في عام 1992 نشر الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريز كتابه الموسوم بـ"الشرق الأوسط الجديد"، وخلص فيه إلى تصوّره لمنطقة الشرق الأوسط، وفي القلب منها إسرائيل، ودورها القائد والمحرك، حيث اعتقد أن ما لم تحققه إسرائيل بالحروب، يمكنها تحقيقه بالسلام.
وفي مارس (آذار) 2004، طرحت مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي مفهوم "الشرق الأوسط الكبير". وفي الحرب الإسرائيلية السابقة على لبنان سنة 2006، وصفت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس تلك الحرب بأنها "المخاض القاسي لولادة الشرق الأوسط الجديد".
بالتوازي مع هذه المشاريع التوسعية، لا يمكن إغفال "الشرق الأوسط الإيراني" الذي يستثمر في الوقود الطائفي (الشيعي) والديني (الإسلامي) بدءًا من العراق، مرورًا بمنطقة الخليج، وصولاً إلى فلسطين ولبنان وسوريا.
وما نعيشه ونشهده حاليًا ليس إلاَّ تصادمًا بين هذه المشاريع المتقاتلة على منطقة الشرق الأوسط. والسؤال: وسط هذه التوصيفات والسيناريوهات الأميركية أو الإسرائيلية أو الإيرانية المتعلقة بالشرق الأوسط، وبالرغم من أن المنطقة عاشت على امتداد أربعة قرون ما يمكن تسميته بـ"شرق أوسط" عثماني – تركي، لماذا لا نرى تصوّرًا تركيًا خاصًا بمنطقة الشرق الأوسط؟ لماذا تركت تركيا الشرق الأوسط لإسرائيل، وإيران، وأمريكا؟
مناسبة هذا الكلام
تشهد الساحة التركية حاليًّا نقاشًا واسعًا حول مبادرة لتسوية جديدة للملف الكردي سلمياً، تقوم ركيزتها الأولى على الحكومة التركية، ويعد زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، "المسجون" في تركيا منذ 15 فبراير 1999، رأس الحربة فيها. ومن الطبيعي أن تعترض هذا المخطط استهدافات عنيفة وإرهابية من قبل أمراء الحرب المتضررين من السلام، سواء على ضفة الكردستاني، أو ضفة الدولة العميقة في تركيا، أو بعض الجهات الإقليمية والدولية. بمعنى، ربما تشهد تركيا هجمات أخرى تشبه الهجوم الإرهابي الذي استهدف منشأة "توساش" التركية المعنية بعلوم الطيران والصناعات الجوية والمسيّرات مؤخرًا.
والسؤال هنا: هل ستتراجع تركيا الرسمية أمام محاولات أطراف الدولة العميقة أو الكردستاني لعرقلة المساعي الأوجلانية – الأردوغانية؟ لا أعتقد ذلك، لعدة أسباب:
أولاً:
مبادرة التسوية هذه تختلف عن سابقاتها في عام 1993 على عهد الرئيس التركي تورغوت أوزال، وفي عهد رئيس الوزراء نجم الدين أربكان سنة 1996، وحتى عن المبادرات التي جرت في عهد حكومات العدالة والتنمية خلال الأعوام 2009 – 2011 – 2013 - 2016. لأن الحكومة الحالية (AKP+MHP) والمعارضة، وجناحاً من الكردستاني الممثل في البرلمان (DEM Parti)... جميعها تدعم المبادرة. ما يعني توفُّر شبه إجماع في الطبقتين السياسيتين الحاكمة والمعارضة على المضي في التسوية التي باتت قرارًا وخيارًا استراتيجيًّا.
ثانيًا:
ترك حزب "العدالة والتنمية" لشريكه في الائتلاف الحاكم، بزعامة دولت باهتشلي، مهمة الإعلان عن المبادرة، عبر توجيهه الدعوة لعبد الله أوجلان إلى البرلمان التركي كي يعلن حل الكردستاني وإلقاء السلاح. ما يعني أن أبرز قطب من أقطاب القومية التركية والدولة العميقة داعم ومساند لهذه التسوية!
والسؤال هنا: لماذا يرفض حزب الحركة القومية اليمني الحلول التي يطرحها أوجلان أصلاً؟ ذلك أن زعيم الكردستاني، منذ لحظة اعتقاله في 15 فبراير 1999، يؤكد أنه "يحب تركيا والشعب التركي، ويريد خدمة تركيا ومصالحها"، وأن "أمّه تركية"، وأنه "عمليًا وإيديولوجيًا تركي"، وأن اللغة الكردية المتواضعة التي يتحدث بها هي فقط لتسيير بعض الأمور الحزبية. وكرر دعوته ذاتها أمام الرأي العام التركي والكردي والعالمي، خلال محاكمته في مايو – يونيو 2000، واعتذر من عوائل الجنود الأتراك ووصفهم بالشهداء. ليس هذا وحسب، بل استمر في دعواته تلك طوال فترة اعتقاله، وانتقد الثورات الكردية في عامي 1925 و1938، وبرَّر لمصطفى كمال أتاتورك سحقه لتلك التمردات وإعدام قادتها، ووصفها بالرجعية. كذلك، مدح أوجلان المرحلة التأسيسية للجمهورية التركية، وتخلى عن مطلب الدولة القومية الكردية، ووصفه بالطرح والمطلب الرجعي. صار يهاجم حق الكرد في تقرير مصيرهم ضمن دولتهم المستقلة، ويهاجم إقليم كردستان العراق ويعتبره "إسرائيل ثانية" و"خنجرًا في الخاصرة العربية والتركية"، ويدعو تركيا إلى محاربة الإقليم الكردي! وفي هذا السياق، يمكن القول إن أوجلان 2000 وحتى 2024 ليس هو أوجلان 1978 وحتى 1998، بل بات أتاتوركيًّا أكثر من الأتاتوركيين.
باتت واشنطن على قناعة بضرورة تشكيل كيان كردي مستقل في منطقة الشرق الأوسط، ليكون بمثابة الثقل الاستراتيجي الوازن الذي يدعم مصالح أميركا في المنطقة بالضد من المصالح الإيرانية والتركية.
خسارات تركيا وندمها
عام 2003، رفضت أنقرة الاشتراك مع واشنطن في إسقاط النظام العراقي السابق، ومنعت استخدام قاعدة "إنجيرليك" خشية أن يكون إسقاط صدام مدخلاً لتقسيم العراق وتشكيل كيان كردي على حدودها. استفادت إيران من الفراغ الذي تركته تركيا وتحالفت مع أميركا، وأصبحت الفيدرالية الكردية واقعًا مفروضًا، واضطرت أنقرة إلى الاعتراف بها والتعامل معها رسميًا.
الخسارة الثانية كانت في سوريا ولبنان وفلسطين، حيث تمددت إيران عسكريًا واقتصاديًا وإعلاميًا، وسيطرت على القرار في لبنان و"حكومة غزة" عبر حزب الله وحركة حماس. كذلك، تصدعت علاقات تركيا مع مصر والسعودية ودول الخليج، باستثناء قطر. هذا الفتور والخصام مع مصر والسعودية عزز التغلغل الإيراني في الشرق الأوسط على حساب انحسار تركيا، وارتفاع منسوب الكراهية لها في الشارع العربي.
تبين لمراكز صنع القرار في تركيا مؤخرًا أهمية استغلال "العامل الكردي"، الذي اعتبرته خطرًا طوال قرن، وكافحته عسكريًا لكنها فشلت. وقد أصبح هذا العامل على وشك التحول من خرافة للاستهلاك القومي المحلي التركي (لزوم الانتخابات البرلمانية والمحلية)، إلى خطر حقيقي محدق بأمن واستقرار تركيا. باتت واشنطن على قناعة بضرورة تشكيل كيان كردي مستقل في منطقة الشرق الأوسط، ليكون بمثابة الثقل الاستراتيجي الوازن الذي يدعم مصالح أميركا في المنطقة بالضد من المصالح الإيرانية والتركية. وربما يكون الكيان الكردي حليفًا استراتيجيًّا مستقبليًّا بدلاً من تركيا. لهذا، تسعى أنقرة حاليًّا وبشكل جاد إلى وضع الخطط لاستثمار الورقة الكردية واحتوائها، قبل أن تصبح ورقة أميركية خالصة.
ما يعني أن التفاهمات التي توصلت إليها الاستخبارات التركية مع عبد الله أوجلان ستدخل حيز التنفيذ، ومن يعارضها، سواء من الكردستاني أو الدولة العميقة، سيتعرض للسحق. لأن تشكيل كيان كردي في إيران أو العراق أو شرق الفرات، بدعم أميركي، سيجبر تركيا على الاعتراف به، وربما سيتنازل له، وقد يكون مقدمة لتفتيت تركيا أيضًا. وبالتالي، أعادت أنقرة حساباتها ووجدت أن الوقت قد حان للاستفادة من ورقة أوجلان لممارسة الضغط على جماعته كي يلقي السلاح ويقبل بالصيغة المتفق عليها مع الاستخبارات التركية.
فرص تحقيق شرق أوسط تركي – كردي باتت قوية. وإذا لم تغتنم تركيا الفرصة، ولم تتنازل للكرد وتمنحهم جزءًا مهمًا من حقوقهم لكسب ثقتهم وولائهم، ستخسر تركيا الكُرد إلى الأبد، بل ستخسر أكثر مما خسرته سنة 1916.
ويحقُّ للمراقب التساؤل: ما فحوى أو طبيعة تلك الصيغة المتفق عليها؟ وتتلخّص بالنقاط التالية:
أولاً: إعلان الكردستاني التوقف عن الكفاح المسلّح وإلقاء سلاحه. سيتم وضع خطة لنزع سلاحه، وإصدار عفو عام أو جزئي عنهم، وترتيب الأمور القانونية لاستيعابهم وإعادة تأهيلهم، وإرجاعهم إلى كنف الدولة والمجتمع التركيين.
ثانيًا: قبول ضم منطقة شرق الفرات السورية، وكل مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية "قسد" (دير الزور والرقة + الحسكة والقامشلي) إلى تركيا، مع الحفاظ على سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي في تلك المناطق، أسوة بسيطرة رديف الكردستاني (DEM Parti) على مناطق جنوب شرقي تركيا، بحيث يدير البلديات والإدارة المحلية، مع تفكيك القوة العسكرية لـ"قسد".
ثالثًا: ضم مناطق نفوذ العمال الكردستاني في كردستان العراق وكردستان إيران إلى تركيا، ضمن مخطط متفق عليه. ومحاولة إقناع القيادة الكردية العراقية بالانضمام إلى تركيا.
رابعًا: دعوة أوجلان الكرد في تركيا ومنطقة الشرق الأوسط ودول الشتات إلى محاربة مشاريع ومخططات أميركا الاستعمارية الإمبريالية والصهيونية... إلخ، باعتبارها مناهضة لمصالح الكرد وشعوب المنطقة.
وضعت أنقرة خططًا وبرامج لتنفيذ هذه النقاط على امتداد من ثلاث إلى خمس سنوات. والسؤال: هل هناك قوة ممانعة لهذا المخطط داخل الكردستاني في جبال قنديل؟ الجواب: نعم. إذ إن هذه القيادة، ممثلة بجميل بايق، خاضعة تمامًا للإرادة والقرار الإيراني، وطهران ترفض أي مسعى سلمي في تركيا، ومن مصلحتها استمرار دوران طواحين الحرب بالدماء التركية والكردية. لذا، أتى الانفجار الإرهابي الذي استهدف أنقرة كرسالة من بايق (ومن خلفه طهران) إلى أوجلان وتركيا، مفادها: أنّ بايق هو الزعيم الحقيقي، وهو الذي يقرر متى وكيف يلقي الحزب سلاحه، وليس عبد الله أوجلان. صحيح أن العمال الكردستاني أصدر بيانًا، أكّد فيه التزامه بمواقف وقرارات أوجلان، إلا أن ذلك البيان كان للاستهلاك المحلي وذرّ الرماد في العيون، وإظهار الحزب ساعيًا إلى السلام ومصممًا عليه، بينما الخلاف المحتدم بين بايق وأوجلان موجود ويتم التكتم عليه.
ما يؤكد الخطة الأردوغانية – الأوجلانية هو حديث أردوغان وقطاعات واسعة من النخب التركية عن "الميثاق المللي" في تركيا، وضرورة التوجه نحو تفعيله، وصولاً إلى تشكيل تركيا الكبرى، بضم كركوك والموصل وكردستان العراق، وشمال سوريا، ومناطق من كردستان إيران وأذربيجان – إيران، والتمدد في اتجاه آسيا الوسطى الذي يقلق روسيا وإيران. ولن تنتظر أنقرة الموافقة أو الإرادة الدولية في هذه الفترة الأكثر تأزمًا من تاريخ المنطقة، التي تشبه فترة نهاية الحرب العالمية الأولى والثانية، حيث تغيّرت فيها خرائط العالم. فالمجتمع الدولي الذي فشل في منع وإيقاف الحرب الروسية على أوكرانيا، والحرب الإسرائيلية على فلسطين ولبنان، وفشل في وقف حرب النظام السوري على شعبه، هل سيعجز في منع التمدد التركي جنوبًا وشرقًا؟
ضعف وتضعضع إيران، والبلبلة والانشغال الذي يشهده العالم، هي الفرصة الذهبية لتركيا، وستستغلها إلى الحدود القصوى، وسيكون أوجلان ومن معه حصان تركيا الرابح. هذا الرأي مستند إلى بعض المعلومات وبعض المعطيات، أقلُّها اتصال عبد الله أوجلان مع مظلوم عبدي، قائد "قسد"، واتصاله مع جميل بايق في جبال قنديل، بأمر من الاستخبارات التركية.
يسعى الرئيس التركي للعب دور السلطان العثماني سليم الأول، حين استمال الكرد إلى جانب العثمانيين في معركة "تشالدران" ضد الشاه إسماعيل الصفوي سنة 1514. كذلك، يود عبد الله أوجلان لعب دور الشيخ إدريس البدليسي (الكردي) الذي عاون سليم الأول في إقناع وحشد العشائر والقبائل الكردية للقتال مع العثمانيين. ولولا الدعم الكردي وقتذاك، لما تحقق ذلك النصر التاريخي للأتراك. والسؤال هنا: هل سيتبع السلطان سليم الأول (المعاصر) خطا أجداده ويمنح الكرد إمارات شبه مستقلة ضمن تركيا الحالية؟ وهل سيكون إدريس البدليسي (المعاصر)، أي أوجلان، بنفس حنكة ودهاء إدريس البدليسي (القديم) ويسعى إلى خدمة مصالح شعبه، أم سيكون مجرد خادم متعاون مع المصالح التركية على حساب الحقوق الكردية؟
فرص تحقيق شرق أوسط تركي – كردي باتت قوية. وإذا لم تغتنم تركيا الفرصة، ولم تتنازل للكرد وتمنحهم جزءًا مهمًا من حقوقهم لكسب ثقتهم وولائهم، ستخسر تركيا الكُرد إلى الأبد، بل ستخسر أكثر مما خسرته سنة 1916.