أعلن بنيامين نتنياهو، الأربعاء الفائت، تشكيل "حكومة طوارئ"، وسمح هذا الوضع له بشن حرب لا هوادة فيها على قطاع غزة وتهجير سكّانه وقتل من يستطيع منهم.
طبعاً في حالة الطوارئ لا تحاسب الحكومات على كثير من تصرفاتها وقراراتها مثلما تجسر على القيام بأعمال تخالف القوانين والشرائع والأعراف بحجة أن البلاد في حالة حرب، أو حالة استثنائية تستدعي تعليق القوانين Iustitium.
نتنياهو يستفيد من عرف سياسي معروف في الدول الحديثة، وموجود منذ أيام الإمبراطورية الرومانية القديمة، يتم من خلاله اللجوء إلى قوانين الطوارئ لمنح نفسه مزيداً من الصلاحيات، وإعفائها في الوقت نفسه من أي محاسبة، وتحرره من أعباء البيروقراطية، فقوانين الطوارئ اليوم لم تعد ظاهرة خاصة في البلدان غير الديمقراطية وحسب، بل إنّ اليمين في الدول الغربية أخذ يفكر في الاستفادة منها خاصة إذا كان التحالف الحاكم متطرفا وعنصريا ويؤمن بالقوة كوسيلة وحيدة للسياسة.
وإذا كانت إحدى التعريفات الغريبة للسياسة بأنها حالة من الاستعداد للحرب فإن نتنياهو أكبر من يجسد هذا التعريف، وإذا نظرت بعض التعريفات إلى الحرب بأنّها حالة فشل للسياسة فإن نتنياهو أيضا خير من يجسدها، مع فارق أنه لا يرى في السياسة إلا وسيلة للحصول على ما تستطيع الحرب الحصول عليه، ولكن بلا حرب.
طالما لجأ نتنياهو إلى الحرب وتمكّن من حماية نفسه بحكومة طوارئ فإنه لن يتوانى عن فعل كل ما يستطيع..
لكن وطالما لجأ نتنياهو إلى الحرب وتمكن من حماية نفسه بحكومة طوارئ فإنه لن يتوانى عن فعل كل ما يستطيع مستفيدا من تغطية إعلامية تقوم على الافتراء وتمنح تبريرا مسبقا لكل ما سيقوم به.
يبيّن بيار منان أن إعلان الأوضاع الاستثنائية وقوانين الطوارئ أمور تساعد الحاكم من التحرر من التزاماته القانونية والعادية أمام الشعب الذي يحكمه، والبرلمان الذي يراقبه، بل تسمح له أن يطلب منهما الوقوف معه بكل ما يملكون من قوة دون مقابل حتى تنقضي تلك الأوضاع الاستثنائية لأن الجميع في مركب واحد.
أما أهم بيئة سياسية تساعد على فرض قوانين الطوارئ، أو "حالة الاستثناء" كما يسميها جورجيو أغبامين، فهي "سردية الحرب"، التي تدفع المجتمع للعيش حالة الحرب أو إمكان الحرب، وأن عليه الاستعداد الدائم لمثل ذلك الإمكان، ما يؤدي إلى ظهور ما يمكن أن نسميه "أخلاق الحرب".
يذكر أن غالبية الأيديولوجيات القومية والدينية رسّخت في الأخلاق السياسية لشعوبها أن وجودها (أي الشعوب) محفوف بالمخاطر، وأن عليها أن تصارع وتحارب لكي تحافظ على وجودها، بل إن هذه السردية كثيراً ما استخدمت حتى من قبل البلدان الديمقراطية ولا سيما من قبل أميركا عام 2001 وسعيها لفرض بعض القوانين الاستثنائية.
ولا شك أن تلك الأيديولوجيات المرددة لسردية "الظرف الاستثنائي" الطويلة (امتد قانون الطوارئ في بعض البلدان العربية إلى نحو نصف قرن) تدفع الخاضعين لها إلى التفكير بطريقة مختلفة.
وأوّل تلك الطرق المختلفة هناك حالة "تعليق الأخلاق"، أو وفق ما يقول ليفيناس: إن الإمكان الدائم للحرب يجعل من الأخلاق أمراً "سخيفاً"، مجاريًا في ذلك قول هوبز: "أفكار الصواب والخطأ، والعدل والظلم لا مكان لهما في زمن الحروب"، مثلما يتحول "الغش" إلى فضيلة أساس.
ويستفيد نتنياهو من حالة الطوارئ من حيث إنها حالة يمكن الاستفادة منها ليس بوصفها موجهة للخارج وحسب، بل إنها تستخدم من أجل مواجه الأعداء الداخليين من الأطراف السياسية الأخرى، لدرجة أن اللجوء إلى قوانين الطوارئ يزداد كلما زاد خطر "الأعداء الداخليين" وليس العدو الخارجي كما يلاحظ بدقة كارل شميث.
بل إن هناك أمثلة تاريخية معروفة (نابليون بونابرت، صدام حسين، حافظ الأسد..) تبيّن أن حكومات سعت إلى حروب خراجية، بعضها حقيقي وبعضها الآخر متخيّل، فقط للمزاودة وإسكات أطراف داخلية غير راضية عن تلك الحكومات.
فالفلسطينيون في غزة، منذ أوسلو، لا يشكّلون خطراً على إسرائيل في حال قبولها بحل الدولتين وموافقتها على القدس الشرقية عاصمة لدولتهم المنشودة، وهي حقوق أقل بأضعاف مضاعفة من حقوقهم التاريخية.
"قوانين الطوارئ حالة ملتبسة حتى في البلدان الديمقراطية وتترافق ببروباغندا وحملة كذب كبيرة حتى تتمكن الحكومات من إقناع شعوبها بضرورة فرضها"
وعلى الرغم من ذلك لا يقبل نتنياهو بتلك الحلول، ليس لأي سبب سوى لأن السلطات في البلدان العربية لا تريد أن تدعم الفلسطينيين لأنها مشغولة بالحفاظ على نفسها، والسيطرة على الشعوب التي تحكمها، ولعل هذا ما يفسر السكوت الرهيب لتلك الأنظمة عما يحصل في غزة والاكتفاء بعبارات الإدانة التي تستثير سخرية العرب منذ عدة عقود. وهو ما يعني في النهاية أن السبب الحقيق لحرب نتنياهو اليوم هو السلطات العربية نفسها وليس ميزان القوة، ميزان القوة سبب ثانوي وليس سببا جوهريا.
وهنا نصل إلى فارق حاسم بين حكومات الطوارئ في الدول الديمقراطية والدول الديكتاتورية، فالأولى تستخدم قوانين الطوارئ لاستباحة حياة الشعوب الأخرى، أمّا في حالة الدول الديكتاتورية فلا يستخدم قانون الطوارئ إلا لاستباحة حقوق وحياة أهل البلد، مع ملاحظة أن قوانين الطوارئ حالة ملتبسة حتى في البلدان الديمقراطية وتترافق ببروباغندا وحملة كذب كبيرة حتى تتمكن الحكومات من إقناع شعوبها بضرورة فرضها. فالديمقراطية وعلى الرغم من سعي الناس إليها في كل مكان إلا أنها، للأسف، لم تمنع الأحزاب العنصرية والمتطرفين من الوصول إلى سدة الحكم وتنفيذ سياساتهم، والأمثلة على ذلك كثيرة.
أما الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين فلا يرى من مهمة حكومات الطوارئ سوى استباحة الإنسان في أي مكان، فقانون الطوارئ يعني بكل بساطة التوقّف عن تطبيق القانون، وهذا يعني أن القانون بصورته الموجودة لم يتمكّن من إحلال العدل والسلام بين الناس الأمر الذي دفع الطرف الأقوى إلى الخروج فوق قواعد اللعبة.
فقوانين الطوارئ هي فرصة أيضاً للتفكر بالقوانين العادية وضرورة إيجاد طرق لإنفاذها، حتى لو لم يقبل الأقوياء بذلك. وهذه قضية لم تحل بعد لأن القوانين هي في النهاية مبنية على العنف في جوهرها، أي لا تفرض إلا من قبل من لديه القوة لفرضها، كما يلاحظ جاك دريدا. وإلى ذلك الحين لا بديل للشعوب عن السعي وراء حقوقها وبناء حياة الكرامة أيا كانت قوانين الطوارئ التي تفرض عليهم.