عندما استكمل سكان حي السبيل، أرقى مناطق حلب وقتئذ، بناء مسجدهم الفسيح الذي سمَّوه «جامع الروضة»؛ تداولوا عن الشيخ الذي سيتوّج عملهم، إماماً وخطيباً، فوقع اختيارهم على طاهر خير الله.
في ذلك العام، 1970، الذي سيفتتح عقداً من تعايش البرجوازية السورية مع حكم البعث في عهد حافظ الأسد؛ كان الشيخ في الثامنة والأربعين، يلمع نجمه بقوة في الفضاء المشيخي الحلبي محققاً كل الشروط. فهو ابن عائلة منسوبة إلى الأشراف الحسينيين، ترعى زاوية قديمة يقام فيها الذكر على الطريقة الرفاعية. تربى في كنف والده الشيخ بشير في أطراف حي باب الحديد من حلب القديمة. درس في ثانويتها الشرعية الشهيرة «الخسروية»، قبل أن يستكمل تحصيله في كلية أصول الدين بالأزهر الشريف. ثم يعود إلى مدينته فيحتل مكانه المتصاعد بين شيوخها، خطيباً مفوهاً، وقارئاً شجياً، ومدرّساً ثم مديراً للثانوية الشرعية نفسها، ومديراً للجمعية الخيرية الإسلامية.
انتقل الشيخ للسكن في بيت أمام الجامع، بصحبة زوجته التي تنتمي إلى العائلة نفسها، ودزينة كاملة من الأبناء والبنات. ودون أن يعلم ما تحمله له الأقدار أخذ موقعه المفترض بنشاط، فزاد عدد الحضور حتى فاض بهم المكان ومدوا سجاجيدهم على الأرصفة لسماع تلاوته في صلاة التراويح برمضان وخطبته يوم الجمعة، وأقام درساً يشرح فيه أحاديث نبوية من «رياض الصالحين» يوم السبت، وآخر للنساء يوم الأحد، في حين خصّص الثلاثاء لتنظيم «مولد» أسبوعي تناوب على إحيائه صبري مدلل وحسن الحفار، الأشهر في حلب وقتئذ، وجيل أحدث من المنشدين الحركيين كان من أبرزهم أبو الجود (منذر سرميني)، ابن الحي وطالب الهندسة المدنية.
في أحشاء كل ذلك، وفي قلب الليالي الشجية لطرب الموالد، كانت كتلة جهادية صغيرة وغامضة تأخذ بالنمو. زرعها الشيخ مروان حديد ورعاها من بعده أتباعه
كان أمثال سرميني كثيرين في بيئة جامع الروضة في السبعينيات. فبعد أن سكنت الطبقة الحلبية الثرية، إثر عقد عاصف من قرارات التأميم ومضايقات الاشتراكية المتمركسة في الستينيات؛ اتجه جيلها الأحدث إلى التعليم الجامعي كبديل عن الأعمال التقليدية أو رديف لها. واستمر في حمل النزعة المحافظة للأجداد والآباء بطبعة جديدة، فوجد نفسه في فضاء جماعة الإخوان المسلمين، متزايدة النشاط في البلاد آنذاك، سواء انتمى إليها بالتنظيم أو لا.
في أحشاء كل ذلك، وفي قلب الليالي الشجية لطرب الموالد، كانت كتلة جهادية صغيرة وغامضة تأخذ بالنمو. زرعها الشيخ مروان حديد ورعاها من بعده أتباعه الذين كان من أبرزهم شاب نحيل بلحية سوداء كثة. إنه حسني عابو، ابن العائلة الميسورة التي تقطن بجوار الشيخ، والتي لم تجد لابنها خيراً من ابنته حين قرر الزواج، مفتتحاً لعائلة خير الله مساراً جديداً في الحياة، ولا سيما حين سعى لاحقاً في تزويج شقيقة زوجته من عدنان عقلة. كان عابو مسؤول «الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين» في حلب، ونائب أميرها العام. وكان عقلة صديقه وقائده العسكري وخليفته.
لا نعلم إن كان الشابان قد أخفيا عن حَمِيهما الأمر، والمصير الذي قد ينتظر البنتين مع زوجين يعلنان أن «الشهادة في سبيل الله» أسمى أمانيهما. ولا تتضح الأسباب التي دفعت الشيخ إلى الموافقة. هو الذي لم ينتسب يوماً إلى حزب أو جماعة، وإن اشتهرت خطبه «بالجهر بالحق» كما يقول كتّاب سيرته.
بين أشلاء وثائق تلك المرحلة حفظ لنا التاريخ خطبتي جمعة متواليتين للشيخ طاهر، يبدو أنه ألقاهما أيام الإضراب العام في نيسان 1980، بدعوة من النقابات المهنية وتأييد من الإخوان المسلمين، ولاقى استجابة شاملة في مدينة حلب. في الأولى يقول الشيخ، الذي كان عضواً في لجنة العلماء التي تفاوض ممثلين عن النظام، إن المشايخ طرحوا على المسؤولين «كل ما يشكوه الشعب، الشعب المسلم، كل ما تشكوه الأمة، من هجمة بعض الزعماء... على تعاليم الإسلام أو النيل من المسلمين»، مؤكداً أن النقاش تناول كل صغيرة وكبيرة «بكل قوة وجرأة». وأنهم وجدوا استعداداً وتجاوباً بعد عدة جلسات. طالباً من جمهوره أن «تتركوا الأمر إلينا» بانتظار فرج قريب، وإلا فإن العلماء سيكونون «أول من يحملون أكفانهم على آباطهم ليكونوا قادتكم حتى تكون كلمة الله هي العليا». وهكذا ضبط انفعال سامعيه، الذين ارتفعت أصواتهم بالتكبير في الشريط، طالباً منهم الخروج بعد الصلاة «بهدوء وطمأنينة إلى بيوتكم»، دون مظاهرة كما اعتاد رواد الجامع الذي كان أحد مراكز الاحتجاجات. أما في الثانية فيشدد على الطلب بأن تفتح المدينة أبوابها، بناء على ما لديه من «مشورات ومعلومات تشاورت بها مع إخوتي العلماء» لتفويت الفرصة على من يريد استغلال هذه الظروف، في حين يهدف المشايخ إلى أن يجنّب الله «بلادنا وعبادنا وذرياتنا كل فتنة».
كان للطليعة المقاتلة رأي آخر، بالطبع، فقد دعمت الإضراب بالقوة وسخرت من أي «سياسة» مع النظام. وكانت للصهر الثاني للشيخ، بعد إعدام الأول، أفكار أخرى عن وظيفة حميه. ففي رسالة وجهها عقلة، في شباط من العام نفسه على الأرجح، لأمير التنظيم في حماة، أخبره أن احتفال حلب بعيد المولد النبوي في جامع الروضة كان مشهوداً، وأن الشيخ طاهر ألقى فيه «خطبة رائعة دعا فيها إلى التسلح والاستعداد». ولعل هذا يعود إلى قوة التمرد في مطلع العام وتراجعه لاحقاً وبدء مبادرات التفاوض، أو لأسباب أخرى.
أياً يكن من أمر، وصلت الحلول الوسط التي راهن عليها الشيخ إلى طريق مسدود. وخشي أن يتكرر اعتقاله كما في تشرين الأول 1979، حين أدى ذلك إلى خروج أول مظاهرة في حلب أيامها، انطلقت من جامع الروضة واتجهت إلى فرع المخابرات العامة (أمن الدولة) فحاصرته. وهنا لم يجد بداً من مغادرة البلاد، فخاض تجربة سياسية قصيرة في «الجبهة الإسلامية»، وهي تجمع أنشأه الإخوان للتنسيق مع المشايخ المستقلين الحلفاء. واستقر في المدينة المنورة حتى وفاته مطلع عام 1989.
بادر أحد الفصائل إلى الرد بقذائف عشوائية طالت عدة مدنيين في منطقة الموكامبو، بينهم نورا محمد الفاتح خير الله، ابنة الثمانية عشر ربيعاً، ضحية بلا ذنب، شهيدة دون قضية
لم تكن معيشة الشيخ رخيّة في مهجره السعودي. فقد عمل لوقت قصير فقط مدرّساً في الجامعة الإسلامية، وكان معيلاً لأكثر أسرته التي سافرت معه، حتى إذا أتيحت فرصة تسوية الأوضاع عاد بعض من لم يكن لهم نصيب من المسؤولية إلا القرابة. ومن هؤلاء كان محمد الفاتح، أصغر الأبناء الذكور للشيخ، وكان قد غادر البلاد يافعاً، فعاد واستقر، بأمان حذر، في الحي الذي نشأ فيه، حتى الأيام الأخيرة من شباط 2014، عندما كانت طائرات النظام ومدفعيته تضربان الأحياء الشرقية من المدينة، والواقعة تحت سيطرة المعارضة المسلحة، وكانت قوائم الشهداء تتوالى يومياً؛ عندما بادر أحد الفصائل إلى الرد بقذائف عشوائية طالت عدة مدنيين في منطقة الموكامبو، بينهم نورا محمد الفاتح خير الله، ابنة الثمانية عشر ربيعاً، ضحية بلا ذنب، شهيدة دون قضية.