"هيبة الدين"، "هيبة الدولة"، "هيبة الزعيم"، "الحزب"، "الطائفة"، "الشيخ"، "المثقف"، "هيبة الأكاديمية"...، وسلسلة طويلة من التسميات والتوصيفات المخادعة التي يسعى المستفيدون منها إلى تكريسها وترسيخها وفرضها على النّاس ودفعهم للصراع والتقاتل والاحتراب من أجلها، باعتبار أنَّ كل هيبة ممّا تمّ ذكرها هي حصنهُ ومبرِّرُ وجودهِ وأسُّ هويّته، ومن دونها تنهار كينونته ومنظومته القيميّة والأخلاقيّة!
ومن طبائع الأمور أنّ استجابة النّاس للكلامُ المضلل، المخادع والكاذب الذي يخاطب المشاعر والغرائز، تكون أسرع بكثير من الكلام المتوازن الموضوعي الموجود على الضفّة الأخرى المناهضة والذي يخاطب العقل والمنطق والأخلاق في الإنسان! وأحيانًا تتداخل هذه الهيبات المزعومة في تشكيل صلابة جدار الدوغما العقائديّة وأيديولوجيّاتها لدى البشر، فتصبح هيبة الزعيم أو الشيخ أو المثقف من هيبة الدولة، وهيبة الدولة من هيبة الأمّة والدين! لكن، إلى متى سيبقى هذا الاعوجاج والاعتلال والتخبّط الدموي الأعمى هو الأكثر انتشارًا وتأثيرًا وقادرًا على التحكُّم بالمجتمعات عبر تحرير الحشود داخل البيئات السياسيّة الفاسدة كتحريك قطعان الدهماء والغوغاء؟ متى ستنتهي هذه المهزلة الإنسانيّة؟ الحقُّ أنَّ الإجابة الأكثر سهولةً؛ هي في عدم وجود إجابة، وربّما نهاية العالم هي الكفيلة بإغلاق هذا السؤال نهائيًّا. وعليه، من باب الطرافة والتندّر، أحيانًا يطالب المرء بالإسراع أو الاستعجال بسقوط النيزك المُدمِّر على كوكبنا كي ينهي العجز الأبدي عن إيجاد حلّ لهذه المعضلة المزمنة!
بعد السابع من أكتوبر 2023، وصولاً إلى 17 سبتمبر 2024 وما حصل لـ"حزب الله" من جراء هجمات إسرائيل وما بات يُعرف بـ"غزوة البيجر"، إذا أجرينا جردة حساب أو مراجعة بسيطة، سنرى أنَّ فريقًا يتحدّث عن هيبة إيران والمقاومة والممانعة وأذرعها وكيف حطَّمت وتحطِّمُ هيبة إسرائيل وتمرِّغها في التراب، وفريقًا آخر يتحدَّث عن هيبة إسرائيل التي حطَّمت هيبة إيران في إيران، لبنان العراق، اليمن وفلسطين. ولا أحد يتساءل من الفريقين: هذا الصراع الدموي المحتدم بين الهيبتين المزعومتين والفاشيتين، متى سينتهي؟ ألا يخفي خلفه تحالفًا خفيًّا وقودهُ الجهلُ والعصبيّات والأخذ بظواهر الأمور وعدم الغوص والخوض في البواطن والخفايا؟ أليس الضحايا الحقيقيون من هذا (الصراع – التحالف) هم الناس البسطاء الذي لا يعني لهم شيئًا؛ إذا انتصرت هيبة إسرائيل على هيبة إيران أو العكس، طالما الحصيلة النهائية هي سقوط هيبة الحياة والكرامة الإنسانيّة والقانون والأخلاق، وتدفّق دماء الناس الأبرياء كتدفُّق مياه الصرف الصحِّي، مع الأسف الشديد!
إسرائيل التي كانت ولمّا تزل تتحجّج بـالهولوكوست" و"معاداة الساميّة"، حوّلت حياة الفلسطينيين إلى هولوكوست أبدي مفتوح، وبكل ما تمتلكه من هيبة رهيبة وقوّة سلاح وتقدّم علمي، وانتصار على العرب في 1948 و1967 و1982 و2006، وصولاً إلى 2024 هل نجحت في تحقيق السلام والأمان للمواطن الإسرائيلي؟ طبعًا لا! وهذا تأكيد واضح وصريح وموثق على أنَّ التفوّق في السلاح لم ولن يجلب الأمن إذا بقي الحقّ الفلسطيني مهدورًا منتهكًا. وعليه، النووي الإسرائيلي إذا كان في مقدورهِ تهديد أمن كوكب الأرض والمجرّة، ما نفعه إذا فشل في تحقيق الأمن والسلام والاستقرار لمواطن إسرائيلي واحد؟! طالما بقي الحق الفلسطيني منتهكًا ومهدورًا، فهذا الحقّ أقوى من النووي الإسرائيلي وكل القدرة الاستخباراتيّة والقتالية والتفوّق التقني والأمني الإسرائيلي. هذه الحقيقة الدامغة والمريرة التي أكّدتها تجارب إسرائيل من 1948 ولغاية 2024، لا يودّ قادة الكيان العبري ونخبه الاعتراف بها!
كذلك بعض الأنظمة العربيّة وقطّاعات هامّة من شعوبها أيضًا، ما تزال تأكل وترقص على إيقاع أكاذيب وخرافات محور المقاومة الإيراني، ومزاعم هيبة هذا المحور، وتنام وتصحو على حرير الأوهام وفي عسل الخرافات، ومَن يحاولُ إيقاظها تعتبره عدوًّا لهيبة الأمّة العربيّة الواحدة و"ذات رسالة خالدة"، وهيبة الدين! وبالتالي، هل من الغلوِّ في شيءٍ القول: إنَّ جزءًا كبيرًا من هيبة إسرائيل يتأتّى من استمراء قطاعات كبيرة من الشعوب العربيّة النوم على ريش الشعارات والخرافات والأكاذيب الإيرانيّة الصنع!
الغريب في الأمر أنَّ من يدفع فواتير الهيبة الإيرانيّة في المنطقة هم شعوب فلسطين، لبنان، العراق، اليمن وسوريا، ومن يدفع فواتير الهيبة الإسرائيليّة هم نفسهم الشعوب السابقة الذكر، أكثر من شعبي إيران وإسرائيل. ولحين إلحاق الأذى بإسرائيلي واحد من قبل محور المقاومة وهيبتها، يتأذّى عشرة آلاف فلسطيني ولبناني وسوري ويمني، وربّما أكثر!
واضحٌ أنَّ قادة وأقطاب الهيبتين المتحاربتين راضون عن هذه الحصيلة. وعليه، ليس من المبالغة القول: إنّ هيبة إيران من هيبة إسرائيل، والعكس صحيح. وكلتا الهيبتين ترضعان من ثدي واحد هو تجهيل وتسطيح الوعي وتعطيل مساءلة المجتمعات العربيّة حيال جدوى ما ألحقه المحور الإيراني من ضرر وخسائر ودمار بالشعوب والأوطان والقضايا العربيّة أكثر من إلحاقها الضرر بإسرائيل، وتصبُّ جهودها في طاحونة المصالح الإسرائيليّة!
على المقلب الإسرائيلي، الرأي العام في الكيان العبري، لا يسائل قادته: أيّة أرضٍ موعودة، وأيّ سلام وأمن موعودين حققها العنف والسلاح والنووي للمواطن الإسرائيلي؟ حتّى لو استهدف "الموساد" جماعات محور المقاومة في كراسي التواليت أو في ساعات اليد أو شاشات التلفزة في منازلهم أو في أحذيتهم أو الأدوية التي يتناولونها...، ما جدوى ذلك إذا كانت المحصّلة صفريّة، والنتيجة هي الذعر والقلق المزمن والشعور بعدم الاستقرار والخوف من الغد الذي ينام الإسرائيليون ويصحون عليه!؟ ما الجدوى من دولة فشلت على امتداد 76 عامًا في تأمين الأمن والأمان لمواطنيها؟ أيّة هيبة تلك يمكن الحديث عنها طالما أن الموطن يخشى من طعنة سكين أو رصاصة أو قذيفة هاون أو صاروخ بدائي الصنع!؟
يبقى القول: أيّة دولة تتفاخر، بل تتبجّح طوال 76 سنة باستعدادها للمواجهة وخوض الحروب وفتح الجبهات والقتال حتّى النهاية، هكذا دولة هي غير مستعدّة قط لبناء سلام، مهما امتلكت من جبروت السلاح والتفوق العلمي، قوّة الدعاية والإعلام والبروباغندا المخادعة.
كذلك الدولة الدينيّة الطائفيّة العاجزة عن تأمين السلام والأمان الرخاء لمواطنيها كإيران، لن تكون جمعيّة خيريّة مفتوحة لشعوب البلدان الأخرى!