وسط الصّراعات والتّمزّقات الأهليّة، الاجتماعيّة، ذات الخلفيّات الأيديولوجيّة، القوميّة، الدّينيّة، المذهبيّة، والمناطقيّة، المحتدمة في سوريا والشّرق الأوسط والعالم، تبرزُ أهميّة الحوار كضرورة حضاريّة؛ وطنيّة، ثقافيّة، وأخلاقيّة. الحوار أوّلًا وأخيرًا، لأنّه السّبيل الوحيد لنزع فتيل الأزمات والاحترابات. وكمساهمة متواضعة منّي في تأسيس وتدعيم الحوار، تندرج الأسطرُ الموجودة أدناه.
(1)
يكون الحوار دائمًا بين مختلفين، وليس بين مؤتلفين. وربّما يكون بين رأيين ـ (مَوقفين) ـ على طرفي نقيض من مسألة فكريّة، سياسيّة، اجتماعيّة، ثقافيّة أو اقتصاديّة، بهدف تجنّب انزلاق حال الخلاف إلى التّصادم والصّراع وربّما إلى الحروب. إذا كان هناك خلاف على ضمان المصالح؛ مصالح جماعة بشريّة ذات خصوصيّة قوميّة أو إثنيّة أو دينيّة أو مذهبيّة أو أيديولوجيّة معيّنة، بحيث لا تضرّ أو تضرب مصالح جماعة أخرى في الصّميم، فإنّه تبرز ضرورة قصوى لتبنّي الحوار كمبدأ وخيار استراتيجي لضبط وإدارة الاختلاف أو الخلاف، بهدف ضمان الشراكة وإدارة المصالح الخاصّة للأفراد والجماعات والتيّارات، المتقاطعة مع المصالح المشتركة لأفراد آخرين، وجماعات وتيّارات أخرى، في إطار المصلحة الوطنيّة الجامعة.
(2)
لئلا يتحوّل الاختلاف إلى خلاف، ويتطوّر الأخير إلى خصام، ثمّ ينزلق نحو الصّراع والصِّدام، فإنّ الأطراف المختلفة مجبرة على التوجّه إلى الحوار، وملزمة بالمضي فيه. التوجّه نحو الحوار يعني، في ما يعنيه، أنّ أفُقَ الحل ليست مسدودة، وأنّ البنادقَ والخنادقَ خيار فاشل مُدمِّر وقاتل للجميع. ولأنّ هناك إيمانًا ويقينًا مشتركًا لدى الأطراف المختلفة بضرورة نزع فتيل أيّة أزمة صغيرة قبل أن تكبُر وتصبح قاب قوسين أو أدنى من الانفجار، يظهر التّوجّه إلى الحوار كضرورة حيويّة، وجوديّة، أخلاقيّة، وجهويّة، للحفاظ على الذّات في إطار المحافظة على الآخر. وأعني؛ الحوار الذي ينتج حلولًا، ولا يطيل أمد الأزمة بهدف كسب الوقت وهدرهِ.
(3)
ولأنَّ كلّ صراع أو نزاع أو حرب... لا مناص من أن ينتهي بسلام، يبرز الحوار كمدخل رئيس واستراتيجي لتخفيف مستويات التّوتّر والاحتقانات في السّلوك والخطابات بين الأطراف المتنازعة، ومن ثمّ البحث المشترك عن خارطة طريق لمراحل انتقاليّة، بهدف طيّ صفحاتِ الصّراع والنّزاع... وصولاً لإرساء مبادئ وقواعد السّلام، ضمن المجتمع الواحد، أو الدّولة الواحدة، أو بين المجتمعات والدّول. وعليه، الحوار ليس سلامًا، وربّما تُعقد جلسات الحوار في مكان ما، بينما بنادق الأطراف المتحاورة ــ المتصارعة ــ تتقاتل في مكان آخر. لكن، التوجّه إلى الحوار الجادّ والهادف والمنتج، يفترض أن يكون مبنيًّا على قاعدة متينة مفادها: نبذ العنف، وضرورة إسكات المدافع والبنادق نهائيًّا.
(4)
إذا كان أحد أسباب نشوب الحروبِ والنّزاعات هو انعدام الحوار، وإذا كانت خاتمةُ كلّ حربٍ وصراع، حوارًا يفضي إلى اتفاق، فلماذا الحرب إذًا؟ وعليه، فإنّ الحوار أحد أبرز وسائل نزع فتيل الحروب، وإدارة التناقضات، وخلق أجواء التّفاهم، عبر تبديدِ سوءِ الفهمِ، العَمدِ وغير العَمد.
(5)
الأطراف المتّجهة إلى الحوار ينبغي أن تضع في الحسبان:
- عدم اعتبارِ الطّرف نَفسَهُ، أثناءَ الجلوس إلى طاولة الحوار، على أنّه ملاكٌ، وعلى حقٍّ مُطلقٍ، والطّرف الآخر (المُختلف، الخصم) عدو وشيطان بالمطلق، وإلى الأبد.
- ضرورة الذهاب إلى الحوار، والحقيبة مليئة بالخُطط؛ أ، ب، ج، د...، بحيثُ في حال فشل الخطّة (أ)، يكون هناك دائمًا بدائل لاستمرارِ الحوار، وصولاً إلى حلّ يرضي جميع الأطراف.
- الحوار فنّ لا يعرفهُ أو يتقنه أصحاب الرُّؤوس الحامية، المدجّجة بالمواقف الدّينيّة أو القوميّة أو الطّائفيّة أو الأيديولوجيّة المسبقة.
- لتحقيق المكاسب، ينبغي أن يكون هناك دائمًا استعداد للتنازل. ما أعنيه هو المرونة، وتوفّر منطقِ المحاججة، وأساليب طرح الأفكار، وتقديم الأسانيد والبراهين التي تدعم موقف أيّة جهةٍ من الجهات المتحاورة، بحيث يكون معيار وميزان الحوار؛ لا غالب ولا مغلوب.
(6)
لا شكّ أنَّ الحوارَ مواجهةٌ، وبل "حرب باردة". كلّ طرف مشارك فيه، ليس على حقّ في كلّ ما يزعمهُ ويدّعيهِ، بل لديهِ نسبةٌ من الحقِّ، ونسبة أخرى من الباطل. ذلك أنّه لا حوار بين حقّ مطلق وباطل مطلق. أحيانًا، الذي يمتلك قوّة المنطق والحجّة، (وليس بالضّرورة أن يكون على حقّ دائمًا)، ربّما يمكنه أن يغلب صاحب الحقّ الذي يتعامل بمنطق القوّة. أمّا صاحب الحقِّ الذي يتعامل بقوّة المنطق والعقل والحكمة، فيمكنه أن يغلبَ سالبَ الحقّ، الذي يحاول حماية ظلمهِ عبر استخدام منطق القوّة. وأحيانًا، الظّالم الذي يهضم حقوق المظلوم، ونتيجة ضعف المظلوم وجهله بالوسائل الناجعة لاستعادة حقوقه، بالتقادم ومع مرور الزّمن؛ يعتبرُ الظّالمُ حقوقَ المظلومِ من صُلبِ مكتسباتهِ وحقوقهِ الأصيلة التي يرفض التفاوض عليها. لذا، لا مناص أمام أيّ شخص مظلوم، أو يشعر بالظّلم وهضم الحقوق، من اللجوء إلى الحوار.
(7)
اثنان يتهرّبان من الحوار: ضعيفُ الحجّةِ والبيان والبرهان، والقاهرُ المتجبّر، المتواري في لبوس المظلوم. أمّا الذي يمكن أن نراهُ داعية حوار، ويشارك فيه، ويعطّلهُ، ويسعى إلى تمييعهُ بهدف كسب الوقت، فهذا الشّخص أو الطّرف ليس جادًّا وصميميًّا في الحوار، بل يشارك فيه بقصد إفساده، وتصدير صورة مضللة عن نفسه، على أنّه مع الحوار، لكنّه في الأصل والفصل والأسّ والأساس، هو ضدّ الحوار.
(8)
أبرز السّمات الضّروريّة التي ينبغي أن تتوفّر في أيّ حوار ناجح ومنتج للحلول، أن تقرَّ وتتبنّى الأطراف المشاركة فيه ما يمكن وصفه بـ"سياسة منتصف الطّريق". وكي يُقنع طرفٌ طرفًا آخرَ بوجهة نظرهِ، وأحقيّةَ موقفهِ ومطالبهِ، عليهِ السّيرُ نحو الطّرف الآخر. وما أن يصل مع الطّرف الآخر إلى منتصف الطّريق، تكون الكثير من العقد والملفّات العالقة قد جرى حلّها، وجرى وضع خارطةَ طريقٍ لحلحلة العقد المتبقّية، وصولاً إلى الاتفاق على خارطة طريق نهائيّة للقضيّة أو المشكلة التي بسببها تداعت الأطراف المختلفة إلى الحوار.
(9)
إنكار طرف مظلوميّة طرف آخر، بعلمٍ أو بجهل، ليس مدخلاً مناسبًا لأيّ حوار. وإصرار أيّ طرف على مظلوميّتهِ بجهل، من دون مراعاةِ حساسيّات الآخر، وآداب ومبادئ الحوار، هذا أيضًا ليس مدخلاً مناسبًا للدخول في أيّ حوار. ذهنيّة التّخندقِ والتّمترُسِ وراءَ الدّوغمائيّات، لن تؤسِّسَ حوارًا بنّاءً مُجديًا، مُثمرًا وناجحًا.
(10)
ثلاثة إذا دخلوا أيّ حوار، محالٌ أن يكون ناجحًا:
- صاحبِ الرّأسِ الحامي، الشّعبوي من ذوي الشّعارات والمزاعم الكبرى، والخرافاتِ والأوهامِ القوميّةِ، في السّيادةِ والرّيادة على العالمين.
- الدُّمية السياسيّة التي تسيّرها أوامر خارجيّة، غير الممتلكةِ قرارها وإرادتها الحقيقيّة الوطنيّة الصّلبة. هذا الشّخص أو الطّرف ربّما يتفوّه بكلام وطني، إلاّ أنّه يمثّل مصالح أطراف خارجيّة تدعمه وتموّله.
- علماءُ الباطل. وهم المثقفون المنتفعون من استمرار الظّلم وانعدام العدالة. نعم، كما للحقّ علماؤهُ المدافعين عنه، كذلك للباطل علماؤهُ المستفيدون منهُ والمدافعون عنهُ، والمتضرّرون من زوالهِ. هؤلاء رأس حربة الاستبداد، لكونهم يمتلكون مهاراتِ وفنونَ قلبِ الحقّ باطلاً، والباطل حقًّا، وفي مقدورهم التّسويف والتّتفيه، وصولاً إلى تعطيل وتدمير أيّ حوار، بطرقٍ في ظاهرها، مهنيّة، وفي باطنها، ملتوية.
حاصل القول
في الغالب، نتحدّث كثيرًا حول الأشياء التي نفتقدها. نتحدّث عن الحريّة، والديمقراطيّة، والعدالة الاجتماعيّة، والتّسامح، والوطنيّة، والحوار، وتنظيراتنا الغزيرة حول هذه المفاهيم، لا تعني بالضّرورة أنّنا مشبعون تمامًا بها، وصرنا منتجين لها، وحان الوقت الذي يمكننا فيه تصدير إنتاجنا من هذه القيم والمفاهيم إلى الآخرين الذين يفتقدونها أيضًا. ذلك أنّ هذه القيم والمفاهيم والضّروراتِ السياسيّة، الاجتماعيّة، الثقافيّة، الوطنيّة والحضاريّة، إذا ما تعارضت مع مصالحنا، ننكفئ على أنفسنا، ونتحوّل إلى التّعامل الموارب والملتبس مع القيم التي ننادي بها ونزعم أنّنا ننتجها، بينما المُختلفون معنا، أو خصومنا، فهم الجهلة المتحاملون، فاقدو قيم ومبادئ الحوار والديمقراطيّة والحريّة...الخ.
ممّا لا شكّ فيه، أن جودة أيّ حوار، هي في ما ينتجه من حلول. وإلّا لأصبح حوارًا لأجل الحوار وحسب؛ محض ثرثراتٍ ومضيعة للوقت. لكن، حتّى هذا النّوع من الحوار، في ظنّي وتقديري، على سوئه، يبقى أفضل بكثير من خيار المواجهة والصِّدام والحرب.