كان شتاء إسطنبولياً قارساً ذلك الذي انتظرنا فيه وصول المدرب من بيروت، مدججاً بخبرة في التوثيق تفوق السنوات العشر التي كانت مضت منذ أسهم في إنشاء «أمم للتوثيق والأبحاث» عام 2004، المؤسسة التي أطلقت مشروع «ديوان الذاكرة اللبنانية» الذي كنا نسعى إلى الاستفادة من تجربته لإنجاز أرشيف سوري مقارب.
كان سْلِيْم، بطريقة النطق الغريبة للقبه، بتسكين السين والياء، غريباً بدوره. وكان أوسع من مجرّد موثق. فهو، أولاً، سليل عائلة شيعية مرموقة. وابن محام معروف حاز عضوية المجلس النيابي اللبناني. من زواج مختلط بامرأة مصرية مسيحية ولد لقمان عام 1962. وتفتح وعيه مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975. ومثل كثير من المثقفين أبناء جيله اعتنق الماركسية القومية. حتى غادر إلى باريس لدراسة الفلسفة في جامعة السوربون، وعاد إلى بلده متحرراً من الآيديولوجيا. ليؤسس، مع شقيقته الروائية رشا الأمير، دار نشر هامة هي «دار الجديد» التي عنيت بطباعة طيف عريض من الكتب؛ بدءاً بمؤلفات الشيخ عبد الله العلايلي اللغوية والتراثية وصولاً إلى ترجمة قصائد إميل سيوران، مروراً بعدد كبير من الدراسات والروايات ودواوين الشعر وسواها.
افتتح مشروع «ديوان الذاكرة» الذي هدف إلى حفظ الوثائق والأدبيات التي واكبت الحرب الأهلية اللبنانية، وإتاحتها للعموم للدراسة والتحليل، منعاً لتكرار تلك التجربة المرة
ضجر لقمان، فوضع كتاباً ضخماً على شكل قبر في جناح الدار في معرض بيروت للكتاب، معبّراً عن أزمة الناشر العربي، لكن دون أن يغلق المؤسسة التي قلّصت عدد الكتب التي تنشرها سنوياً. فدار الجديد فكرة، «والأفكار لا توصد أبوابها». التفت الناشر ذو المزاج إلى السينما الوثائقية، فأنجز بعض الأفلام بالاشتراك مع زوجته المخرجة الألمانية مونيكا بورغمان. وافتتح مشروع «ديوان الذاكرة» الذي هدف إلى حفظ الوثائق والأدبيات التي واكبت الحرب الأهلية اللبنانية، وإتاحتها للعموم للدراسة والتحليل، منعاً لتكرار تلك التجربة المرة.
ضمن المروحة الواسعة لهذا المشروع حضر ملف المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. وعندما بدأ فريق التوثيق، المكون من شباب وشابات في العشرينات، بتسجيل شهادة من نجا وعاد؛ وجدوا أنفسهم أمام عالَم لغوي خاص يتألف من مفردات تمكن السيطرة عليها، كبيت الخالة والسُّخرة والشَّبح والتشميس، وأخرى تحتاج إلى أن تدوّن في فهرس يحتفظ به الموثقون ويتداولونه بينهم كأداة عمل تفسر مصطلحات مثل «التشريفة»، وهي جولة التنكيل الأولى، و«البلانكو»، وهي رافعة تستخدم في التعذيب، و«السِلول» وهي الزنزانة المنفردة، و«الوقوع في الحمام»، وهو التفسير الرسمي الأشيع لوفاة سجين نتيجة التعذيب أو الضرب. التقط سليم طرافة الفكرة وقرر تحويل قاموس التعريفات المجمّعة المسوّدة هذه، بعد تدعيمها وتوسعتها بالعودة إلى مذكرات سجنية متعلقة منشورة، إلى كتاب صدر عام 2012، بإعداد محمود حمادي، بعنوان «مفاتيح السجن السوري».
كان سليم يجترح ويشارك في نشاطات إبداعية واعتراضية متنوعة ضد النظام الطائفي اللبناني والطبقة السياسية الحاكمة
خلال السنوات التالية سيعمل سليم وبورغمان مع عدد من المعتقلين اللبنانيين السابقين في سجن تدمر الصحراوي السوري المروع. وستكون الحصيلة منتجاً وثائقياً امتد لأكثر من مئة دقيقة وعرض عام 2016. في هذا الفيلم، الذي حمل اسم Tadmor، يظهر المحتجزون السابقون في مقابلات فردية تسجل شهادة كل منهم، ويحضرون بوصفهم «الممثلين» الذين تناوبوا على أداء أدوار الضحية والجلاد، في بناء قديم أعادوا تشكيله ليحاكي ذلك السجن الذي لا يمكن تخيل تفاصيله بدقة لمن لم يقض فيه سنوات.
خلال هذا وذاك كان سليم يجترح ويشارك في نشاطات إبداعية واعتراضية متنوعة ضد النظام الطائفي اللبناني والطبقة السياسية الحاكمة، وكان ضيفاً ثابتاً على الفضائيات التي عُرف لديها بأنه «أشرس خصوم حزب الله» من قلب حاضنته البشرية والجغرافية، إذ أصر على الإقامة والعمل في الدارة الموروثة للعائلة في حارة حريك بالضاحية الجنوبية لبيروت.
صباح الخميس الماضي عُثر على جثة لقمان سليم، مقتولاً في سيارته، في منطقة النبطية الجنوبية، بعد ساعات من فقدانه، وبعد أن تلقى الكثير من التهديدات المعروفة وحملات التخوين الإعلامية. ويشير إصبع الاتهام السياسي إلى يد حزب الله، النافذ في المنطقة، وراء العملية، إذ لم تكن للمثقف الراحل عداوات ومشكلات أخرى.
قبل سنوات من ذلك، وسط تقلب ثلوج إسطنبول وأمطارها، كنا على موعد، استمر أياماً، مع هذا الرجل الذي جمع متناقضات يصعب توليفها. هادئاً بذهن متوقد، أنيقاً بلا تكلف، لطيفاً دون أن يجامل. تغلّف شخصيته مسحة دائمة من السخرية التي تتجلى في ابتسامة متكررة قد لا تخلو من «الشيطنة»، دون أن يتخلى عن الدقة والصرامة التي يجب أن تضبط عمله كموثق محترف وهاوٍ مغرم. كان فيه ملمح من تاجر الأنتيك الحاذق حين يستعرض مقتنيات مركز «أمم»، وشيء من العرّاب حين يصر، بالحرص نفسه، على الحصول على نسخ من التجارب الشابة لصحف الإعلام السوري البديل.
مع لقمان سليم يمكن أن تعرف معنى الأصالة دون أصولية، والانفتاح مع بقاء رأسك في المجتمع المحلي، والمبدئية دون شخصية متشنجة، وتجريب أشكال مبتكرة ومحببة لطرح موضوعك، والتسويق بلا رُخْص، والتمويل دون ابتذال، وإعداد النفس لطريق طويل.
في القاعة الصغيرة، المدفّأة بشكل جيد بطبيعة الحال، كان لقمان، الذي بدا أنه يتسم بنزعة حسيّة وميل للمتع، لا يطيق التوقف عن التدخين طويلاً خلال الساعات التي استغرقتها اللقاءات، فكان يلجأ إلى زاوية يمجّ فيها بعض أنفاس من سيجارة المارلبورو الأحمر. وأثناء ذلك كانت عيناه تراقبان بحذر جهاز الإنذار في السقف، وكأن بينهما تفاهماً سرياً عن المقدار الذي يمكن تدخينه قبل أن تدوي صافرة الجهاز ويشتعل ضوءه الأحمر. وكنا، نحن الذين لم نملك هذا الحق ولا تلك الجرأة، نراقب مغامرته التي لم تفشل مرة.
حين أتذكر لقمان سليم الآن، الرجل الذي ثبّت غلاف صفحته على فيس بوك، منذ 2013 وحتى مقتله، على جملة مزيّنة بالتشكيل كعادته «عَبَثَ وتَوَلّى»، فإن الصورة المفتاحية التي تحضر في ذهني هي وضعيته تلك، يدخّن هازئاً بجهاز الإنذار ومتوفزاً منه. وأعتقد أن هذه هي بالضبط الطريقة التي قضى فيها حياته منذ عقود في فك الوحش. غير أن شيئاً لا نعرفه غافلَ تيقظَه وقطع سيرة «عبثه» اللاهي في العيش على حافة الخطر، فانطلقت تلك الرصاصات التي جعلته «يتولّى»!