يتعرض الجنوب اللبناني لغارات وهجمات إسرائيلية يوميًا، يسقط من جرائها العديد من الضحايا الأبرياء من شيوخ ونساء وأطفال يُقتلون بدم بارد بسبب قربهم من أهداف عسكرية لحزب الله. تحاول العقلية الإسرائيلية القضاء عليهم.
إلى جانب هذا العدد الكبير من الضحايا والمصابين اللبنانيين، يسقط الكثير من السوريين الذين يعيشون في قرى الجنوب اللبناني، لا سيما القرى الحدودية مثل "مروحين، يارين، شقراء، كفرشوبا، شبعا، مرجعيون، وبرج الملك" ولم يتركوها حتى الآن.
لكن الإعلام المحلي والعربي والعالمي لا يتوقف عند هذه الإصابات بشكل تفصيلي، وإنما يمرر الخبر بشكل عادي رغم حجم الإصابات بين الأطفال والنساء من جنسيات غير لبنانية جراء القصف الإسرائيلي.
عند محاولة معرفة عدد الضحايا والإصابات بشكل دقيق بين السوريين، لم نجد إحصاءً دقيقا يشمل الجنسية السورية، بل توجد أعداد الإصابات والضحايا بشكل عام منذ بداية المعارك في تشرين الأول/أكتوبر 2023.
في آخر الضربات منذ أسبوع، كانت مجزرة قرية "شيحين" الحدودية قضاء صور في القطاع الغربي، حيث تم الإعلان عن مجزرة جراء الضربة، سقط فيها أربعة شهداء والعديد من الجرحى الذين نُقلوا إلى المستشفيات المجاورة، وتبين أن الشهداء سوريون وبعض الجرحى معظمهم من الأطفال والنساء.
لم تكن العائلة السورية في قرية "شيحين" هي الوحيدة التي تعرضت للموت والإصابات، بل هناك الكثير من العائلات والأشخاص السوريين الذين قتلوا وأصيبوا في حادثة جسر الخردلي الأخيرة جراء ضربات المسيرات الإسرائيلية. اثنان من الشبان كانا يركبان على "موتورات" متجهين نحو نهر الخردلي لصيد السمك كما كانا يفعلان دائمًا، لكن المسيرات كانت تراقب المنطقة وفور وصولهما تلقوا الضربة سريعًا وتناثرت أشلاؤهما في كل مكان.
الحادثة أثرت بي شخصيًا وكادت الدموع تنهمر من عيني نتيجة صعوبة الموقف، لأن الشابين لم يتجاوزا الثامنة عشرة، عاشا في قرية كفر تبينت منذ عام 2012 بعد هروبهما من سوريا حيث كانا أطفالًا لا يعرفان معنى الحياة، تربيا في القرية وأهل القرية يعرفونهما ويعرفون عائلاتهما، وهما أبناء عم. وقد تم تشييعهم في القرية كونهم شهداء القصف الإسرائيلي ودُفنوا في المقبرة. وكان الحزب ذكيًا جدًا حيث عمل على تشييعهم ودفنهم في مقبرة القرية، ولكن أميهما طلبتا أن يُدفنا بالتوابيت الملفوفة في أكياس مضغوطة كوديعة لنقلهم لاحقًا إلى سوريا. في التشييع حضر جمع غفير من السوريين الموجودين في المنطقة، وبين الحضور كان شيخ سني معمم صلى صلاة الجنازة إلى جانب الشيخ الشيعي، وعندما تم تلقينهم الشهادة، طلب رابط الحزب أن يلقنهم الشيخ السني الشهادة، ولكنه لم يقل بأن إمام البلدة مشكورا سوف يقوم بالمهمة، ونحن كإسلام لا فرق عندنا وهم شهداء عند ربهم أحياء يُرزقون. بل قالها الشيخ وكلماته هذه لاقت إعجابًا كبيرًا لدى أهالي القرية.
ولدتم في لبنان ومتم في لبنان لم تعرفوا سوريا وكان حلمي أن نعود يوما إلى هناك
وكذلك جريمة قرية مروحين التي سقط فيها ثلاثة أطفال وأمهم، عند تشييعهم في مدفن البلدة كانت كلمة والد الأطفال مؤثرة جدًا عندما قال: "ولدتم في لبنان ومتم في لبنان لم تعرفوا سوريا وكان حلمي أن نعود يوما إلى هناك".
وحتى الأكراد السوريون القاطنون في قرية يارين الحدودية لم ينجوا من الموت حيث قضت عائلة كاملة نحبها بالقصف الإسرائيلي على القرية.
يمكننا رواية الكثير من القصص الإنسانية التي تتحدث عن معاناة اللاجئ السوري في لبنان، لكن دون اهتمام من أحد أو حتى من النظام السوري نفسه، حيث باتت العين تدمع والقلب يعتصر لهذه الحكايات، وباتت تظهر النكات على وسائل التواصل الاجتماعي بأن الدول تحذر رعاياها للخروج من لبنان وعدم السفر إلى لبنان بسبب الأوضاع الخطرة عدا النظام السوري الواثق جدًا بالوضع الأمني والمطمئن كثيرًا على وضع الرعايا السوريين.
لا يحصل السوري عند الموت على أصغر الحقوق ألا وهو المدفن، حيث يموت مرتين قبل أن يقنع أهله البلديات بفتح مدافنها لهم، مما يدفعهم في أغلب الأحيان لإرسال الميت إلى سوريا مع أقارب أو أصدقاء. عائلات سورية تموت في الجنوب اللبناني أثناء هذه الحرب البشعة ولا أحد يذكرها، لكنها تخلط الدم السوري بالدم اللبناني.
ضريبة دم يدفعها السوري خارج بلده وهو يعيش في قلب مناطق التصعيد، لأنه لا يستطيع النزوح داخل لبنان وذلك قبل اندلاع "طوفان الأقصى"، خوفًا من عدم إيجاد مساكن وأماكن إيواء يلجأ إليها.
وفي مفارقة كبيرة بين أهالي المناطق الحدودية الذين تركوا قراهم وتوجهوا نحو قرى ومناطق أكثر أمانًا للحفاظ على حياتهم وحياة أطفالهم، وتأمين أماكن للعيش والعمل ومدارس ومراكز طبية للاستشفاء، أصبح السوري يفتقد كل هذه الخدمات من كهرباء وماء ومدارس وطبابة وأمان والخوف سيد الموقف، لكن ليس باليد حيلة. فالسوريون يفضلون البقاء في مناطق التوتر مقابل العودة إلى مناطق نظام الأسد ليزج بهم في السجون التي ستمحو آثارهم، أو الترحال إلى مناطق لبنانية من دون ضمانات للحصول فيها على بيت أو تأمين عمل في ظل الفوضى التي باتت تسيطر على المجتمع اللبناني بشكل عام، نتيجة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي وتفكك مؤسسات الدولة.
لا أحد يشك بأن المواطن السوري يعاني الترحال والغربة معاناة صعبة، لكن بالتفضيل بين النار والحرق بالأسيد فإنه يختار النار. وبالرغم من الاتهامات والهجمات وتحميل المسؤولية، السوري يتمسك بالبقاء في لبنان حيًا حبًا بالحياة وليس طمعا بمساعدة تقدمها "الأمم".
لا يحصل اللاجئون على ما يكفي من الأموال، واللبنانيون الأكثر هشاشة لا يحصلون على ما يكفي أيضًا، لأن التمويل يتناقص باستمرار، والاحتياجات إما على المستوى نفسه أو في تزايد، والحد الأقصى للمبلغ الذي يمكن أن تحصل عليه عائلة لاجئة مؤهلة لنيل المساعدات من المفوضية وبرنامج الأغذية العالمي مجتمعَين هو 115 دولارًا لكل عائلة (لخمسة أشخاص بالعائلة كحد أقصى) مما يجبر العائلة على العمل في أعمال متنوعة لتأمين الحاجات.
لا يختار المرء أن يكون لاجئًا. السوري الذي يبحث في رحلته الشاقة عن أمان وحماية وحياة كريمة لا يجدها في وطنه بسبب نظام البراميل الذي يقتل شعبه ويعاقب أولاده لأنهم خرجوا في ذات يوم حالمين بالحرية والحب لبلدهم، لكن النظام قابلهم بزخ الرصاص والنار فكان القتل هو الرد على المطالبة بالحرية.
السوريون يرون البحر مخلصًا لهم من بطش النظام، فرغم مخاطر ركوبه، فإنهم يعتبرونه أفضل من الموت في زنزانات الأسد ومخابراته. معانقة الأمواج وتحمل العذاب قد تمنحهم فرصة للحرية التي فقدوها في بلدهم، بينما يعيشون تحت إهانات الميليشيات والفلول القادمة من آسيا وكأنها فلول "جنكيز خان".
يتفاخر الكثيرون بأنه بات من الضروري العمل على عودة طوعية للسوريين من لبنان، ويتباهى آخرون بأن البلديات قدمت إنذارات لخروج السوريين من مناطقهم وبلداتهم، ويتفاخر آخرون بأن هناك قرى ومناطق أصبحت خالية من الوجود السوري ومن العمالة السورية.
يتناسى كثيرون أن السوريين يعملون في لبنان بالأعمال الشاقة والصعبة والتي لم يعد أحد يقبلها، مثل البلدية والعمارة والصخر وتنظيف الأراضي وقطف الزيتون والبرتقال وزراعة الخضراوات، وحصاد القمح والشعير والعديد من الأعمال التي تعيد إحياء القرى مجددًا بوجود السوريين وتعطي للحياة الاقتصادية طفرة جديدة. السوري يستأجر البيوت بالعملة الصعبة التي تساعد العائلات اللبنانية، السوري يعمل في أعمال بات اللبنانيون لا يعملونها، ولو لم يكن السوريون ستكون العمالة الأجنبية المستوردة.
العودة هي الحل الأمثل للسوريين، لكن الوضع في سوريا معقد ويحتاج لتدخل دولي جماعي. يتعرض الرأي العام للتسييس والتأثر بحجج غير إنسانية، لذا يجب أن نبقى محايدين وصادقين في التعامل مع أزمة اللاجئين السوريين في لبنان. الهدوء والواقعية هما أفضل استراتيجية للتعامل مع هذه القضية بحكمة.