عندما أحكم الأسد إغلاق كل منافذ الحياة من حولنا، وداس بأحذية مخابراته على كرامتنا وأصبحنا نستجدي النور من شراقات زنازينه، حسمنا أمرنا، وقلنا: لا، الشعب السوري ما بينذل!
وكانت الثورة، صرخنا ولم تملَّ حناجرنا النشيد، نثرنا الورود على فوهات البنادق، ومطالبنا لم تتجاوز حدود الحرية والعيش الكريم، لكنه لم يستجب، وقابل الكلمة بالرصاص ونشر الموت في كل الزوايا، وغرس القضبان على بوابات الروح، هربنا من الموت فرادى وجماعات، ليس جبناً ولكن تكالبت علينا قوى الظلم والظلام من بوتين وتكالبه لاستعادة مجد ضيعته الديكتاتورية وأيديولوجيا الواحد الأوحد، وإيران وحلم الطائفة المنشود..
تنشقنا الكيماوي ولم يقوَ الموت على سحب آخر أنفاسنا، حملنا ما تبقى من أعمار أطفالنا وركضنا بلا هدف
نعم هربنا وبراميل الموت تلاحقنا، وطائرات الحقد تسبر وقع أقدامنا، لكننا لم نهرب من أحلامنا، لم نهرب إلا لنحمي عيون أطفالنا من لون الدماء وأنوفهم من رائحة البارود ومع ذلك لحقتنا إلى الخيام والبراري، صبت نار حقدها على بقايا أجسادنا، لوثت الهواء باصفرار الموت، منذ ذلك الزمن لم يعد الموت استثناء في درب مشيناه اثني عشر عاماً.. ولم يعد الدمع تعبيراً عن لحظة حزن سيبتلعها النسيان، ولم تعد دروب الهروب على تشعبها توصل إلى النجاة، كل الدروب عنونت نهاياتها، بالغربة حيناً، وبالشوق حيناً، وبالموت في كل الأحيان، وكل الحدود التي أُغلقت فتحت أبوابها نحو السماء وختمت أرواحنا بتأشيرة ذهاب بلا عودة..
تنشقنا الكيماوي ولم يقوَ الموت على سحب آخر أنفاسنا، حملنا ما تبقى من أعمار أطفالنا وركضنا بلا هدف، كبتنا صرخاتنا أمام لهاث الموت المنساب دمعاً من عيونهم كي لا يخافوا، تعبنا وتعب الموت من الركض خلفنا، وحطت بنا الرحال على مسافة القلب من الوطن، كنا نربي الحلم بما يحمله الهواء من رائحة الياسمين ونكبر على وعدٍ بلا هراوات ولا زنازين..
لم يسعفنا الأمل، ولا سامحنا الموت عندما لم نعطه فرصةً للقبض على أرواحنا طول الطريق من الغوطة إلى أريحا، ومن شوارع الشام إلى حارات إدلب، ومن حمص وحلب وكل المدن إلى أطراف الحدود، وأخذنا استراحة على حدود القلب..
أخذنا الموت في هذه المرة على حين غرة ونحن نتشبث بأطراف الشوق، ونقص حكايا العودة والحنين
لم ينس الموت أن قذائف الموت وبراميل الدمار لم تنل من أرواحنا وخرجنا غصباً عنه من بين الأنقاض ومن مسامات الدخان لنعلن أننا ما زلنا على قيد الحلم والحياة.
جاءنا اليوم الموت غداراً، بغفلة من النوم، يسيل من باطن الأرض التي آمنا بها ليزلزل كل شيء فوق أرواحنا المتعبة، أرواحنا التي ملَّت الانتظار.
أخذنا الموت في هذه المرة على حين غرة ونحن نتشبث بأطراف الشوق، ونقص حكايا العودة والحنين.
جعل بيوتنا قبوراً، وكوم الركام والإسمنت والحديد فوق رموشنا، سدّ منافذ الهواء على أرواحنا كي لا نصرخ، كبّل أيدينا وثبّت أقدامنا بأطنان من الأسقف المنهارة، تركنا والأنين الأخير يعلن موتنا هذه المرة دفعةً واحدة، بعدما كان يلاحقنا من خيمة لخيمة ومن جدار إلى بقايا جدار، وعلى امتداد رقعة اللجوء تمدد الحزن هذه المرة ليعلن عن نفسه تارة بمكالمة هاتفية قطعها البكاء ولم تكتمل، أو بنص رسالة تعثرت كلماتها بنشيج مبحوح.. وتاه صوتها فوق الحدود. طمنونا عنكم، طمنونا عن أمي وأختي، طمنونا عن أبي وجدتي، لا أريد الآن أن أسأل عن حال الوطن ولا عن هواء الياسمين ولا كيف ضاع الطريق، ولا حتى كيف صرنا بعد هذي السنين!!؟؟
أريد فقط أن أطمئن هل ما زال للروح نبض للشوق والحنين؟؟!