لا يقتصر تنامي الخطاب العنصري في تركيا على الجانب السياسي أو الاجتماعي فقط، إذ شكلت العوامل الاقتصادية عاملاً أساسياً، إن لم تكن الأهم، في رفع وتيرة هذا الخطاب، فالوضع الاقتصادي في تركيا، وارتفاع نسبة التضخم التي وصلت إلى 85% في أواخر العام الماضي، إضافة إلى ازدياد نسبة البطالة كانت من أهم الأسباب التي عززت تقبل الأتراك للخطاب العنصري ضد الأجانب عامة والسوريين بشكل خاص لأنهم يمثلون النسبة الأكبر بين اللاجئين.
يضاف إلى ذلك موجة غلاء كبيرة طالت معظم قطاعات المجتمع (العقارية والصحية والخدمية)، حيث تم تحميل اللاجئين السوريين بشكل خاص جزءاً كبيراً من المسؤولية، وقد ترافق ذلك مع استغلال المعارضة التركية لهذا الواقع، إذ عملت على التحشيد والتشويه الإعلامي ضد اللاجئين، خدمة لأجندتها السياسية والانتخابية.
تراجع الاقتصاد التركي
وشهد الاقتصاد التركي في السنوات الأخيرة العديد من الانتكاسات، تمثلت بداية بمحاولة الانقلاب الفاشلة 2016، حيث بلغت الخسائر قرابة 300 مليار ليرة (18.2 مليار دولار)، بحسب وكالة الأناضول.
أما الضربة الأقوى لهذا الاقتصاد كانت أيام وباء كورونا، وما رافقه من توقف لقطاع الصادرات والسياحة والاستثمارات، إلى غير ذلك من تأثيرات سببها حالة الركود الاقتصادي العالمي وقتها.
وفي ظل هذه الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة بدأت بعض الأصوات في المعارضة تتجه نحو تحميل اللاجئين السوريين المسؤولية، إذ يرى نادر الخليل الباحث بمركز عمران للدراسات أن اللاجئين أصبحوا "شماعة" يعلق عليها المشكلات الاقتصادية وتردي أوضاع المعيشة.
وقال الخليل في حديث لموقع "تلفزيون سوريا" إن "الكثير من الأتراك باتوا ينظرون إلى اللاجئين على أنهم يشكلون عبئاً اقتصادياً على البلاد، والبعض يعتبرهم السبب الأساسي للمشكلة، متناسين طبعاً -بسبب الضخ الإعلامي للمعارضة- الأسباب الحقيقية لتلك الأوضاع، التي تتمثل بارتفاع نسب التضخم، والآثار الاقتصادية الكبيرة لوباء كورونا إلى غير ذلك من الأسباب.
وفي السياق يشير "الخليل" إلى ناحية مهمة ألا وهي إقبال أصحاب الشركات والمعامل التركية على توظيف العمال السوريين بنسب كبيرة؛ لأنهم يعملون ساعات أكثر بأجور أقل، وأغلبهم غير مسجل في الضمان الاجتماعي.
هذا بدوره "كان له أثر كبير في زيادة الاحتقان لدى شريحة واسعة من الأتراك، الذين بدؤوا يشعرون أن اللاجئين السوريين يزاحمونهم على لقمة عيشهم"، بحسب الخليل.
أين الحكومة التركية من ذلك؟
في ظل تلك الأوضاع الاقتصادية المتردية، كانت الحكومة التركية تكرر بين فترة وأخرى أنها تصرف المليارات على اللاجئين السوريين، بما في ذلك تصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن إنفاق ما يصل لـ 40 مليار دولار على اللاجئين السوريين.
هذا الخطاب كان له تأثير سلبي جداً على اللاجئين السوريين بحسب الناشط الحقوقي أحمد قطيع، الذي يوضح لموقع "تلفزيون سوريا" أن أحزاب المعارضة استغلت هذه التصريحات وبدأت تطالب بإنهاء ملف اللاجئين، وتدعو لإعادتهم إلى بلادهم؛ لأن الحكومة بنظرهم تصرف المليارات عليهم، بينما يعاني المواطن التركي من التضخم وارتفاع الأسعار.
ويعلل "قطيع" تكرار الحكومة التركية لموضوع صرف المليارات على السوريين بأغراض سياسية، إذ يرى أن هذا الخطاب موجه للخارج، والغاية منه الضغط على أوروبا لجلب المزيد من المساعدات والدعم للسوريين.
من ناحيته يؤكد الباحث نادر الخليل أن المعارضة التركية كانت تتلقف هذه التصريحات "بسوء نية" وتتعمد تضخيمها وتحريفها عن سياقها من دون الإشارة إلى مصادر التمويل الأصلية، التي يأتي أغلبها على شكل مساعدات ودعم أوروبي وأممي.
ويشير "الخليل" إلى أن هذه التصريحات ساهمت في تأجيج مشاعر الغضب لدى بعض الأتراك، الذين يرون أن هذه الأموال يمكن أن تُصرف على المواطنين الأتراك بدلاً من اللاجئين.
وكان الاتحاد الأوروبي قدّم في منتصف حزيران الماضي مبلغ 50 مليون يورو لبرنامج المساعدات النقدية المخصصة لدعم السوريين في تركيا.
وأوضحت مفوضية الاتحاد الأوروبي وقتها أن هذا المبلغ هو جزء من حزمة المساعدات التي أعلنتها مفوضية الاتحاد الأوروبي في حزيران 2021، لدعم اللاجئين في تركيا لغاية 2024.
دعاية الخدمات المجانية
التصريحات الرسمية لم تكن الوحيدة في تأجيج العنصرية، بل رافقها معلومات أخرى نشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي من قبل مواطنين أتراك، ومن شخصيات معارضة مفادها أن "السوريين لهم الأولوية في الدخول بالمدارس، ولا يدفعون فواتير الكهرباء والماء، ولا حتى أجور المنازل".
وفي هذا السياق يرى الناشط قطيع أن الكثير من أحزاب المعارضة استغلت هذه الإشاعات وعملت على تضخيمها إعلامياً خدمة لأجندتها الانتخابية من أجل كسب صوت الناخب التركي، الذي يعاني من ارتفاع تكاليف المعيشة، إضافة إلى صعوبة في إيجاد منازل للإيجار خاصة في المدن الكبرى كأنقرة وإسطنبول.
ولفت "الخليل" كذلك إلى أن القوة الإعلامية التي تمتلكها المعارضة، وانتشارها بشكل كبير بين أوساط الشباب، أدى إلى انتشار هذه الشائعات وتقبلها لدى شرائح واسعة من الشعب التركي كانت سابقاً في صف اللاجئين، أو متعاطفة معهم.
وأردف الباحث في الشأن التركي أن هذه الأحزاب حاولت تقديم نفسها لفئة الشباب كمُخلص من هذه الأزمات المعيشية القاسية، والتي يتحمل اللاجئون السوريون قسماً كبيراً من مسؤوليتها- عند وصولها إلى السلطة.
ويضرب الخليل مثالا لهذه الشائعات منها نقل وسائل إعلام وتواصل اجتماعي محسوبة على المعارضة مشاهد اللاجئين السوريين وهم يستلمون المساعدات المالية المعروفة بـ "كرت الهلال الأحمر" الممول أوروبياً.
ويضيف الخليل أنه قد تم استخدام هذه المشاهد من قبل بعض العنصريين للترويج لفكرة أن اللاجئين يتلقون مساعدات مالية كبيرة من الحكومة التركية.
النشاط الاقتصادي للسوريين والعرب
وفي تشرين الأول عام 2022 كشفت غرفة "تجارة إسطنبول" في دراسة أعدتها عن مساهمة واسعة لرجال اﻷعمال السوريين في اقتصاد المدينة بشكلٍ خاص، وتركيا بشكلٍ عام.
وأضافت الدراسة أن عدد الشركات السورية يُقدّر بنحو 20 ألفاً بما في ذلك رواد أعمال سوريين غير مسجلين، وبحسب هذه الدراسة فإن إجمالي رأس مال الشركات السورية المتنوعة بين قطاعات الأدوية والأجهزة الطبية إضافة إلى تقنيات المعلومات، والمطاعم ووكالات السفر، بلغ 2 مليار ليرة تركية، أي (ما يقرب من 110 مليون دولار أميركي).
هذا النجاح الاقتصادي للسوريين وخاصة في المدن الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة وغازي عينتاب، والذي تجلى بإنشاء المعامل والشركات، إضافة إلى المطاعم والمحال التجارية الأخرى أثار بحسب الناشط قطيع حفيظة وضغينة العنصريين الذين لا يحبون الخير لأحد، واستغلوه في تأليب الشارع التركي على السوريين، من خلال الادعاء أن هؤلاء اللاجئين أخذوا فرصتكم بالاستثمارات في المراكز الاقتصادية الكبرى، ومن خلال جولاتهم في هذه الأسواق وتصوير كيف سيطر هؤلاء اللاجئون عليها.
ويستدرك الناشط الحقوقي أن الواقع هو عكس ذلك إذ شكل السوريون إضافة للاقتصاد التركي، وكانوا حلقة الوصل بين تركيا والمستثمرين الخليجيين، لعدة عوامل منها إتقان أغلبهم للغة التركية، إلى جانب نقل التجار السوريين استثماراتهم من العديد من الدول العربية إلى تركيا.
وكانت صحيفة Turkiyegazetesi نقلت في وقت سابق عن رئيس جمعية رجال الأعمال والصناعيين العرب "أسياد" عبد الغفور صالح عصفور، أن استثمارات رجال الأعمال السوريين في تركيا تجاوزت 10 مليارات دولار أميركي.
وأشار عصفور إلى دور رجال الأعمال السوريين في تنشيط الصادرات التركية بالقول إن "التجار القادمين من حلب يحافظون على علاقاتهم مع الدول الأوروبية والآسيوية، وخاصة الدول العربية" مقدراً صادراتهم بأكثر من 500 مليون دولار.