لا ينتمي هذا الكتاب إلى نوع من «الكتابة السهلة الميسّرة التي لا تجهد القارئ» فقط، الغنية «بالأهداف التربوية الحضارية»، كما قال عرّابه الأستاذ الدكتور موفق دعبول في مقدمته، بل يشفّ أيضاً عن معطيات تفيد في فهم المجتمع الدمشقي في العقود الأخيرة.
ولد دعبول (1936 – 2021) في حي الميدان على طرف العاصمة السورية. واختار أن يدرس الرياضيات التي تفوق فيها حتى حاز شهادة الدكتوراه في ميكانيك السوائل وهو في الخامسة والعشرين من العمر. ليبدأ مسيرة من التأليف والترجمة في اختصاصه حملته إلى عدة مناصب في جامعة دمشق وعدد من الجامعات الخاصة. وعلى ضفاف العمل الأكاديمي أسهم في تأسيس «الجمعية السورية للمعلوماتية» وصار رئيسها لمدة، كما تولى رئاسة مجلس إدارة «جمعية المحدّث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني» لأكثر من عقد. وأخيراً حاز عضوية «مجمع اللغة العربية» بدمشق لما عُرف عنه من عناية باللغة العربية وإتقان سواها.
لا تكمن أهمية الكتاب في ما يقوله فقط، بل أيضاً في ما ندّ عنه من خلفية، اجتماعية وثقافية ودينية وسلوكية
أما فكرة هذا الكتاب فقد تناسلت عن لقاء الأسرة الأسبوعي الذي دأب فيه دعبول على استقبال أولاده وأزواجهم والحفدة في يوم الجمعة. ولم يكن محض لقاء عائلي بل محطة ثقافية وتربوية أراد رب العائلة أن تداخلها القراءة والحوارات والتوجيه. ثم قرر الجميع مشاركة تجربتهم وأفكارهم مع الآخرين في كتاب من جزأين؛ تكفل الأب بأولهما وتقاسم الأولاد الأطباء الأربعة؛ بشر ولينة وأمان ويمان، الثاني.
لا تكمن أهمية الكتاب في ما يقوله فقط، بل أيضاً في ما ندّ عنه من خلفية، اجتماعية وثقافية ودينية وسلوكية، تُبدي معالم كثيرٍ مما لا يحظى بتعريف واضح رغم استخدامه في المجال العام؛ كالشخصية الدمشقية والإسلام الشامي، أو جزء معاصر من تكوين وعقلية شريحة وازنة منهما؛ مثقفة محافظة من الطبقة الوسطى العليا التي تعتمد في معيشتها على مهن تستند إلى التحصيل العلمي والتخصص العالي.
في أماكن مختلفة من الكتاب يروي دعبول أطرافاً من سيرته. فقد تلقى تعليمه الأوليّ في الكتّاب ثم في المدارس النظامية. وأضاف إليها ما تلقاه، من علوم العربية وسواها عن الشيخ مصطفى الخن، تلميذ الشيخ حسن حبنّكة، في جامع الدقاق الشهير في حيه الميدان. ثم تقدّم لمنحة أعلنت عنها وزارة التربية ضمنت له راتباً يغطي نفقات دراسته الجامعية. حتى أوفد إلى النمسا حيث نال الدكتوراه في أربع سنوات. وعاد للتدريس في جامعة دمشق إلا في بعض سنوات إعارة إلى جامعة طرابلس بليبيا.
ينتمي دعبول إلى جيل يمكن إلحاقه برواد النهضة العربية. يتضح هذا في سمات الإرادة والعزم والدقة التي تتجلى في كتابته هنا، وأكثر من ذلك في حضور الهم العام، العربي الإسلامي، حتى في رسائله إلى أولاده التي تحتل صفحات كثيرة من جزئه الخاص، وتتناول موقع الشرق من العالم بعد أن بات تحت سيطرة قطب واحد. في حين تخفُت هذه اللهجة في ما كتبه الجيل الثاني للعائلة الذي حافظ على إيمانه بدوره في «خدمة الناس» من موقع طبي، دون اعتناء بما هو أبعد من ذلك من طموحات إلا في مناسبات نادرة.
وكان الأب قد اشترط على ابنيه أن يعودا من الولايات المتحدة الأميركية فور إنهاء متطلبات التخصص، مستخدماً لذلك سطوة «الرضا» الذي يحتاج إليه المسافرون من الأبناء ليحظوا بالتوفيق المنشود. إذ يشغل رضا الوالدين موقعاً مهماً في بنية إسلام دمشق أكثر من سواها، بالإضافة إلى العمل الخيري الذي يعدّ ضمانة أخرى للرزق والعناية الإلهية، خاصة إذا استهدف جبر خواطر الضعفاء في المجتمع. كما في القصة الواردة في الكتاب، نقلاً عن رب العائلة، عن الفتاة المضطربة فاطمة التي أرسلها الشيخ أبو عبد الرحمن إلى مصنع الحاج أبي أحمد للقمصان تخليصاً لها من وضع منزلي صعب. وقد أثمر جهد الخيّرين وصبرهم في تغيير حياتها كلياً. وهي قصة لها نظائر في مواضع من الكتاب بجزأيه، وإن انسدلت، بين الجيلين، من أولوية الفعل إلى حضورٍ أكبر للقدر الطيب الذي لا بد أنه سيأتي ما دام المرء يضع نفسه في منظومة عمل الخير وقضاء حوائج الناس.
يختلف وضع المرأة جزئياً، كما يتضح من رسائل دعبول لابنتيه ومن كتاباتهما، لكنه يحافظ على المعالم الأساسية المطلوبة للشخصية من دين وخلق وتعليم لا يتم التهاون فيه رغم ظروف الزواج والاعتناء الضروري بالأسرة. وتبرز هنا، بشكل أوضح من الذكور، أهداف تمكين البنات من صفات القوة والثقة بالنفس والحضور الاجتماعي، فضلاً عن الاستقلال الاقتصادي اللازم ليفكرن بحرية.
إنها إحدى نسخ مزيج الدين والدنيا؛ العلم والإيمان؛ الأصالة والمعاصرة التي توصلت إليها دمشق الراهنة بعد معركة الحداثة الغربية والتقاليد المحلية
أما الإطار العام الناظم للحياة فيتكون من حزمة من الخصال التي يعبّر عنها قاموس الكتاب اللغوي بكلمات تتناثر في أرجائه وتؤسس شيفراته العميقة؛ كالإيمان والعمل والمثابرة والإتقان والحكمة والتفاؤل والاعتدال والصبر والتروي والتحضر والموضوعية والتوازن والاحترام والتكيف والتسامح وكظم الغيظ وتعلم الدروس واستخدام الوسائل المنسجمة مع روح العصر والصدق مع التلطف في قول الحقيقة.
إنها إحدى نسخ مزيج الدين والدنيا؛ العلم والإيمان؛ الأصالة والمعاصرة التي توصلت إليها دمشق الراهنة بعد معركة الحداثة الغربية والتقاليد المحلية التي بدأت منذ أواخر العهد العثماني وما زالت مستمرة. وهي محاولة من العاصمة العربية الإسلامية العريقة للحفاظ على ما ترى أنه هويتها في كتاب اختار له أصحابه عنوان «محطات من عبق الياسمين»، ولم يكن هناك من هو أنسب لنشره من «دار الفكر».. طبعاً.