صراع النفوذ بين إيران وروسيا على الأرض السورية، التي تضم اليوم 5 جيوش، ليس بجديد. فالمعسكران الروسي والإيراني أصبحا في قلب غرفة صنع القرار السورية. تمتلك روسيا على الأراضي السورية 4 قواعد عسكرية استراتيجية، أهمها قاعدة حميميم في اللاذقية التي لم تتردد في استخدامها في حربها على أوكرانيا، حيث انتقل منها مرتزقة سوريون للمشاركة مع جيش يفغيني بريغوجين (زعيم فاغنر) سابقا في أوكرانيا. كما توجد قاعدة بحرية أخرى في طرطوس وثالثة في حماة، وأخيرة في القامشلي وضعت فيها موسكو مقاتلات حربية ومنظومات دفاع جوي ومروحيات.
أما إيران، فحضورها العسكري على الأراضي السورية المستباحة أكبر بكثير. إذ لطهران نحو 500 موقع عسكري في حلب واللاذقية وحماة وحمص ودير الزور والبوكمال وريف دمشق والقنيطرة ودرعا (الجنوبيتين القريبتين من الأراضي المحتلة). وهنا إشارة إلى تقارير سابقة أشارت إلى انسحاب القوات الإيرانية من القنيطرة المحاذية للجولان المحتل لصالح القوات الروسية، وذلك بعد تعرض مواقع إيرانية هناك لقصف إسرائيلي.
روسيا تدرك جيداً أن انهيار التفاهمات السابقة قد بدأ، وبدأت إسرائيل والغرب بإبعاد الكمّاشة الإيرانية عنها. كان واضحًا أن المعركة لن تكون على (أو في) غزة وحدها، بل ستكون حربًا في المنطقة. بعد أن تدهور دور حزب الله في "إسناد غزة" من تمثيليات معارك العمود وقصف المستوطنات الفارغة إلى ما وصل إليه الآن، حيث قتلت إسرائيل معظم جنرالات الحزب الذين شاركوا في تأسيس الجناح العسكري وخاضوا كل المعارك واكتسبوا الخبرات. الآن، الحزب فقد قيادته العسكرية النخبوية ويحارب بقيادات الصف الثاني، مما يعني تدهورًا مُريعًا في قدراته وكفاءاته.
روسيا تدرك جيداً أن انهيار التفاهمات السابقة قد بدأ، وبدأت إسرائيل والغرب بإبعاد الكمّاشة الإيرانية عنها. كان واضحًا أن المعركة لن تكون على (أو في) غزة وحدها، بل ستكون حربًا في المنطقة
النظام السوري يدرك جيداً أن الأراضي السورية التي يسيطر عليها الأسد لم تعد جسرًا إيرانيًا لإمداد حزب الله فقط، بل أصبحت خيط المسبحة الذي يربط الحبات مع بعضها ويؤمن عمقًا استراتيجيًا للحزب وفيلق القدس. وقد نشر الأخير مئات القواعد والنقاط العسكرية ومصانع تجميع الأسلحة الدقيقة وشبكات الرادار ومنظومات الدفاع الجوي، إضافةً إلى نشر ما يقارب مئة ألف من الميليشيات الشيعية المتعددة الجنسيات.
لقاء الأسد في موسكو الشهر الماضي كان رسالة إنذار واضحة له بأن أي مخاطرة في انخراطه في هذه الحرب ستقضي عليه، وتدمر سوريا وتزلزل عرشه. كانت تحذره بناءً على معلومات استخبارية حصلت عليها روسيا وتتطابق مع معلومات إسرائيلية. تشير هذه المعلومات إلى أن استراتيجية نتنياهو تكمن في إبعاد الحزب والميليشيات الإيرانية من سوريا كهدف استراتيجي لأي حرب قادمة، وليس فقط إبعادها عن الجنوب السوري (فقد فشل تطبيق القرار 1701 في لبنان وفشل الروس في إبعاد الميليشيا الإيرانية عن الجنوب السوري بعد تعهدهم بذلك وإيقاف دعم قوى الثورة السورية).
حذر بوتين الأسد من موجة تصعيد كبرى في المنطقة ستطول سوريا بالتأكيد. قد يكون الأسد بقي في موسكو، والتعتيم على ذلك تمّ من خلال إصدار مرسوم يخص تعديلات في قانون تجنيد جيش النظام. هذا لا يُبَدّد الشكوك حول مكان وجوده الآن، فهذا المرسوم إمّا مُوقّع سابقًا ولم يُعلن عنه، أو تمّ توقيعه عبر الإنترنت من مكان وجوده.
أهمية زيارة شويغو إلى طهران تكمن في أن موسكو لا تريد توسع الصراع في المنطقة نظرًا لخطورته على مصالحها ومصالح إيران. يُلخص المصدر ما بحثه شويغو مع المسؤولين الإيرانيين في الآتي:
1- حذر شويغو الإيرانيين من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هو المستفيد الوحيد من توسع الحرب، إذ أن هدفه الأساسي هو ضرب إيران وجرّ الولايات المتحدة والغرب إلى مواجهة مباشرة معها. الصدام المباشر بين طهران وتل أبيب يعني دخول فصائل إيران في المنطقة على خط المواجهة، ما سيتيح لنتنياهو الترويج لـ"هولوكوست جديد" يتعرض له يهود إسرائيل.
2- أكد الأمين العام لمجلس الأمن القومي الروسي على ضرورة تحييد الأراضي السورية عن أي رد إيراني على إسرائيل. سوريا منهكة، ودخولها المعركة في حال توسعها يعني أن موسكو ستكون في موقف لا تُحسد عليه. إما أن تتغاضى عن دخول سوريا في الحرب، وهذا يُهدد مصالحها، أو أن تدخل الحرب بشكل مباشر، ما يرفع احتمال صدام مباشر مع الولايات المتحدة، وهو ما لا تريده موسكو ولا واشنطن.
استخدام الأراضي السورية سيعطي ورقة مفتوحة للرد الإسرائيلي المتوقع والعنيف على سوريا، وسيكون أسهل على حزب الله من لبنان، لأن بيئة الحزب الشيعية منهكة من مغامراته وقد تثور عليه مع غيرها من الطوائف اللبنانية. بينما في سوريا، سيستهدف الإسرائيليون قواعد ونقاطًا عسكرية حيث الحواضن الشعبية للحزب والميليشيات الشيعية الأخرى، وسيتم استهداف مراكز عسكرية تابعة للنظام يستخدمها الحزب أيضًا.
نتنياهو سيكون همجيًا في ردوده وهو الذي يسعى للحرب ويطلبها. قتل شكر وهنية في يوم واحد لم يكن إلا جرًّا لرجل محور إيران للحرب بعد أن جرّ رجل واشنطن إليها، ولن ينجو الأسد منها هذه المرة فهو ليس بسبعة أرواح.
بالرغم من إعفاء سوريا من الانخراط في المواجهة العسكرية نظرًا لأوضاعها الداخلية، إلا أن هناك نية إيرانية واضحة لتوريط نظام الأسد في حرب أو إرباك النظام في خلافات داخلية من خلال:
1- كشفت مصادر قناة "الحدث" الإخبارية الأسبوع الماضي عن ترجيحات بموافقة رئيس الأركان السوري عبد الكريم محمود إبراهيم الذي زار طهران سرًا دون علم الأسد، وبحث نقل وسائل قتالية من الجيش السوري إلى حزب الله لنقلها برًا عبر الحدود السورية اللبنانية. ما دفع إسرائيل إلى قصف نقاط عسكرية للنظام السوري في محيط مطار الشعيرات في المنطقة الوسطى للمرة الأولى، ووقعت أيضًا عدة انفجارات داخل فوج "أبو اللبن" في منطقة الحمرات شرق حمص حيث طالت مستودعًا للذخيرة، بحسب مصادر ميدانية. ترى روسيا أن توطيد علاقة إبراهيم مع إيران يشكل خطرًا على استقرار سوريا ويضر بمنشآتها الحيوية.
2- نشوب اشتباكات في الجزيرة بين الإدارة الذاتية المدعومة من القوات الأميركية والعشائر العربية المدعومة من إيران بهدف إحداث فوضى على الجبهة الغربية الشرقية وتعطيل التقارب التركي السوري.
على الرغم من التفاهم الروسي - الإيراني في سوريا، إلا أن هذا لا يعني عدم وجود خلافات بين الطرفين. إيران لا تخفي قلقها من التفاهم الروسي مع تركيا وإسرائيل في سوريا التي باتت ساحة لعدة أطراف، إضافة إلى وجود خلافات حول مستقبل سوريا. موسكو تفضل حل الأزمة عبر طريق سياسي يضمن بقاء سوريا موحدة ودولة ذات سيادة، لذلك حرصت على اتباع سياسة التوازن من خلال إدارة تحالفاتها بدقة مع بعض الأطراف الإقليمية في سوريا بما في ذلك إسرائيل. بينما لدى طهران أولويات أخرى على رأسها تعزيز نفوذها الخاص في سوريا، بصرف النظر عن تداعيات ذلك على مستقبل الدولة السورية، إذ تخشى من احتمال حصول مقايضات أميركية - روسية لإيجاد تسوية في سوريا تكون على حساب نفوذها في سوريا والمنطقة.
التنافس بين البلدين يظهر بشكل واضح على الأراضي السورية وينبع من عوامل تتعلق بالمصالح الاستراتيجية والسياسية لكل منهما، على الرغم من تحالفهما لدعم نظام بشار الأسد. بينما تتعاون الدولتان لتحقيق أهداف مشتركة في سوريا، إلا أن لكل منهما رؤى وأهدافًا استراتيجية مختلفة، مما قد يؤدي إلى التنافس.
يظهر هذا التنافس في كيفية توزيع مناطق النفوذ وإعادة الإعمار والتأثير في القرارات السياسية والعسكرية هناك. تسعى إيران إلى تعزيز نفوذها الإقليمي من خلال إنشاء ممر لميليشياتها يمتد من أراضيها عبر العراق وسوريا وصولًا إلى لبنان، مما يمكنها من دعم "حزب الله" وتعزيز موقفها ضد إسرائيل. كما تهدف إلى استخدام سوريا كطريق عبور للسلع والموارد وتحقيق مكاسب اقتصادية من خلال إعادة الإعمار والاستثمار في البنية التحتية.
أما بالنسبة إلى روسيا، فإنها تسعى إلى تعزيز وجودها العسكري في البحر الأبيض المتوسط من خلال قواعدها في سوريا عبر قاعدة "طرطوس" البحرية وقاعدة "حميميم" الجوية، مما يتيح لها التأثير في منطقة الشرق الأوسط وموازنة القوى مع الغرب. تهدف موسكو من وراء ذلك إلى الاستفادة من عقود إعادة الإعمار وبيع الأسلحة وتعزيز صادرات الطاقة والبنية التحتية، بينما تعتمد على القوات الجوية والقوات النظامية السورية لضمان استقرار النظام والسيطرة على المناطق الاستراتيجية، لتكون اللاعب الرئيسي في أية تسوية سياسية مستقبلية.
من هنا، يسعى الكرملين إلى تشكيل حكومة سورية موالية لموسكو وتضمن مصالحها الاستراتيجية، وتكون أكثر براغماتية في علاقاتها مع الغرب. تسعى موسكو جاهدة إلى استقرار النظام السوري عبر الحفاظ على وجودها العسكري، لكن دون الدخول في صراع مباشر مع إسرائيل أو القوى الغربية. لذلك نرى أن الكرملين يعمل جاهدًا لإبعاد سوريا عن الانخراط في الحرب، وبالتالي دفع الأسد لفتح الأبواب باتجاه العربي والتركي للخروج من قبضة إيران وميليشياتها وعدم التعنت في فتح أبواب المصالحات.