في ظل الأوضاع الصعبة التي تعصف بمحافظة إدلب في شمالي سوريا، تبرز تحديات جديدة تواجه موزعي خدمات الإنترنت المحتكر من قبل حكومة هيئة تحرير الشام، والذين باتوا يواجهون مشكلات جسيمة نتيجة لقرارات مؤسسة الاتصالات الدورية، كما أثقلت كاهلهم وأثرت سلباً على أساليب عملهم وإيراداتهم بشكل كبير.
من بين القرارات الحديثة التي أثارت جدلاً، هو فرض غرامة مالية على موزعي الإنترنت في حال تأخرهم في دفع فواتيرهم الشهرية "مسبقة الدفع" لمؤسسة الاتصالات إذ تصل هذه الغرامة إلى قيمة الفاتورة نفسها، في خطوة زادت من الضغوط المالية على الموزعين، الذين كانوا يعملون في ظروف صعبة أصلاً بسبب ارتفاع تكاليف الإنترنت وانخفاض الأرباح.
قبل هذه القرارات، كانت سوق الإنترنت في شمالي سوريا يتسم بدرجة معينة من التنافسية والمرونة، وكان موزعو الإنترنت قادرين على جلب الخدمة من مصادر خارجية، خاصة من تركيا وقتئذٍ، ممّا أدى إلى خلق خيارات متعددة وأسعار معقولة نسبياً، لكن الأمور تغيرت بسرعة عندما بدأت هيئة تحرير الشام في فرض سيطرتها على قطاع الاتصالات، مطلع 2020، حيث تم إنشاء مؤسسة جديدة تعنى بتنظيم الإنترنت في المناطق التي تسيطر عليها الهيئة.
وهذه القرارات الجديدة أسفرت عن تغييرات كبيرة في طريقة عمل موزعي الإنترنت، إذ لم يعد بإمكانهم استيراد الإنترنت من تركيا مباشرة، بل أصبحوا مضطرين لشراء الخدمة من مؤسسة الاتصالات التابعة لهيئة تحرير الشام، مما أدى إلى احتكار فعلي لسوق الإنترنت، حيث ارتفعت الأسعار بشكل ملحوظ، وتضاءل هامش ربح الموزعين، الأمر الذي أثر على جودة الخدمة وسعرها النهائي للمستهلكين.
ما بين الماضي والحاضر
يقول محمد الصالح، أحد موزعي الإنترنت منذ عام 2016 بريف حلب الغربي لـ"تلفزيون سوريا": منذ ثماني سنوات أطلقت مشروع الإنترنت مستفيداً من علاقاتي مع موزعين رئيسين لخطوط جملة في مدينة "سرمدا" الحدودية شمالي إدلب، حيث تعاملت مع شاب يملك العديد من أبراج النقل من الأراضي التركية إلى الشمال السوري.
يقول الصالح إن سعر باقة (1 ميغابايت) من الإنترنت كان ثلاث دولارات، ومع زيادة الطلب على الخدمة استقر السعر على دولارين فقط في عام 2018، الأمر الذي أسهم بشكل كبير في نمو مشروعه الخاص الذي تحوّل بعد عدة أشهر لأحد أكبر موزعي الإنترنت غربي حلب، وذلك بفضل جودة الخدمة والأسعار التنافسية.
وأضاف: "لكن بعد سيطرة هيئة تحرير الشام وتأسيس مؤسسة الاتصالات في إدلب، تغيرت الأمور بشكل جذري، أبرزها أن جميع الموزعين يجبرون على شراء باقات من المؤسسة التي حدّدت سرعة الإنترنت وسعره، ليبلغ ثمن الواحد ميغا بايت للموزع بـ ثلاثة دولارات".
قيود جديدة
ولم تكتفِ المؤسسة برفع الأسعار والحدّ من سرعة الإنترنت فقط وفقاً لـ "الصالح" بل فرضت على جميع الموزعين قيوداً صارمة على الدفع ومهلة زمنية للسداد وفرض غرامة مالية للمتخلفين، قائلاً: "إذا تأخرنا في دفع الفاتورة بعد اليوم الثالث من بداية الشهر، تُفرض علينا غرامة مالية تصل إلى نصف قيمة الفاتورة وبعضهم إلى قيمة الفاتورة نفسها، كما أنه وفي حال استمرار التأخير، يتم فصل الإنترنت عن الشبكة بكاملها".
وأردف: "في السابق، كان هناك فائض في حجم الحزمة التي كنا نشتريها، حيث كان الموزعون الرئيسيون يمنحون أصحاب الشبكات كمية أكبر من الحزمة التي نشتريها مقابل السعر الذي كنا ندفع، فعلى سبيل المثال، إذا كان صاحب الشبكة قد اشترى حزمة بحجم 100 ميغابايت، كان المزوّد يقدم له 50 ميغابايت إضافية مجانية، بهدف تحسين جودة الإنترنت وإرضاء المستهلكين.
وأمّا اليوم بحسب الصالح، فيتم تحديد حجم الباقة بالكيلوبايت للموزعين دون أي زيادة، الأمر الذي أثر سلباً على جودة الخدمة التي يقدمونها للعملاء.
خدمة سيئة
بدوره، أكد خالد القاسم سوء خدمة الإنترنت في إدلب، وهو يعمل في هذا المجال منذ بدايته في المنطقة، إذ كان من أوائل المستثمرين الذين استوردوا الإنترنت من تركيا، وقال في حديث لموقع تلفزيون سوريا: "في الفترة التي سبقت سيطرة هيئة تحرير الشام كانت هناك منافسة شديدة على جودة الإنترنت وخفض الأسعار، فكان السعر رخيصاً جداً وكانت جودة الخدمة جيدة جداً في تلك الأيام، وكان مشروع الإنترنت واحدا من أفضل المشاريع في شمال غربي سوريا".
وأوضح: "لكن بعد تأسيس مؤسسة الاتصالات، تغيرت الأمور، وانتهى عهد المنافسة الحرة"، وأسهب القاسم بالقول: "لقد أصبح الجميع مضطرين لشراء الإنترنت من المؤسسة نفسها، وهذا أدّى إلى ارتفاع الأسعار وفرض غرامات صارمة على التأخير، في ظل عدم مراعاة المشكلات اليومية في الخدمة، مثل التقطيع والتوقف المتكرر".
وأوضح القاسم أن شركة الاتصالات فرضت مؤخراً على موزعي الإنترنت إنشاء حسابات بنكية في "بنك شام" التابع لتحرير الشام في إدلب، بهدف إيداع الفواتير الشهرية التي يتم تحصيلها بالدولار الأميركي.
وأضاف أن هذه العملية تحمل عدة آثار سلبية، حيث يطلب من الموزعين دفع الفواتير بالدولار، في حين يحصلون على دفعاتهم من المستفيدين بالليرة التركية، مما يمكن أن يسبب مشكلات تتعلق بسعر الصرف وتقلبات العملة.
وأشار إلى أن الموزعين يتحملون مخاطر تقلبات أسعار الصرف، ممّا قد يؤثر على أرباحهم وقدرتهم على تقديم خدمات عالية الجودة، كما يؤدي إجبارهم على استخدام بنك معين إلى تعقيدات إدارية وإجراءات إضافية يمكن أن تزيد من كلفة التشغيل.
آثار الاحتكار
ويواجه سكان إدلب اليوم ارتفاعاً في أسعار الإنترنت وتراجعاً في جودته على عكس ما كان عليه الحال قبل عام 2019، وهو ما أكّدته شهادات عدة مدنيين.
يقول شاب مهجر من مدينة معرة النعمان إلى مدينة إدلب، إن كلفة أسوأ باقة إنترنت منزلية يمكن الحصول عليها، هي 1 ميغا بايت بسعر "5 دولار أميركي" ما يعادل 180 ليرة تركية شهرية، وهي فعلياً غالية الثمن مقارنة بالسنوات الماضية.
وأشار إلى أن هذا الارتفاع وقلة الجودة أثّر بشكل كبير على طلاب المنطقة، الذين يعتمدون بشكل كبير على الإنترنت للدراسة، لافتاً إلى أن ظاهرة العروض التي كانت تتسم بها شبكات الإنترنت المتعددة غابت بشكل نهائي منذ سنوات، والتي لعبت دوراً مهماً في ذاك الوقت على خلق روح المنافسة بين الموزعين -أصحاب الشبكات- وطرح أسعار رخيصة.
اقرأ أيضا: الاتصالات والإنترنت في إدلب قطاع حيوي يهدده الاحتكار.. الشركات والخدمات والأسعار
الحلول
وعلى إثر ما سبق، طرح الخبير الاقتصادي "محمد حج بكور" حلولاً عدّة لمشكلة ارتفاع أسعار الإنترنت وتدهور جودته في إدلب، حيث قدم في حديثه لموقع تلفزيون سوريا اقتراحات عديدة تهدف إلى تحسين واقع الاتصالات في إدلب، كان أبرزها:
- أولاً، شدّد الفيصل على أهمية تشجيع المنافسة في قطاع الإنترنت من خلال تشجيع دخول مزودي خدمات جُدد وتوفير بيئة تنافسية صحية، واقتصار عمل المؤسسة على تنظيم سير العمل وحل الخلافات إن وقعت ومساعدتهم في أثناء الطلب.
- ثانياً، دعا الفيصل إلى تحسين البنية التحتية للإنترنت في المنطقة، بالتعاون مع الجهات المانحة، بهدف تقديم أحدث وسائل الإنترنت وأكثرها سرعة وانتشاراً وأقلها ثمناً، باعتبار أن الإنترنت بات وسيلة أساسية في كل مجالات الحياة وخاصّة التجارية.
- كما حثّ المحلل الاقتصادي على تشجيع الابتكار في قطاع الإنترنت وتوفير الدعم للشركات الناشئة والمبتكرة، وعدم الوقوف أمامهم، الأمر الذي يسهم في تحسين جودة الخدمة وتوفير خدمات مبتكرة وتنافسية.
- وطالب الفيصل في ختام حديثه بضرورة إجراء إصلاحات عاجلة في سياسات "هيئة تحرير الشام" ومؤسسة الاتصالات، من أجل تحقيق توازن بين تنظيم قطاع الإنترنت وتوفير بيئة تجارية تنافسية في المنطقة.
وتسيطر حكومة الإنقاذ التي تتألف من 11 وزارة، على مناطق محافظة إدلب وريف حماة الشمالي، بالإضافة إلى جزء من ريف حلب الغربي، والتي باتت تُعرف بـ"منطقة إدلب"، على جوانب عدّة من الخدمات الحياتية والإدارية في المنطقة، بالمقابل، تمارس "هيئة تحرير الشام" سيطرتها على المناطق بشكل غير مباشر، سواء اقتصادياً أو خدمياً، وسط اتهامات من السكان بتورط "الهيئة" في عدد من المشاريع التي اعتُبرت معظمها وفقاً للسكان بأنها تفتقر إلى الشفافية وتحمل طابعاً احتكارياً.