على الرغم من الثورة العلمية والمعرفية فإنَّ بعض الشعوب ما زالت تعاني من التخلف والرجعية، فهناك أماكن في العالم تعيش حتَّى الآن وعي الخرافة؛ وهي مرحلة متأخرة عن الوعي العلمي والحضاري، ويعود ذلك لعدة أسباب تتعلق بالفقر والجهل والميل للحصول على إجابات سهلة وحلول سريعة للمشكلات التي تعترض بعض الناس، كما تعود لرغبة الأنظمة الاستبدادية بالهيمنة على الحقيقة واحتكارها، الأمر الذي يدفعها إلى ممارسة سياسة التجهيل حيال شعوبها؛ فالدكتاتوريات ترغب بترسيخ نظام تعليمي مؤدلج يجعل للسلطة أولوية في كلِّ شيء، ممَّا يسهِّل خضوع الشعب وانقياده لها، لذلك قدَّمت النظم الدكتاتورية العربية شكلاً من الوعي الزائف، متبعة سياسة التجهيل التي ترمي إلى إطالة عمرها الوجودي في السلطة.
ولكن كيف غذَّت السلطات الاستبدادية شعوبها بنمط من الوعي الزائف، وما الوسائل التي اتبعتها لتحقيق ذلك؟
أولاً: الأغنوتولوجيا.. والوعي الزائف
إنَّ ممارسة التجهيل حيال الشعوب سياسة يتبعها الحكَّام والقادة المستبدون، حيث تقوم سياستهم على مرجعية أيديولوجية تُبنى عليها الدكتاتورية السياسية، وتروِّج لنمط من الوعي الضيق والمؤطَّر برؤية أحادية غائية، هذا الوعي يحاول ترسيخ هوية خاصة تتماشى مع المنظومة الفكرية للسلطة، فتكون هذه الهوية أقرب منها إلى الحالة الأنطولوجية من حالة الفاعلية، أي إنَّها تمارس سياسة التنميط على الأفراد بحيث تجعل الفرد متماشياً مع سياسة السلطة الاستبدادية، حتى يغدو أقرب للحالة الوجودية المفرَّغة من كلِّ ما يحقق الحضور الفعلي لهذا الموجود.
ويذهب المؤرخ في جامعة ستانفورد، روبرت بروكتر، إلى القول بأنَّ سياسة التجهيل قد ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى في الشركات التجارية الكبرى من خلال تسويقها لمنتجاتها، لا سيما شركات التبغ، وذلك بنشر معلومات زائفة وغير صحيحة على أنَّها حقائق بهدف كسب الأرباح عبر تضليل المستهلكين، كما ذهب إلى أنَّ سياسة التجهيل تقوم على استغلال ضعف المنظومة التعليمية وتردِّيها في المكان المراد ممارستها فيه، فهو أسلوب يُستخدم لتضليل الناس وخداعهم من خلال نشر معلومات تعزِّز تشويه الحقائق، باستخدام وسائل ومهارات متقدمة بحيث تبدو الحقائق مشوشة، ثمَّ يتهيَّأ الذهن لاستقبال نمط من الوعي الزائف المنافي للحقيقة، هذا الوعي الذي وصفه هنري برغسون بأنَّه عامل جمود وتأخر للعقل، أمَّا عند ماكس سكيدمور فيرى أنَّ هذا الوعي ناتج عن أيديولوجيا تمارسها السلطة المستبدة، وقد عدَّها بمثابة جريمة اجتماعية، كما تساءل كولن ويلسون في روايته (الشك): "كيف يمكن للحقيقة أن تكون مفرَّغة من مضمونها وكأنَّها ساعة على جدران بيت فارغ، وهل يحدث ذلك فعلاً، وكيف يحدث في الواقع؟".
أما هربرت ماركيوز فقد ربط بين وعي الإنسان والأيديولوجيا السائدة في مجتمعه، معتبراً أنَّها تقدِّم صورة مشوهة عن الواقع والحياة وتعيق عملية التفكير الحقيقية؛ لأنَّها توجهها نحو شعارات ورموز طوباوية في الغالب، بالإضافة إلى أنَّها لا تتصل بأصل مشكلاته التي يعيشها، فالوعي السائد لا يمثل سوى مسايرة للنظام السياسي القائم مبتعداً عن المنهجية العقلية. وقد صنف غاستون باشلار في كتابه (تكوين العقل العلمي) العقبات التي تحول دون الوصول إلى الحقيقية إلى عقبتين، الأولى، عدم السماح باختبار الموضوع أي تعريضه للنقد الموضوعي، وهذا ما تمنعه السلطات الاستبدادية بطبيعتها؛ لأنَّها تقوم على منظومة فكرية واعتقادات أيديولوجية ضيقة غير قابلة للنقد أو حتى النقاش أو الحوار، أما العقبة الثانية، فهي المعرفة العامة، فالعلم ينبغي أن يقوم على قطيعة أبستمولوجية مع الرأي الشائع في المجتمع؛ فالرأي العام فكرٌ غير موضوعي، ونحن لا نستطيع أن نؤسس شيئاً على هذا الرأي، إذ لابدَّ من تقويضه أولاً، والسلطة الاستبدادية تمارس العقبتين التي تناولهما باشلار، ذلك لأنَّ السلطة عبر التشويش تستطيع طرح المتناقض وغير الصحيح من خلال سلسلة من الممارسات المتنوعة التي تنتهجها لنشر سياسة التزييف.
ثانياً: وسائل السلطة في نشر التجهيل
قامت أنظمة الحكم الاستبدادية في الحالة العربية بأدلجة كل ميادين الحياة وتسييسها، بشكل يحوِّلها لأداة تساعدها في نشر هذه المنظومة الاعتقادية، ولوسيلة تعزز الحكم الاستبدادي وتضيِّق مجال الفكر الإبداعي الحر الذي يهيِّئ الذهن للتحرر من كل القيود، لذا فقد لجأت إلى سلسلة من الإجراءات والطرق المختلفة في نشر سياستها التجهيلية في المجتمعات.
عملت السلطات المستبدة على الترويج للفكر الانهزامي والاستسلامي مستخدمة التعليم والإعلام وغيرها لترسيخ الخضوع والركوع للحاكم عبر إفراغ عقول الشباب وإفقارها من أي محتوى علمي وعملي
ولاشك أنَّ النظام التعليمي المؤدلج هو أوَّل تلك الوسائل؛ لأنَّه يستهدف زرع قيم ومبادئ ترغبها السلطة، فتشوَّه التاريخ والمفاهيم الحقيقية، وتركِّز على بعض الانتصارات والإنجازات الوهمية بشكل يشوِّه الحقائق، ويقلبها رأساً على عقب، محاولة توسيع شعبيتها داخل المجتمع وخارجه، الأمر الذي يسهِّل عليها مهمتها في الاستمرار لمدة أطول. ثمَّ تنتقل إلى الهيمنة على وسائل الإعلام والتواصل كافة وتسخرها لخدمة سياستها عبر إصدار معلومات متضاربة ومثيرة للجدل والشك بشكل لا يسلم منها حتى البديهيات أو المسلمات المتعارف عليها، وهذا السبب الذي يفسر توجه القادة الانقلابيين في أول سيطرتهم على البلاد نحو مبنى الإذاعة والتلفزيون، وهذا ما فعله الملازم أول معمر القذافي في ليبيا عندما توجه إلى مبنى الإذاعة في بنغازي وأعلن استلامه للسلطة، والحال نفسه في انقلاب حافظ الأسد في سوريا عندما سيطرت قواته على مبنى الإذاعة في كلٍ من دمشق وحلب، وعلى مكاتب الجرائد الرسمية في البلاد، أمَّا جمال عبد الناصر فقد أشرف على تأسيس الإذاعة والتلفزيون المصري واستخدم إذاعتي صوت العرب والشرق الأوسط في بث رسائله القومية، وفي انقلاب عبد الفتاح السيسي تمَّت السيطرة على التلفزيون المصري الرسمي وإيقاف بث المحطات الرافضة للحكم العسكري، وكذا الحال في بقية النظم الاستبدادية التي تسخِّر وسائل الإعلام في بناء وعي زائف خالٍ من العلمية والموضوعية، وعلى سبيل المثال فقد أسس نظام الأسد الاستبدادي في سوريا ما يسمى الجيش السوري الإلكتروني، والذي يقوم بمهمة نشر بروباغندا السلطة ومهاجمة الصحف والمواقع المعارضة، كما كانت أجهزة المخابرات تقوم بإنشاء صفحات إخبارية وسياسية عبر منصات التواصل الاجتماعي لنشر أخبار ملفقة، وإحداث تشكيك في الأخبار الواردة ضدَّ النظام الحاكم وروايته.
وعملت هذه السلطات على الترويج للفكر الانهزامي والاستسلامي مستخدمة التعليم والإعلام وغيرها لترسيخ الخضوع والركوع للحاكم المستبد عبر إفراغ عقول الشباب وإفقارها من أي محتوى عملي وعلمي حقيقي، فالديمقراطية التعبيرية هي تجسيد لإرادة الذات المدركة لمبادئ الحضور الفاعل ووسائل تحقيق الرقيّ لأنَّ الحرية رقي والتخلف عبودية، لذا فإن المستبد يلجأ إلى ديمومة هذا التخلف لضمان استمرار حالة العبودية والقطيعية في مجتمعه، فقد أكثر غالبية الحكام العرب من ترديد مصطلحات النكبة والنكسة والتهويل من قوة الكيان الصهيوني لبث الوهن والضعف في عزيمة الشباب وتشتيت تفكيرهم، وجعلهم يعتقدون أنهم ضحية تآمر تاريخي كما فعل النظام السوري مع بدء الثورة السورية عندما اتهم العالم بشن حرب كونية ضد سوريا بحجة صمودها ومقاومتها، وكذا الأمر مع نظام القذافي في ليبيا وصالح في اليمن.
كما تلجأ سائر السلطات المستبدة إلى استدعاء أشخاص لتروِّج لأفكارها وتدافع عنها، يتمتع أغلب هؤلاء الأشخاص بمهارات خطابية ولغوية وكاريزما، وقد أطلق عليهم الكواكبي اسم "المتمجدين"، دون أن نغفل عن ذكر سياسة التضييق الاقتصادي والإفقار ونهب ثورات البلاد التي يحكمها المستبدون والتي تلعب دوراً كبيراً في تأخير التنمية وتعزيز سياسة التجهيل.
ختاماً: يرى نعوم تشومسكي بأنَّ سياسة التجهيل تُتَّبع حتى في أميركا من خلال السيطرة على التفكير أو توجيهه نحو هدف محدَّد عبر تضليل الجماهير بمعلومات مغلوطة، يحدث ذلك في الكثير من المشاريع التجارية والاقتصادية الداخلية أو في الحملات الانتخابية، أو كما حدث فعلاً في حروب أميركا الخارجية، لكنَّها لم تترك أثرها العميق والكبير كما هو الحال في الواقع العربي الذي قادت سياسة حكَّامه المستبدين إلى تشويه حركته التاريخية والحضارية، وإلى تخلُّفه عن ركب الشعوب في ممارسة الفعل السياسي والتقدم العلمي.