الوصول إلى الأخبار والمعطيات. وبالتالي لا يجدر بأي سياسي محترف أن يلجأ إلى هذا النوع من الكذب لأن إمكانية كشفه عالية جدا، بل تجعل من الزعيم السياسي الكذاب عرضة لقلة التقدير والشرف.
وعلى العموم يمكن تفسير ارتفاع وتيرة الكذب السياسي في لقاءات بشار الصحفية بأربع قضايا:
الأولى، أنه ينطلق من مبدأ الكذب المشهور "اكذب على من لا يستطيع تكذيبك". فبشار يكذب على السوريين بطريقة مكشوفة لأنه أقوى منهم، ولأنه يعرف جيدا أنه ليس هناك سوري واحد يستطيع أن يواجه كذبه ويقول له إن أباك هو من رتب لك منصب الرئيس وليس حزب البعث، وأن حزب البعث كله ليس له أي قيمة في الحياة السياسية السورية منذ عقود طويلة. وذلك بخلاف - مثلا - الرئيس الأميركي بيل كلينتون عندما أجبر على الاعتراف بأنه كذب على الشعب الأميركي، وهي كذبة واحدة كادت تودي به.
القضية الثانية، أن الخوف هو أكبر دافع للكذب السياسي المكشوف كما يقول علم النفس السياسي المعاصر. فالتوتر النفسي الذي يعانيه بشار الأسد خلال أكثر من عشر سنوات لا يمكن إلا أن يترك أثرا على نفسيته، لا سيما أن الكذب في النهاية هو حالة نفسية وليس أمرا متعلقا بالأخلاق أو السياسة بذاتها. والخوف هنا هو من أن الأمور، في المستقبل، قد لا تسير وفق ما يخطط. وإذا أخذنا مثالا على ذلك الخوف قوله إنه لا يخطط لتوريث ابنه حافظ وأنه لا يناقش معه أمور السياسة، ليس سوى خوف من أنه قد لا ينجح، إذا بقي على رأس السلطة خلال السنوات القادمة، من توريث منصب الرئاسة لابنه. مثلما أن تقليله من تأثير قانون قيصر يعود إلى خوفه من أن هذا القانون والعقوبات عموما قد تطيح به أو توقعه في أزمات صعبة قد لا يستطيع الخروج منها. لا سيما أن التقارير تشير إلى أن الوضع في سوريا وصل إلى درجة غير مسبقة من التعقيد والصعوبة.
القضية الثالثة، إن الطاغية يعتقد أن الموالين يصدقوّنه حتى لو كذب عيهم. فالولاء، بحسب ألكسندر كواري، من أهم الأمور التي يفكر الطاغية من خلالها بالسياسة. والفكرة هنا أن الموالي لا يشعر بالحرج إذا كذب زعيمه، بل على العكس قد يشعر بالفخر، لأنه استطاع خداع الآخرين، ونجح في الكذب من أجل مصلحة الوطن، أو أنه يضحي ويكذب من أجل حماية مصالحه. فالكذب بأن ليس في سوريا حرب هو مفيد لجلب الاستثمارات، والكذب بأنه لا يتدخل في الشؤون اللبنانية مفيد حتى لا يتهمه أحد أنه يهدد لبنان، كما حدث عام 2005.
يضاف إلى ذلك أن الطاغية، في داخله، يستخف بالقدرات العقلية للموالين له، ولا يأخذ عقولهم على محمل الجد. ويعود مصدر احتقاره للناس إلى أن هؤلاء ليسوا مصدر سلطته في نهاية الأمر. هو يحكمهم على الرغم منهم وبقوة السلاح إذا شئت، وبالتالي لماذا يعطيهم قيمة أكثر مما يستحقون. ولا مانع من إسماعهم عددا من الأكاذيب الغبية من حين لآخر لتذكيرهم بمقامهم الحقيقي في عالم الطاغية السياسي.
القضية الرابعة هي ما يسميه فرانسوا نودلمان "انتهاك حرمة الحقيقة" بحيث لا يعود هناك فرق بين الكذب والصدق، بين الباطل والحقيقة. ذلك أن الكذاب يعرف الحقيقة في داخله ولكنه يخفيها، أي يلغي الخطوط في النهاية بين الصدق والكذب. بحيث يمكن أن يتحول أي كلام إلى كذب أو صدق بحسب ما يريد الطاغية.
مشكلات سوريا الداخلية، كما يسردها بشار الأسد، كلها تعود إلى أسباب خارجية. مثلما أنه يحول مشكلات الخارج إلى عامل مؤثر على مشكلات الداخل؛ من حيث إن العالم، كل العالم، يتآمر علينا ويريد أن يحل مشكلاته على حسابنا، وفي أرضنا
وأهم تجلٍ لانتهاك حرمة الحقيقة – بحسب جاك دريدا في كتابه تاريخ الكذب - هو الكذب عبر تحويل المشكلات الداخلية إلى مشكلات خارجية، وتحويل المشكلات الخارجية إلى مشكلات داخلية. فمشكلات سوريا الداخلية، كما يسردها بشار الأسد، كلها تعود إلى أسباب خارجية. مثلما أنه يحول مشكلات الخارج إلى عامل مؤثر على مشكلات الداخل؛ من حيث إن العالم، كل العالم، يتآمر علينا ويريد أن يحل مشكلاته على حسابنا، وفي أرضنا.
وعلى العموم لا يخاف بشار الأسد من الكذب، لأن الكذاب إذا كان يخاف من شيء فهو يخاف من الفضيحة واكتشاف أمر كذبه، أما بشار الأسد فهو لا يخاف من الكذب لأنه ليس هناك ما يجبره على الاعتراف بكذبه. مثلما أن الشعور بالعار من اكتشاف الكذب أصبح شعورا معدما تماما عنده. لا يخاف لأنه وصل إلى درجة يسميها كانط "الانحطاط المطلق"، أي وصول الإنسان إلى درجة يعتقد فيها أنه لا شيء بدون كذبه. لا يخاف لأنه شخص يكذب ليس فقط لأنه يستطيع أن يكذب بل لأن الكذاب – بحسب أرسطو - لديه ميل شخصي/ وجودي للكذب بغض النظر عن الموقف الذي يجبر به على الكذب، أنه يعتقد أن الكذب أمر جدير بذاته، ولذلك تجد بشار الأسد يتعلق بالكذب كمسألة ملازمة لوجوده، ولا تنتهي إلا بانتهائه.