اعتاد النظام السوري على مدى نصف قرن أن يتغنى بمجانية التعليم في سوريا وإلزاميته، وكان خريجو المدارس السورية يثبتون جدارتهم حقيقة باعتراف كثير من دول الجوار والخارج، لكن الأمور ليست كما كانت عليه في السابق، في ظل تراجع جودة التعليم ونوعيته.
ولكن التعليم بدأ يتراجع في سوريا مع بداية الألفية الجديدة، شيئاً فشيئاً حتى تدهور فعلياً في سنين الحرب رغم المحاولات التي بذلتها وزارة التعليم لتعديل المناهج ومحاولتها مواكبة الدول المتقدمة.
التعليم بشكله الخارجي مازال مجانياً، ولكن الحقيقة تقول عكس ذلك تماماً، فيما لا يدفع الطلاب السوريون في مدارس الدولة أي رسوم سنوية للحصول على التعليم يضطر أهاليهم لدفع هذه الرسوم على دفعات كأقساط لدروس خصوصية وكتب مدرسية بدلاً من الكتب التالفة التي تسلمها المدارس للطلاب سنوياً بشكل مجاني.
أم أحمد، موظفة في قطاع الدولة ولديها ولدان في المرحلة الإعدادية والثانوية، تبدأ معاناتها منذ بداية العام الدراسي لتأمين قرطاسية المدرسة والكتب التي تضطر لشراء معظمها لابنها في المرحلة الإعدادية وجميعها لابنها في المرحلة الثانوية.
تقول أم أحمد، رفضت كشف اسمها الصريح لأسباب أمنية، اضطر لتوفير النقود لكي أدفع أجرة دروس خصوصية لأولادي، لأن المدرسين في مدارس الدولة لم يعودوا يدرسون بشكل جيد.
فضلاً عن الأعباء المادية تشكل الدروس الخصوصية ضغطاً على الطالب نفسه بالوقت والجهد.
تصل أجرة الدرس الخصوصي للطالب الواحد ما لا يقل عن ٨ آلاف ليرة سورية (دولارين تقريباً) والسعر يختلف زيادة أو نقصانا حسب المدرس وخبرته وشهرته، في ظل انخفاض الدخل في سوريا.
وتعتبر الصفوف الانتقالية أخف ضغطاً من سنين الشهادتين الإعدادية والثانوية، والتي يدفع فيها الأهالي مبالغ طائلة لقاء دورات صيفية ودروس خصوصية خلال العام الدراسي إضافة لجلسات "تسميع"، أي اختبارات ما قبل الامتحانات النهائية.
بدوره مازن، رجل خمسيني لديه ابن سيتقدم لامتحانات الشهادة الثانوية هذا العام، اضطر لسحب قرض على راتبه الشهري ليؤمن أجرة دروس ابنه الخصوصية، ولأنه ابنه الوحيد فقد أراد تأمين كل ما يلزم له ليضمن استمرار تفوقه ونجاحه.
يقول مازن في حديثه لموقع "تلفزيون سوريا"، "هنالك أساتذة يتعاملون مع الطالب كدجاجة تبيض لهم، وهنالك من بقي بقلبه رحمة ويساعد الطلاب ويخفف عن أهاليهم، ولكن الوضع سيئ على الجميع".
وبحسب مازن، هناك أساتذة يجمعون عدة طلاب في مجموعات ويأخذون من كل طالب نصف أجرة الدرس الخصوصي وبذلك يساعدون الطلاب.
البكالوريا باتت تمتد لعامين وثلاثة
لا تزال امتحانات الشهادة الثانوية مصيرية، والتي تعرف بـ "البكالوريا"، بالنسبة لطلاب السوريين وتحدد مستقبله التعليمي بكامله، الأمر الذي جعلها عقبة تواجه العائلة بكاملها وليس الطالب فحسب.
في السابق، كان التركيز في مرحلة البكالوريا يقتصر على السنة نفسها من دورات صيفية وشتوية واختبارات ما قبل الامتحان النهائي.
ولكن اليوم بات الطلاب يستعدون للبكالوريا قبل سنة أو سنتين، حيث يبدأ الطالب التحضير لها منذ الصف الثاني الثانوي، ولا تلبث امتحانات الفصل الدراسي الأول أن تنتهي حتى يبدأ شيئاً فشيئاً بالانقطاع عن الدوام والبدء بالتحضير للبكالوريا ولا يعود إلا لتقديم فحص الفصل الثاني وبشكل صوري لضمان عدم فصله من الصف الثاني الثانوي.
ماجد، مدرس لمادة الرياضيات في المرحلة الثانوية، يعطي دروساً خصوصية للراغبين بذلك، يبدأ كل عام في شهر آذار/مارس بافتتاح دورات تحضيرية لطلاب البكالوريا، ثم يفتتح دورات صيفية لمن يرغب بدراسة منهاج الرياضيات في الصيف،
ومع بداية العام الدراسي يبدأ المدرس ماجد بإعطاء دروس خصوصية لطلاب البكالوريا ويجري للطلاب اختبارات تمهيدية ما قبل الفحص عدا عن التسميع مباشرة قبل الامتحان.
يقول المدرس لموقع "تلفزيون سوريا"، "لست الوحيد الذي يقوم بذلك، كل مدرسي المواد يتبعون أسلوبي نفسه والطلاب اليوم باتوا يخافون البكالوريا كثيراً".
يشتكي ماجد من دنو مقدار الراتب الحكومي، ويقول أضطر لإعطاء الدروس الخصوصية لحاجتي إلى كسب النقود فراتب الدولة لا يكفيني ثمن خبز ومواصلات.
لكن هذا يرهق أهالي الطلاب ويجدون أنفسهم مجبرين أن يسجلوا أولادهم في هذه الدروس كيلا يشعروا أنهم حرموهم من شيء.
يضطر كثير من السوريين إلى تسجيل أبنائهم في دروس خصوصية رغم الضائقة الاقتصادية لكي لا يحرموهم من فرصتهم في الحياة بالحصول على تعليم جامعي يساعدهم في المستقبل.
وداد، أم لثلاثة أطفال، أكبرهم سيتقدم للبكالوريا العام المقبل، وداد صيدلانية وغير مقتنعة بأن تخضع ابنها لكل هذا الضغط والدروس الخصوصية لكنها واثقة أن مدارس الدولة لم تعد كالسابق، وتراجع مستواها كثيراً، ولا تريد أن تحرم ابنها من أي شيء فلذلك فعلت كما يفعل كل الأهالي.
تقول وداد، "أصبحت القصة موضة بين الطلاب والأهالي ولا أقدر بمفردي مواجهة هذا الواقع السيئ".
السنة التحضيرية للكليات الطبية
في السنوات الأخيرة، قررت وزارة التعليم العالي التابعة للنظام السوري إحداث سنة دراسية بعد البكالوريا لمن يرغب بدراسة الكليات الطبية أطلق عليها السنة التحضيرية للكليات الطبية.
يدرس الطالب في هذه السنة المواد الأساسية الموحدة بين كليات الطب البشري والأسنان والصيدلة وبعدها يتم حساب معدله ويضاف له معدل سنة البكالوريا، ومن ثم يدخل بـ "مفاضلة" (التقديم الجامعي) جديدة تخوله الدخول للكليات الطبية أو يضطر لدراسة فرع آخر ويخسر عاماً كاملاً، وبذلك تصبح البكالوريا أخف وطأة مقارنة بالسنة التحضيرية.
شكلت السنة التحضيرية فرصة جديدة أمام المعاهد الخاصة لاستغلالها، عبر إطلاق دورات لمواد السنة التحضيرية، عادة يكون مدرسو المواد من طلاب السنوات الأخيرة من الكليات الطبية أو أطباء مقيمين للاختصاص في وزارة التعليم.
معاذ، طالب في كلية الطب البشري، عانى كثيراً ليتجاوز السنة التحضيرية، ولكنه صبر لأنه يريد تحقيق حلمه بدخول كلية الطب البشري ويصبح طبيباً ناجحاً.
يقول في حديثه لموقع "تلفزيون سوريا"، إن السنة التحضيرية تجربة فاشلة في سوريا، وهي من وجهة نظري جيدة من حيث المبدأ لكن تطبيقها فاشل جداً.
الجامعات الخاصة تتفوق على الجامعات الحكومية
يعتبر نظام الجامعات الخاصة جديدا نسبياً في سوريا، وأقدم جامعة خاصة هي "جامعة القلمون"، تم افتتاحها قبل 15 سنة.
في السابق، كانت الجامعات الخاصة تعتبر ملاذاً لمن لم تسعفه علاماته في البكالوريا دخول الفرع الذي يرغب به في الجامعات الحكومية، كما كان ينظر لطلاب الجامعات الخاصة بعين النقص على أنهم أبناء الأغبياء وأقل أهمية وعلماً من طلاب الجامعات الحكومية.
ولكن عاماً بعد عاماً بدأت النظرة تتغير لطلاب بعض الجامعات الخاصة خصوصاً بعد أن بدأت هذه الجامعات بفرض شروط خاصة لدخولها وعلامات محددة في صف البكالوريا، فضلاً عن اعتمادها نظاماً في التعليم كما في جامعات الخارج.
قصي، خريج كلية الصيدلة في أحد الجامعات الخاصة، سافر إلى خارج سوريا ليكمل دراسته، يعتبر أن دخوله الجامعة الخاصة وفر عليه كثيراً من التعب والضغط النفسي الذي كان سيعاني منه في جامعات الدولة.
بحسب قصي كل المواد درسها باللغة الإنكليزية في الجامعة الخاصة في سوريا وهو ما سهل عليه الدراسة في الخارج.
يشار إلى أن سوريا تعتبر من قلائل الدول التي مازالت تدرس المواد الطبية باللغة العربية.
يرى قصي أنه من الخطأ الاستمرار التدريس باللغة العربية في الكليات الطبية، موضحاً في قوله إن المشكلة هي الصدمة اللغوية التي يعاني منها خريج الكليات الطبية عندما يرغب بأن يتابع دراسته في الخارج أو حتى عندما يرغب بأن يطور نفسه ويبقى مواكباً للتطور الطبي.