يدخل الحراك الثوري السلمي في مدينة السويداء عامه الأول من دون انقطاع، ليشكّل بذلك المحتجون من أبناء المحافظة ظاهرة فريدة ليست على مستوى سوريا فقط، وإنما على مستوى العالم كأول مدينة تنظّم احتجاجاً سلمياً متواصلاً لمدة عام، متحدية كل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها سكان المحافظة، إلى جانب التحديات الأمنية التي حاول نظام الأسد من خلالها، تشويه سمعة هذا الحراك.
وبدأ الحراك من ساحة الكرامة وسط مدينة السويداء، في 17 آب 2023، إثر رفع النظام أسعار المشتقات النفطية من خلال إضراب عام، ليتحوّل بشكل سريع إلى حراك ضد النظام بالمجمل، منتقلاً من المطالب الاقتصادية والأمنية إلى رفع شعارات الثورة السورية المتمثلة بإسقاط النظام والتغيير السياسي عبر تطبيق قرار مجلس الأمن 2254، وإطلاق سراح المعتقلين وخروج القوى الأجنبية من البلاد.
— تلفزيون سوريا (@syr_television) August 15, 2024
ورغم أن حراك السويداء ترافق مع عدة تحركات ودعوات للإضرابات على الساحة السورية منها إضراب 20 آب في منطقة الساحل مثلاً، وبعض المناطق في ريف دمشق وحمص، فإن هناك عوامل كثيرة لعبت دوراً في الحفاظ على سلمية الحراك، واستمراره ليدخل عامه الثاني.
"شد وجذب من قبل النظام"
حاول النظام اختراق حراك السويداء مستخدماً "القوة الناعمة" نظراً لعدم تمكّنه –لأسباب تتعلق بالتكوين الطائفي والاجتماعي، إضافة إلى علاقات مشايخ العقل السياسية مع دول الجوار- من قمع الحراك عسكرياً، وهو الذي طالما تغنّى بفكرة حماية الأقليات الدينية والعرقية في سوريا.
وفي سياق الضغط السياسي أكّدت مصادر صحفية مطلعة أن رئيس المخابرات العامة للنظام اللواء حسام لوقا أجرى منذ اندلاع الاحتجاجات في السويداء وإلى فترة قريبة سلسلة زيارات إلى عدة دول عربية تمتلك تأثيراً على الجنوب السوري والمكوّن الدرزي فيه، أبرزها الأردن ولبنان، وسعى لإقناعها بمساعدته على وقف الاحتجاجات في السويداء تجنّباً لانتهاج الحل الأمني الذي قد يتسبّب له بارتدادات دولية، لكن مساعيه لم تفضِ إلى نتائج نظراً لاستياء دول جوار سوريا من استمرار عمليات تهريب المخدرات والأسلحة، وتنامي نشاط الميليشيات المدعومة من إيران.
وأمام فشل النظام في احتواء الحراك سياسياً سعى لشقّ صفّ القيادة الروحية الدرزية والعقاب الجماعي للسكّان من خلال التضييق عليهم في مختلف الخدمات والمساعدات الإنسانية التي تقدمها المؤسسات الحكومية أو الجمعيات الخيرية المرتبطة به، كما لجأ النظام خلال الفترة الأخيرة إلى استقطاب عدد من أبناء السويداء وتسليحهم للتصدي للحراك، هذا إلى جانب الحملات الأمنية المتتالية والحشود العسكرية بمحيط المحافظة.
وبعد تصعيد شباب الحراك لتحركاتهم في شهر آذار الماضي، ودعوتهم إلى إضراب عام استجابت له فعاليات سياسية وشعبية واسعة، ترافق مع اقتحام مقرّ "الشعبة الشرقية لحزب البعث"، وتفريغه من محتوياته الورقية، وتمزيق صور رئيس النظام ووالده حافظ الأسد، لجأت قوات النظام إلى إطلاق النار على المحتجين ليكون (جواد الباروكي) أول "شهيد للواجب"، كما وصفه شيخ عقل الطائفة حكمت الهجري.
وكان آخر الإجراءات التي اتخذها النظام السوري ضد المحتجين في السويداء إصدار القيادة المركزية لـ"حزب البعث"، الثلاثاء الفائت (13 آب)، مذكرة طرد بحق "100 عضو عامل"، في محافظة السويداء، وذلك بسبب مشاركتهم في "الاحتجاجات السلمية المطالبة بالتغيير".
الحفاظ على سلمية الحراك
حاول النظام من خلل عدة أساليب جر الأهالي إلى العنف، عن طريق حملات التشويه ومحاولات زرع الفتنة بين أبناء الطائفة أيضاً، يساعده على ذلك وجود عدة مجموعات غير رسمية تحمل مسميات مختلفة بعضها عسكري، وبعضها الآخر اجتماعي وديني، ومن أبرز هذه العصابات التي تمتهن الخطف والقتل وتحظى بحماية النظام جماعة "مهند مزهر" وجماعة "لؤي الشعار"، وجماعة "علاء أبو عسلي".
وفي سياق دفع الحراك للعنف اغتال النظام الشهر الماضي (القيادي مرهج الجرماني)، قائد فصيل "لواء الجبل"، والذي يعد من مؤسسي "ساحة الكرامة"، وكان له دور في تنظيم الاحتجاجات وحمايتها.
وعن محاولات النظام جر الحراك إلى حالة العسكرة والعنف يقول الممثل السابق لمدينة السويداء في الائتلاف الوطني السوري حافظ قرقوط: إنّ "نظام الأسد حاول استدراج المحتجين إلى المواجهات المسلحة، لكن هذه المخططات فشلت، ولم تلجأ المظاهرات إلى العنف والسلاح".
وتابع: "لا ننسى عمليات الاغتيال وإطلاق النار العشوائية بغية إثارة البلبلة والفوضى، لكن كل المساعي باءت بالفشل برغم التفجيرات، وذلك بفضل وعي وحكمة الشباب المشاركين في الحراك".
وأضاف قرقوط لـ موقع تلفزيون سوريا، أنّ هذا الحراك يمثل أكبر تجمع سلمي في سوريا الآن، ولن يتراجع عن تحقيق أهدافه، وسيستمر في وجه النظام القمعي الاستبدادي الذي اختار لغة العنف والحل الأمني لمواجهة المظاهرات السلمية الحرة.
وإلى جانب وجود ميليشيات تابعة للنظام السوري في مدينة السويداء، التي يستخدمها النظام أحياناً لإثارة البلبلة في الحراك، يوجد أيضاً فصائل تعتبر ذات موقف حيادي من النظام، وتنحصر مهمتها في حماية الشبّان الممتنعين عن الالتحاق بالخدمة الإلزامية ضد اعتقالات أجهزة المخابرات، والدفاع عن المحافظة ضد الجماعات المتطرفة، إضافة إلى دورها الحالي في حماية المشاركين في الحراك من مختلف الطوائف في المحافظة، ومن أبرزها "حركة رجال الكرامة" و"قوات الفهد".
وتعقيباً على هذا الدور يقول القيادي السابق في الائتلاف، إن الفصائل العسكرية الموجودة في السويداء وغير التابعة للنظام، لم تتدخل في الحراك، واقتصر دورها على المراقبة وحماية المدنيين، وهذا يشكّل - وفق قرقوط ـ علامة فارقة ومهمة إذا ربطناها بما حدث في بقية المدن السورية التي كانت الفصائل تتدخل فيها، وتفرض حواجز وإتاوات، حتى أن بعض الفصائل باتت تسيطر على مناطق جغرافية محددة لتشكّل منها إقطاعيات خاصة بها، وهذه كانت نقطة إيجابية ساهمت في استمرارية ومدنية الحراك.
من ناحية أخرى يشير "قرقوط" إلى أنّ الحفاظ على مؤسسات الدولة كان هاجساً ملحاً للحراك بشكل عام، لأن أبناء المحافظة يفصلون بين النظام وبين المؤسسات التي هي ملك للشعب، والتي ما زالت تعمل بفضل الرقابة عليها وحمايتها من قبل شباب الحراك.
"مشاركة كل أطياف المجتمع"
ما يميّز الحراك الحالي عما سبقه من الحركات الاحتجاجية في السويداء، خلال عامي 2018، 2020، هو اتساع نطاقه الجغرافي على مستوى المحافظة، وانخراط مختلف الفئات والقوى الاجتماعية فيه.
فإلى جانب الشباب والنساء إضافة إلى باقي فئات المجتمع من نقابات ومهنيين، كانت هناك مشاركة واضحة من مشايخ العقل، الزعماء الدينيين للطائفة الدرزية، الذين درجوا على تبني مواقف محايدة من الصراع أو مؤيدة للنظام ومواقفه، ساعدت سابقاً في تهدئة الفئات المحتجة، فقد عكست مشاركتهم دعماً ضمنياً لمطالب الحراك، بالإضافة إلى تحذير ضمني لنظام الأسد من أي أعمال متهورة قد تستهدف المتظاهرين.
وخاطب الشيخ حكمت الهجري، الزعيم الروحي لطائفة الموحدين الدروز، الشباب في الأيام الأولى للاحتجاج قائلاً: "نحن خلفكم، ندعم مواقفكم الوطنية، لكننا لسنا سياسيين، أما أنتم الشباب، فتفهمون السياسة بشكل أفضل".
وتعليقاً على مشاركة مشايخ العقل في الحراك يوضّح ربيع الدبس -عضو اللجنة السياسية لحراك السويداء- أنّ التغطية من مشايخ العقل هي تغطية اجتماعية قبل أن تكون دينية، فلم نلحظ شعارات دينية على الإطلاق وإنما كانت كل الشعارات وطنية خالصة.
وهذا ما بدا واضحاً عبر البيانات الصادرة عن المشايخ، حيث كانت البيانات تخص الوضع السوري بشكل عام، وتخص كرامة المواطن بغض النظر عن الانتماء لأي طائفة، وعلى هذا حظي الحراك بغطاء اجتماعي ديني في المحافظة.
ويوضح "الدبس" في حديثه لـ موقع تلفزيون سوريا، أن الربط الجغرافي والمعنوي بين العديد من نقاط التظاهر في المحافظة والنقطة المركزية في "ساحة الكرامة" يرجع إلى النقابات التي ينتمي بعضها إلى الحراك، وإلى مشاركة كل شرائح المجتمع فيه، وعلى هذا يكون الحراك قد أخذ هويات متعددة، لكنه التقى على هدف واحد، وهذا ساعد على تثبيت واستمرارية الحراك.
إلى جانب ذلك، برزت مشاركة واضحة للنساء في الحراك، إذ تُظهر الكثير من الصور والفيديوهات سوريات يرفعن لافتات تعبر عن مطالب معيشية، إضافة إلى المطالب السياسية، حيث بلغت نسبة مشاركة المرأة في الاحتجاجات أكثر من 30%، بحسب عضو الائتلاف السابق حافظ قرقوط، الذي يشدد على أن مشاركة المرأة ساهم في تدعيم هذا الحراك وإعطائه الروح الاجتماعية وروح الأسرة السورية، كون المجتمع الحي يبدأ من صناعة الأسرة بشكل حيوي.
"انتخابات وتمثيل سياسي للحراك"
في خطوة تهدف إلى دفع عجلة الاحتجاجات الشعبية حتى تحقيق مطالبها، وتنظيم خطوات الحراك السلمي، والابتعاد عن الأحزاب والتيارات السياسية، تم تأسيس "الهيئة العامة للحراك السلمي في السويداء"، في شهر تموز الفائت، من قبل دارة الرئاسة الروحية في بلدة قنوات بريف السويداء، وضمت 47 ممثلاً لنقاط الحراك بالإضافة إلى 14 منسقاً.
وأعلنت هذه الهيئة، يوم 25 تموز، تشكيل لجنة سياسية تُمثل نقاط الحراك، مؤلفة من 11 عضواً من بينهم أربع نساء، جرى انتخابهم بالاقتراع المباشر والعلني أمام كاميرات شبكات الإعلام المحلية، في خطوة اعتُبرت أوّل عملية انتخابية ديمقراطية حرة في تاريخ السويداء الحديث، بينما اعتبرها النظام خطوة "انفصالية" وأطلق حملات لتشويهها.
من جانبه، أكّد عضو اللجنة السياسية ربيع الدبس، أنّ "أهمية اللجنة تبرز من كونها أول هيئة منتخبة بشكل حر وديمقراطي تنتفض بوجه نظام الاستبداد، الذي حرم السوريين من ممارسة حقهم في اختيار من يمثلهم على مدار عقود".
ومن أبرز مهام اللجنة التي أشار إليها "الدبس": "الحفاظ على سلمية الاحتجاجات، عدم الانجرار لأي شكل من أشكال العنف، التمسك بوحدة التراب والهوية الوطنية، الانفتاح على كل السوريين لتحقيق التغيير والانتقال السياسي المنشود وفق القرارات الدولية التي تحقق الحل السياسي السوري وفي مقدمتها القرار الأممي 2254".