هناك نظريتان تتصارعان في توصيف ما يحدث في سوريا، وبلدان الربيع العربي عموما، منذ عام 2011 وحتى اليوم. الأولى تقول إن الربيع العربي انتهى، بل وهزم هزيمة نكراء، بعد أن تمكنت السلطات الحاكمة من الصمود في وجه الانتفاضات العارمة، سواء بالبقاء في سدة الحكم وتحويل مسار الثورات باتجاه العنف والصراعات العسكرية، وإغراقها في مستنقعات الطائفية ونظريات المؤامرة سيئة الصيت، أو بالعودة بأثواب أخرى وفق معادلة تغيير الرأس وبقاء الجسم على حاله.
أما النظرية الثانية فتقول إن الثورات لا تنتهي بليلة وضحاها، وإن موجات الثورة الفرنسية مثلًا استمرت نحو قرن من الزمان، فالثورات قد تهدأ وتصاب بالوهن، ولكنها في النهاية سرعان ما تعاود الظهور بأشكال وطرق وأفكار مختلفة.
ما يحدث في سوريا، سواء في الجنوب، واستمرار الحراك الشعبي في السويداء لدرجة دفعت النظام الأسدي لإطلاق النار على المحتجين، وهو ما يعبر عن أزمة النظام وحيرته في كيفية مواجهة هذا الحراك، أو في المنطقة الشرقية واحتجاج عشائر دير الزور على ممارسات قسد في تهميش أهل المنطقة ونهب أرزاقها، وإدارة المنطقة على الطريقة الأسدية بالاعتماد على القوة وفقط القوة.
بحسب فوكوياما فإن أهم سبب للثورات هو الشعور بالكرامة الذي يعتبره من أكثر المشاعر أصالة لدى الإنسان. ولا يضير الاحتجاجات إن كانت دوافعها المباشرة تأمين الخبز، سواء كانوا من المحتجين أو من مهادني السلطة
تخطئ النظرية الأولى لأن أهل سوريا قبل عام 2011 غيرهم بعد هذا التاريخ. فالناس تتغير طرق تفكيرها وتتبدل أولوياتها ولا يقف وعيها بحالها عند حد معين. مثلما أن الظروف والأهوال التي عاشوها جعلت من سياسة "التخويف" التي تمارسها الأنظمة التسلطية التقليدية لا تجدي ولا تنفع مع السوريين. فالناس كما يقول المثل الجزراوي "تماتنت الوجوه" ولم يعد يقبل أحد أن تنتهك حقوقه وتنهب أرزاقه أيا كانت الأسباب.
بحسب فوكوياما فإن أهم سبب للثورات هو الشعور بالكرامة الذي يعتبره من أكثر المشاعر أصالة لدى الإنسان. ولا يضير الاحتجاجات إن كانت دوافعها المباشرة تأمين الخبز، سواء كانوا من المحتجين أو من مهادني السلطة، فالثورة الفرنسية التي هي أعظم ثورات التاريخ الحديثة، كانت من أجل الخبز، بحسب الرواية المتداولة عن ماري أنطوانيت واقتراحها بأن يأكل الشعب الفرنسي "الكيك" إذا لم يجدوا الخبز.
تقع النظرية الأولى في مستنقع النظرة الاستشراقية التقليدية التي حاولت ترسيخ سردية في الفكر السياسي المعاصر مفادها أن سكان المنطقة العربية ميالون إلى الطاعة والمهادنة وليس لديهم ثقة سياسية بأنفسهم. وقد تورط في مثل هذه السردية مفكرون عرب كبار منهم محمد عابد الجابري وحسن حنفي وجورج طرابيشي وغيرهم ممن يعتقدون أن العرب، وعبر تاريخهم الطويل ليسوا عقلانيين ولا يعلون من شأن الحرية والكرامة. ولذلك تجدهم ميالين إلى الوداعة وطاعة الطغاة أو مهادنتهم على أقل تقدير.
طبعا مثل هذه السردية تتجاهل تاريخ الصراعات الطويل الذي تعج به المنطقة سواء على مستوى التاريخ الطويل أو حتى القصير الخاص بالقرن العشرين. وإذا أخذنا مثالًا على ذلك تاريخ الصراعات التي خاضها السوريون، خلال القرن العشرين، فسنجد أنهم افتتحوا هذا القرن بإخراج السلطنة العثمانية من سوريا بالتعاون مع الشريف حسين وفرنسا وإنكلترا، ثم اندلعت ثوراتهم ضد الفرنسيين إلى أن تم إخراجهم من سوريا عام 1946. بعد الاستقلال تمكن السوريون من إسقاط أربعة انقلابات خلال عدة سنوات، كما أنهم خاضوا تجربة الوحدة مع مصر. مثلما تمكنوا من المحافظة على السلطة مدنية لفترة لا بأس بها من الزمن، إلى أن هبوا في ثورة، من أصعب الثورات الحديثة بسبب تماسك النظام الحاكم، سياسيا وعسكريا. حتى أن عالم الاجتماع آصف بيات يصفها بأنها أصعب بأضعاف مضاعفة من الثورة الفرنسية والروسية لأن الثورة في تلك البلدان كانت ضد سلطات متهالكة وضعيفة بعكس الثورة السورية. إن تمكن عائلة الأسد من إخضاع السوريين لسلطتها بالحديد والنار لا يعني أن الأمور دائما ستكون على هذه الحالة، ولا يعني أن السوريين ليس لديهم إرادة سياسية، ولا يعني أنهم يقبلون دائما بأن تحكمهم قوى ليس لها سوى النهب والتخويف والقتل من أجل أن تستمر في البقاء.
ما نريد قوله هنا إن مهادنة السوريين للطغاة ليست قاعدة يجب أن تحكم تفكيرنا السياسي، وأنهم عندما يضطرون لذلك فإنهم يقومون بهذا الأمر عندما تنعدم أمامهم السبل، مع بقائهم في حالة "انتظار متحفز" بمجرد ما تتغير الظروف ويظهر ضوء في نهاية النفق.
لقد بات من الواضح أن التوتر الأساسي الذي يحكم تفكير أهل المنطقة، شعوبا وحكاما، هو الصراع حول كيفية إنجاز التحول الديمقراطي، وهي عملية معقدة وطويلة قد تستغرق عقودا من الزمن
التقليل من أهمية ما يحدث في سوريا اليوم، بحجة أن حراك السويداء محدود التأثير أو مسدود الأفق، أو أن احتجاجات عشائر دير الزور لن تستطيع القيام بأي شيء بسبب محدودية قوة العشائر وعدم وجود قيادات يجمع عليها أهل المنطقة، هو انجرار، واع أو غير واع، لسرديات الاستشراق الكولونيالي الذي يقلل من قيمة شعوب الشرق الأوسط بحجة أنها غير جديرة بأن تصنع السياسة بنفسها.
لقد بات من الواضح أن التوتر الأساسي الذي يحكم تفكير أهل المنطقة، شعوبا وحكاما، هو الصراع حول كيفية إنجاز التحول الديمقراطي، وهي عملية معقدة وطويلة قد تستغرق عقودا من الزمن. الشعوب تتفنن بإيجاد الأساليب والأفكار التي تساعدها في تحقيق ذلك الانتقال، والحكّام يتفننون أيضا في اختراع الأساليب والأفكار التي تساعد في إفشال ذلك التحول، أو تشتيته. ولذلك فإن الاعتقاد بأن ما يقوم به السوريون ليس أكثر من زوبعة في فنجان هو مجرد كلام فارغ لا يخدم سوى الطغاة الذين، بحسب حنا أرندت، يكرهون أكثر ما يكرهون الناس عندما تتذمر.