"من الأشياء الدالة على صِغر العقول وضيق الفكر وتبني خطاب الرهبانية أن تجعل توافه الأمور محط اهتمامك وأن تنفخ في صغائر الأمور حتى تُصَوّر على أنها قضايانا الأولى ومحط اهتمامنا، وأن تترك الواجب لتستعيض عنه بالنوافل وتفرضها فرضا".. بهذه الكلمات وصف الناشط الإعلامي وليد عثمان، الجدل الذي شهدته مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية، بعد انتشار صور تظهر ما قيل إنه "اختلاط" بين الذكور والإناث خلال الامتحانات الجامعية في "جامعة حلب في المناطق المحرّرة" شمالي سوريا، وما تلا ذلك من رود أفعال، خاصة بعد زيارة وفد من "الأوقاف" بمدينة اعزاز للجامعة بهدف "الاستفسار عن وضعها من ناحية الالتزام الديني والشرعي".
وبدأت القصة، عندما انتشرت صور من داخل قاعة الامتحانات في جامعة حلب، لجلوس طلاب وطالبات بشكل مشترك في القاعة، ما أثار ردة فعل لدى بعضهم اعتبرت أنها "مبالغ فيها"، في حين أكد آخرون أن الصور لا تحمل أي إساءة أو مخالفة للأعراف والتقاليد في المجتمع، خاصة أن الاختلاط قد تجده في كثير من المهن والأماكن العامة، مثل المشافي والمواصلات وغير ذلك.
وتزايد الحديث عن الصور والجدل الحاصل بشأنها، بعد زيارة وفد من الأوقاف للجامعة، بدت وكأنها زيارة تفتيش، ثم أصدر وفد الأوقاف بياناً نقل فيه حديث رئاسة الجامعة لهم بأن "الصورة التي انتشرت في القاعة الامتحانية ليست من سياسة الجامعة، وليست من مبادئ ثورتنا المباركة، وأننا نحن لم نقم بثورة على الظلم والفساد السابق حتى نعيد الاختلاط والفساد الأخلاقي".
فما موقف الجامعة من الحادثة، وما الظروف والمبررات لما سمّي بـ"الاختلاط" داخل القاعات، وما الهدف من زيارة "الأوقاف"؟
ما هدف ومبرر زيارة "الأوقاف"؟
من المؤكد أن زيارة جامعة حلب الحرة أو غيرها من المؤسسات، حق مشروع لجميع الكوادر والعاملين في الشأن العام وحتى المدنيين، للاطلاع على أحوالها وسير عملها، إلا أن السرعة في زيارة "الأوقاف" عقب ساعات فقط من انتشار صور "الاختلاط"، حوّل الزيارة إلى "جولة تفتيشية" حملت في ظاهرها تشكيكاً بسلوكيات الطلاب، حتى لو كان هدفها الحقيقي بخلاف ذلك.
وجاء في بيان لـ "طلاب العلم وخطباء المساجد" في مدينة اعزاز وريفها، أنه تم تشكيل وفد من خمسة مشايخ، في 13 من حزيران الجاري، اجتمع مع "الأوقاف" في المدينة، ثم انطلق إلى جامعة حلب الحرة لزيارة الرئاسة والاستفسار عن وضع الجامعة من "ناحية الالتزام الديني والشرعي، وعن آلية فرز الطلاب في القاعات والامتحانات والساحات العامّة".
وأشار البيان إلى أن الوفد التقى برئيس الجامعة ونوابه، مضيفاً: "أوضحت رئاسة الجامعة بشأن الاختلاط الذي ظهر في الصورة التي انتشرت في القاعة الامتحانية أن هذا ليس من سياسة الجامعة، وليس من مبادئ ثورتنا المباركة، وأننا نحن لم نقم بثورة على الظلم والفساد السابق حتى نعيد الاختلاط والفساد الأخلاقي، وما كانت عليه جامعات النظام سابقاً، وهذه الصورة التي انتشرت لا تعبر عن منهج الجامعة أبداً"، وفق البيان.
وبعد اللقاء "تجول الوفد برفقة رئاسة الجامعة في قاعات الامتحانات وكلياتها والساحات العامة والمقهى، وبحسب البيان "لاحظ الوفد عزلاً تاماً بين الذكور والإناث، مع حشمة كاملة وترسيخ لكل أعرافنا وتقاليدنا، وتم الاطلاع على الساحات العامة والمقهى وكل قسم منها كان له مدخل خاص للإناث، مع عزل بين الذكور والإناث بشكل عام".
ونقل البيان عن رئيس الجامعة عبد العزيز الدغيم قوله: "في الجامعة لدينا 70 قاعة، وأحياناً يكون هناك ضغط طلابي ويمكن أن يكون هناك في بعض الامتحانات عدد قليل من الطالبات، فلا نستطيع أن نجعلهن في قاعة امتحان خاصة فيهن بسبب الضغط على كل المراكز، وعدم وجود متسع، فيتم دمجهن في قاعة أخرى".
ونشرت الجامعة يوم أمس الخميس منشوراً مرفقاً بصور، لرئيس الجامعة عبد العزيز الدغيم برفقة وفد من مديرية الأوقاف والإفتاء والشؤون الدينيّة في مدينة اعزاز وريفها، وهم يجرون جولات على بعض القاعات لمتابعة سير الامتحانات والاطلاع على الأجواء الامتحانيّة فيها، واللافت في الصور غياب "الاختلاط" المزعوم، وهو ما فسره طلاب بأنه خضوع كامل من رئاسة الجامعة لمشايخ الأوقاف، رغم أن الجامعة لم تقع في أي خطأ.
وخلال الجدل الحاصل يوم أمس، حاول مسؤولون في الجامعة ضمن الأوساط الطلابية وبرد غير رسمي، تبرير الجولة التفتيشية للمشايخ من دون أي صلاحية لهم واحترام لحرمة الجامعة، بأن الجامعة تبغي من ذلك اطلاع الأوقاف على وضع الجامعة السيئ بسبب عدد الطلاب وقلة القاعات، على أمل أن يسعى هؤلاء المشايخ بدعم للجامعة.
غضب طلابي
في تعليقه على زيارة المشايخ للجامعة والبيان الصادر عنهم، قال الطالب في الجامعة، عبد الله دغيم، في منشور على حسابه الشخصي في فيسبوك: "ما رأي المشايخ الأفاضل وطلاب العلم الأكارم أن يتفضلوا ويجروا لنا مقابلات للتأكد من أننا نجيد قراءة الفاتحة والوضوء وأحكام الخلاء".
وأضاف: "من كانت تربيته -ذكراً أو أنثى- في بيت أهله صالحة فلن يضيره وإن دخل لحانات القمار، ومن كانت تربيته فاسدة فلن يلتزم ويصلح وإن خالط الصحابة واعتكف في المساجد".
وختم "دغيم" منشوره قائلاً: "من كان غيوراً على الأعراض فليقف في وجه الظالم ولينطق بكلمة حق، وليمارس الدور المناط به بدءاً من رأس الهرم، وإلا فليصمت ولا يحق له التشكيك في أخلاقنا أو تربيتنا".
من جهته، قال الصحفي والطالب في كلية الإعلام والاتصال بالجامعة، عبد الحميد حاج محمد، إن "الموضوع (صورة الاختلاط) لا يرقى لأن يكون ملف رأي عام يشغل منصات التواصل الاجتماعي"، مضيفاً أن إعلان وفد من مديرية الأوقاف زيارة الجامعة للاطلاع على الحدث، وكأنه جريمة، فُهم على أن هناك جرم مشين وقع بالجامعة، وهنا أخطأت رئاسة الجامعة عندما سمحت للوفد بالتجول داخلها وكأن ما حصل ذنب كبير".
ولفت حاج محمد في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، إلى أن الصور لا يوجد فيها أي خلل، وهي عبارة عن امتحانات، وكان من الممكن التفريق بين الطلاب والطالبات بمقاعد منفردة، ومع ذلك لا "أعتقد أن الصور تستحق كل هذه الضجة التي أثيرت حولها".
ومن الأفضل - بحسب رأي الطالب - أن تتابع "دائرة الأوقاف المسائل والمشاكل التي تهم السكان بشكل أكبر، أفضل من الخوض ومتابعة سفاسف الأمور".
وأردف حاج محمد: "نحن كطلاب في الجامعة نلتزم بالتعليمات الشرعية والأخلاقية، وطبعاً في الظروف الامتحانية تكون هناك بعض التصرفات الطارئة، وقلة عدد المقاعد أو القاعات تؤدي إلى جلوس طالب وطالبة في مقعد واحد".
ما تعليق رئاسة الجامعة؟
وفي تعليقه على القول المنسوب لرئيس جامعة حلب الحرة، والذي جاء فيه "الاختلاط في الجامعات فساد أخلاقي، وهذا ليس من مبادئ الثورة السورية"، كتب الصحفي سامر العاني في منشور: "هذا الحديث فضلا عن كونه مدخلا إلى التطرف، هو اتهام لشريحة واسعة من الفتيات في الجامعات والمدارس بالفساد الأخلاقي، وأعتقد أنها إهانة تصيبنا جميعا".
وحتى لحظة إعداد التقرير، لم يتلق موقع تلفزيون سوريا إجابة من رئيس الجامعة عن استفسار حول صحة الحديث المنسوب له.
من جهته نفى نائب رئيس الجامعة للشؤون الإدارية وشؤون الطلاب د. محمد رامز كورج، الحديث الوارد أعلاه، موضحاً أنهم لا يرون الاختلاط في الجامعة فساداً أخلاقياً، وفي الوقت نفسه، يقول "كورج" إن المنطقة والمجتمع يعيش حالة عدم الاختلاط بين الطلاب والطالبات منذ عشرات السنين.
وذكر "كورج" في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، أن الجامعة تضم 70 قاعة امتحانية، ويتقدم في اليوم ما يزيد عن ثلاثة آلاف طالب وطالبة للامتحان، ويتم الفصل بشكل كامل بين الذكور والإناث، تماشياً مع "العادات والتقاليد والأعراف في المجتمع".
وأكد أن هيئة الأوقاف والشؤون الدينية في اعزاز تواصلت معهم، ثم زار الجامعة وفد من المشايخ، وبحسب "كورج"، "لم تكن زيارة المشايخ للاطمئنان على فتياتهم أو التفتيش عن الاختلاط، إنما لمعاينة واقع الجامعة كونهم شريحة من شرائح المجتمع، والتأكد من أن هوية الجامعة هوية محافِظة ضمن عادات وتقاليد المجتمع".
إمكانات ضعيفة وتقصير من الحكومة المؤقتة
أوضح الدكتور "كورج" أن الجامعة تحتوي على 11 ألف طالب، ضمن 70 قاعة، كما تضم 16 كلية، وفي الوقت الحالي تبلغ حاجة الجامعة إلى 80 أو 90 قاعة، وإذا تقرر فصل الذكور عن الإناث بشكل كامل، فإن الجامعة بحاجة إلى 200 قاعة، مضيفاً أنهم يعانون حالياً من ضيق المكان والمساحة والموارد البشرية.
وشدد على أن الجامعة لم تتفق مع وفد المشايخ على إصدار أي بيان، موضحاً أنه تم إدخال المشايخ إلى القاعات وإطلاعهم على واقع الجامعة من أجل رفع طلباتها وإيصال صوتها خلال خطب الجمعة.
وبسبب الضغط الطلابي، قد يستمر دوام الجامعة في الوقت الحالي حتى الساعة الثامنة مساءً، وإذا بقي الحال على ما هو عليه، فإن الجامعة لن تستطيع استيعاب هذا العدد الكبير من الطلاب والطالبات خلال العام المقبل، خاصة مع الإقبال الشديد للطلاب، بحسب "كورج".
وأكد أنهم في صدد مواصلة الدوام على أكثر من "فوج" ضمن الجامعة، حتى الساعة التاسعة أو العاشرة مساءً، وإضافة إلى ذلك هناك خطط تتم دراستها، بالتزامن مع اتصالات بين الجامعة والمجلس المحلي في اعزاز، لمنح أرض للجامعة بهدف بناء قاعات جديدة تستوعب الطلاب.
ويرى عدد من طلاب الجامعة، أن الحكومة السورية المؤقتة لا تقوم بالواجب الملقى على عاتقها في دعم الجامعة وتوسيعها، أو الاستجابة لمطالب الطلاب، علماً أن الجامعة تعتبر حكومية، وواحدة من أكبر الجامعات في شمال غربي سوريا.
"توسيع الهوة بين الجامعة وطلابها"
قال طالب في جامعة حلب الحرة - فضّل عدم ذكر اسمه - إن العديد من الجهات تحاول توسيع الهوة بين رئاسة جامعة حلب وطلابها، وزعزعة الثقة فيما بينهم.
ووصف الطالب هذه الجهات بـ"اللوبي المخرّب"، مضيفاً أن الجهات تغوّلت في الجامعة خلال الفترة الماضية، ووصلت إلى مناصب عليا في التسلسل الهرمي لها، كما أنها نجحت بالتحكم بزمام الأمور في وزارة التربية والتعليم في الحكومة المؤقتة، ومجلس التعليم العالي.
وبحسب الطالب، فإن الجهة تتمثل بـ"القيادة الفعلية وليست الصورية للجامعة الدولية للعلوم والنهضة في مدينة اعزاز ممثلة بالدكتور علاء زيدان، وشخص يدعى جهاد قدور مقيم في الولايات المتحدة، ومهمته العمل على احتكار الدعم المقدم للقطاع الجامعي في المنطقة".
ولفت إلى أن هؤلاء الأشخاص مقربون أيضاً من وزير التربية والتعليم في الحكومة المؤقتة جهاد حجازي، إضافة إلى مجلس التعليم العالي، ولوحظ التقارب بعد قرار المجلس بافتتاح كليّتي الصيدلة وطب الأسنان في الجامعة الدولية للعلوم والنهضة، ما أثار اعتراض طلاب جامعة حلب.
واعترض طلاب الكليات الطبية في جامعة حلب على القرار، معتبرين - بحسب مكتب اعزاز الإعلامي - أن افتتاح هذين الفرعين سيؤدّي لزيادة غير طبيعية في عدد خرّيجي الفرعين، مع عدم مراعاة الجودة العلمية في دراسة الفرعين الطبّيين بجامعة النهضة.
وفي الوقت نفسه، هدّد مكتب الطلبة في جامعة حلب الحرّة بالتصعيد ضدّ مجلس التعليم العالي في حال عدم رجوعه عن القرار، ومقاطعة الدوام في كلّيتي الصيدلة وطبّ الأسنان بجامعة حلب، والاعتصام أمام مجلس التعليم العالي حتى إغلاقه.
وتقدم عضو مجلس التعليم العالي، د. عمر طوقاج باستقالته من المجلس، بسبب "الآلية المعتمدة لترخيص وافتتاح الكليات الطبية والجامعات الخاصة، حيث تمت الموافقة على افتتاح كليات طبية لا تتوفر فيها كل الشروط المطلوبة للترخيص".
ورداً على ذلك، قال مدير معهد الإعلام في الجامعة الدولية للعلوم والنهضة، علاء العبد الله، إنه لا يعتقد بوجود هذا الأمر (اللوبي) وربما يكون الهدف من وراء الحديث عن ذلك "الحسد والغيرة بين الطلاب والجامعات لوقائع اقتصادية أو مصالح عمل لا أكثر".
وأشار إلى أن د. علاء زيدان هو ممثل الأمناء في الداخل السوري ومدير مؤسسة النهضة وليس الجامعة، وهي المؤسسة المسؤولة على الإنشاءات الخاصة بالقرية التعليمية (المشفى والجامعة والمسابح والكازية ومجمع المولات...).